كتاب عربي 21

ملك يسود ولا "يحكم"

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في وقت يضرب فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخماسا في أسداس لفك شيفرة البرلمان المشتت الذي انتخبه الفرنسيون، أسابيع فقط من "تجديدهم" الثقة فيه رئيسا لولاية ثانية، لم يجد مجلس الدولة الفرنسي، أعلى محكمة إدارية في البلاد، من موضوع يستحق الاهتمام غير تأييد حكم أصدرته محكمة غرونوبل بحظر ارتداء "البوركيني"، وهو لباس لا يختلف في شيء عن لباس الغوص، لولا أن ارتداءه صار ملتصقا بالنساء المسلمات الراغبات في التمتع بالسباحة والعوم.

يأتي هذا بعد أن أصدرت بلدية مدينة غرونوبل قرارا يسمح بارتداء "لباس السباحة الإسلامي" في المسابح العامة، ويفتح المجال أيضا للنساء الراغبات في السباحة بصدر مكشوف في إطار المساواة بين الجنسين، وهي القضية التي كان أشار الرئيس ماكرون أنها تشكل أولوية الأولويات في فترة ولايته الثانية الممتدة لخمس سنين.. سعي للمساواة لم يمنع الرئيس من الاحتفاظ بأعضاء حكومة تتوالى شكاوى الاغتصابات ضدهم، لا فرق في ذلك بين وزراء ذكور أو وزيرات.

هذه فرنسا التي ضيعت كثيرا من الجهد والوقت والسلم المجتمعي في نقاشات بعيدة عن صلب اهتمامات الفرنسيين، بعد أن غذّاها دخول لاعب جديد للساحة السياسية منذ أشهر، باسم حزب "الاسترداد" ووجهه الإعلامي الأبرز إيريك زمور، الذي انتهى به الأمر مهزوما في الرئاسيات وفي التشريعيات، شأنه شأن حزبه الذي لم يحصل على أي مقعد في البرلمان.

لقد مثلت الانتخابات التشريعية الأخيرة بفرنسا بالفعل دورا ثالثا للرئاسيات، ومنحت الفرنسيين فرصة مواتية للتصويت الاختياري لا الإجباري. التخويف من صعود اليمين المتطرف وزعيمته مارين لوبن لم يكن هذه المرة عقبة أمام الاختيار "الحر" للفرنسيين، بل إن الأحزاب المتنافسة، وخصوصا تكتل "معا" المساند للرئيس، لم تجد أي غضاضة أو حرج من ترك الحرية لناخبيها لاختيار من يرونه الأنسب في الدوائر التي انهزم فيها مرشحوها في الدور الأول، ما أفقد اليسار كثيرا من المقاعد لفائدة التجمع الوطني اليميني.

هكذا أظهرت النتائج، لأول مرة في نظام الجمهورية الخامسة، صورة واضحة عن موازين القوى الحقيقية للطبقة السياسية للبلاد. فقدَ تكتل "معا" الرئاسي الأغلبية، وفشل جان لوك ميلونشون في رهانه في الحصول على أغلبية، رغم نجاحه الكبير في "توحيد" أشلاء اليسار ليكون أول تكتل معارض في البرلمان باسم الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد.

لكن الفائز الأكبر كان حزب التجمع الوطني، الذي فاز منفردا بتسعة وثمانين مقعدا مقابل ثمانية مقاعد في البرلمان المنقضية ولايته، ما مكنه من الظهور كأكبر حزب معارض في البلاد، وثاني أكبر حزب من حيث عدد المقاعد في البرلمان بعد حزب "النهضة" الرئاسي.

الفرنسيون الذي تجنّبوا خدش صورة وحياء فرنسا الديمقراطي على المستوى الخارجي، ومنحوا ماكرون "مرغمين" فرصة ثانية للقيادة، أثبتوا في التشريعيات التوجه اليميني الطاغي في البلاد، وإن غلفوا ذلك بغلاف المطالب الاجتماعية والاقتصادية بديلا "مرحليا" عن خطابات الهوية وغيرها.

يجد الرئيس الفرنسي اليوم نفسه أمام برلمان مشتت، لكنه قادر على تعطيل أية مشاريع قوانين يمكنه التقدم بها. فبعد فشل رهانه المبدئي على حزب الجمهوريين اليميني كطوق نجاة، يبدو أن ولاية الرئيس الثانية لن تكون نزهة في مواجهة برلمان استعاد المبادرة كسلطة مضادة، تجعل من الأحزاب الصغيرة حكما تسعى الكتل الأكبر لاستمالتها، وإن كان الجهد الأكبر في الإقناع موكولا للرئيس وحكومته المطالبة بتقديم الاستقالة من الآن.

