كتب

هل ثبتت تاريخيا رواية الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر؟

الأوصاف التي نجدها في التوراة العبرية للملك داود وإمبراطورية سليمان، وفتوحاتها، وقصورهما فيها مبالغات
الأوصاف التي نجدها في التوراة العبرية للملك داود وإمبراطورية سليمان، وفتوحاتها، وقصورهما فيها مبالغات
التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها

منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته، بدأ جيل جديد من علماء الآثار باستخدامَ وتطوير أسلوب مستحدث في التنقيب؛ وهو أسلوب المسح الميداني الكامل لمناطق جغرافية معينة (Regional Survey)، بدلاً من الحفر في مواقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها. في هذا السياق، جهّزت جامعة "تل أبيب" فِرَق تنقيب متنوعة مزودة بعلماء من شتى الاختصاصات لمساعدة علم الآثار. مسح أفرادها كل متر من مناطق الهضاب الفلسطينية، سيراً على الأقدام.

عملت تلك الفرق، خلال العشرين سنة الماضية، على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورةً في علم آثار فلسطين. وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها، تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية عن أصول "إسرائيل" في كنعان/ فلسطين، وعن نشوء ما يدعى بـ"المملكة الموحدة"، ومملكتي السامرة ويهوذا.

من هنا؛ تأتي أهمية كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها: رؤية جديدة لإسرائيل القديمة ونصوصها المقدسة على ضوء اكتشاف علم الآثار"، لرائدين من رواد علم الآثار، الأول، رئيس قسم علم الآثار في جامعة تل أبيب، إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstein)، والثاني، نيل إشر سيلبرمان (Neil Asher Silberman)، ترجمة: سعد رستم، صدر عن دار صفحات للنشر والتوزيع ــ دمشق (ط6، 2022).

فالكتاب "دراسة نقدية مفصلة للروايات والقصص التوراتية، فالأدلة الحاسمة التي تُفيدها الحفريات والتنقيبات الآثارية في كل من فلسطين، ومصر، والأردن، ولبنان، تقترح أن العديد من القصص الأكثر شهرة في التوراة العبرية ـ رحلات الآباء: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، الخروج الجماعي من مصر، غزو بني إسرائيل بقيادة يشوع بن نون لأرض كنعان، الحكم الملكي المتحد لداود وفتوحاته في كنعان، وإمبراطورية سليمان الواسعة ـ إنما تعكس ـ في الواقع عالم المؤلفين التالين للتوراة بشكلها النهائي، بدلاً من عسكها لحقائق تاريخية أصيلة ودقيقة".
 
يمكن تلخيص الاستنتاجات التي توصل لها المؤلفان كالتالي:

ـ ليس هناك دليل علمي على الوجود الحقيقي لشخصيات مثل إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، فـ"البحث عن الآباء التاريخيين بقي بلا نتيجة، وأثبت ـ في النهاية ـ إخفاقه؛ حيث لم تزودنا أي من الفترات الزمنية ـ المقترحة توراتياً ـ بخلفية مُتوافقة ـ بنحو جيد ـ مع القصص التوراتية".
 
ـ يطرح الكاتبان سؤالاً في غاية الأهمية، وهو، هل تمثل رواية الخروج الجماعي الشامل لبني إسرائيل من مصر تاريخاً واقعيًّا؟ هل يمكن لعلم الآثار أن يساعدنا في عملية التحديد الدقيق للعصر الذي قام به زعيم كبير اسمه موسى بتعبئة شعبه، والسير به نحو عملية التحرر العظيمة تلك؟ هل بالإمكان أن نتتبع المسيرة والطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في خروجهم الجماعي (من مصر)، وطريق تيههم في الصحراء؟ بل؛ هل يمكننا أن نثبت (أثارياً) أن حادثة الخروج الجماعي ـ كما تصفها التوراة ـ حدثت من الأصل أساساً؟ الأرجح ـ في نظرهما ـ أن الأدلة الأثارية لا تؤيد رواية الخروج الجماعي الشامل لبني إسرائيل من مصر، بالشكل والأعداد والطريقة التي تذكرها الرواية التوراتية العبرية، بل حتى لا يوجد دليل علمى على وجود شخصية موسى الموصوفة في التوراة العبرية، ولا على كل قصة التجول في البرية، والعجل الذهبي، والصعود إلى سيناء.