رئيسة الحكومة المعينة حديثا، بعد أن اعتبرت نتائج الاقتراع "خطرا جديا" على البلاد، أعلنت عن رغبتها في الانسحاب، وهو ما رفضه ماكرون، فهو أعلم من غيره أن أي فراغ حكومي سيؤدي لأزمة سياسية حقيقية لحاجة الحكومة الجديدة لنيل ثقة البرلمان، ولأنه يعلم أن الثقة فيه وفي حكومته معدومة لدى الغالبية، فقد اختار العمل وفق حكومة أقلية رمى بحدود التعامل معها في ملعب قادة الأحزاب؛ في خطاب رفض فيه تشكيل حكومة وحدة وطنية لانتفاء أسباب النزول. ماكرون الذي غادر البلاد في أوج حملة الدور الثاني للانتخابات متوجها إلى أوكرانيا ودول الطوق هناك، لم يجد غير التهرب من مواجهة تعقيدات الشأن الداخلي إلى قمة أوروبية، جعلت البعض يتندر بمقولة "هروب الملك" من مواجهة الشعب، ففرنسا الجمهورية لا تزال في أعماقها متمسكة بالتقاليد والتراث الملكيين.

لأجل كل ما سبق، سيتحول ماكرون من حاكم "مطلق" إلى ملك يسود ولا يجد للحكم سبيلا غير المفاوضات والتسويات البرلمانية، والعمل بـ"القطعة" قانونا بقانون.

تنذر نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية بدخول البلاد في دائرة عدم الاستقرار السياسي، فبالإضافة إلى أن البرلمان سيستعيد قدرته على النقاش والتأثير في التوجهات الحكومية، وهو المتكون من تكتلات سياسية متناقضة لا يمكن الجمع بين توجهاتها وبرامجها، فإن الطبقة السياسية مجتمعة قد تواجه حراكا في الشارع يستلهم أو يستمر على هدى الحركات الاحتجاجية التي شهدتها فرنسا طوال فترة الولاية الأولى للرئيس إيمانويل ماكرون، التي لم ينقذه منها غير قانون الطوارئ الصحية المرتبط بجائحة كورونا.

نسبة الامتناع عن التصويت الذي تجاور نصف الكتلة الناخبة، وصعوبة الجمع بين التناقضات في التشكيل البرلماني، يفتح المجال واسعا لتحول قبة البرلمان إلى ساحة سجالات "عقيمة"، لن يخفف من وطأتها تأكيد مختلف الفرقاء على انتهاج المعارضة "المسؤولة"، لتفادي تحول البرلمان لسيرك سياسي. ولأن فرنسا تنظر على الدوام للخلف سبيلا للتقدم خطوة إلى الأمام، لا يستبعد حتى الآن أن يطل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي برأسه، وهو المتحكم من خلف الستار في توجهات حزب الجمهوريين، وفق تسويات قضائية تسقط عنه التهم التي تلاحقه مقابل تحالف ممكن بين حزبه وحزب الرئيس. الجمهوريون لهم في الأصل مطامح كبيرة في الاستوزار، بعد سنوات قحط ذاقوا فيها مرارة الحرمان ومناورات الخصوم واستئساد "الماكرونية" وسعيها لتحويلهم لحزب هامشي، كانت نتيجة مرشحتهم للانتخابات الرئاسية الأخيرة تجسيدا حقيقيا له، قبل قبلة الحياة التي تلقوها في التشريعيات.

لقد جربت فرنسا تجربة "التعايش"، وهو مصطلح درجوا على إطلاقه على فترات عرفت وجود رئيس وأغلبية معارضة في البرلمان، ثلاث مرات. الصورة اليوم أكثر تعقيدا، لغياب حلفاء طبيعيين في البرلمان بشكل يفتح المجال لانتخابات سابقة للأوان، قد توضح مسارا اختارت فيه فرنسا التوجه إلى اليمين بسرعة أقوى مما كان متوقعا، ليبقى الموعد الأكبر بعد خمس سنوات، حيث يبدو جوردان بارديلا مرشحا قويا لدخول الإليزيه، ما لم يكن لمارين لوبن رأي آخر قد يؤدي لانقسام الحزب وتشتته إلى فِرق ونِحل، قد تعيق وصوله للرئاسة وحكم دولة الأنوار. وفي انتظار ذلك، تستمر محاكم التفتيش في البحث عن طول وعرض لباس المسلمات، إلهاء للبقية الباقية من حراس الهوية ونساك معبد الحريات.
التعليقات (1)
تجارة الحرية
الجمعة، 24-06-2022 11:24 م
فرنسا أصبحت أيقونة النفاق على لسان الرئيس الروسي وغيره ، الرسومات فقط ضد المسلمين هي حرية تعبيرالباقي لا! حرية المرأة ققط في التعرية لكن أن تلبس شيء تختاره هي فلا!