ـ ولكن؛ إذا كان خروج بني إسرائيل الجماعي لم يحدث، فماذا عن غزو كنعان / فلسطين نفسه؟ يطرح الكاتبين هنا إشكالية كبيرة؛ إذ كيف أمكن لجيش ممزق، يرتحل أفراده مع نساء وأطفال وشيوخ، قد قدم ـ بعد عقود من التية في الصحراء ـ أن يرتقي لإمكانية القيام بغزو فعال؟ كيف أمكن لمثل هذا الرعاع الفوضوي غير المنظم أن يتغلب على القلاع العظيمة لكنعان، وجيوشها المحترفة، وفيالق عرباتها المدربة جيداً؟ يكشف علم الآثار ـ بنحو مدهش ـ أن يشوع بن نون لم يقم بحملة غزوات موحدة لفتح أرض كنعان، فقد تم انتاج تلك القصص لأغراض مختلفة، منها محاولة إيجاد الهوية الإسرائيلية الجامعة.

ـ وبذلك لم يترك الكتاب المقدس أي مجال للشك أو الإيهام حول الأصل الواحد لشعب إسرائيل، فكرة وجود عرق خاص باسم بني إسرائيل فكرة مخترعة في رأى الكاتبين. فأغلب الإسرائيليين لم يأتوا من خارج كنعان ـ بل ظهروا من داخلها ـ. وأغلب الذين شكلوا الإسرائيليين الأوائل كانوا أناساً محليين ـ، وبحسب الكاتبين، كان الإسرائيليون الأوائل ـ من سخرية السخريات ـ أنفسهم ـ أصلاً ـ كنعانيين. 

ـ هل داود وسليمان وجدا؟ يحاول الكاتبان إيهام القارئ أن داود وسليمان وجدا تاريخياً! وذلك بالمخالفة للمسوحات والمكتشفات الآثرية، ويعيدا طرح السؤال، هل كان وصف الكتاب المقدس العبري الشامل لانتصارات داود العسكرية، ولمشاريع سليمان العمرانية متسقاً ـ فعلاً ـ مع الأدلة الأثرية؟ على الأرجح ـ في نظرهما ـ أنهما كانا أقرب إلى رئيسي عشيرة منهما إلى ملكين بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولم يقوما بأي من الأعمال العظيمة المروية في التوراة العبرية، فلا داود فتح كنعان، ولا ما جاورها، ولم يقم بفتوحات أصلاً، بل كانت دولته ـ إن صح التعبير ـ مجموعة قرى جبلية منعزلة نائبة، لا وزن لها، ولا يُؤبه بها في منطقة التلال والمرتفعات الوسطى في أرض كنعان. كما أن سليمان لم يبن أي هيكل (معبد) هائل.
 
فالأوصاف التي نجدها في التوراة العبرية للملك داود وإمبراطورية سليمان، وفتوحاتها، وقصورهما كلها مبالغات لا أساس تاريخي علمي لها. أما القصور التي وجدت في التنقيبات الأثرية، ونُسبت إلى سليمان؛ فهي ـ الواقع ـ لملوك إسرائيل الفسقة المرتدونإلى الوثنية من بيت عمري. 

ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للعالم الصهيوني، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه من بعض الجوانب. ولكن من وجهة نظري، فقد احتوى بناء فنكلشتاين التاريخي لبدايات "إسرائيل"، ومحاولة تثبيت وجود ملوك إسرائيل، على أخطاء هائلة، والناتجة عن تأثره البالغ بالكتاب المقدس. وهذا يعني بالطبع أن نظرية فنكلشتاين في هذا الإطار ليست أكثر من تلفيق لماض متخيل.

من المناسب أن نختم، بما يقوله المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام، عن تاريخ البحث عن "إسرائيل" القديمة: الاستعجال في تفسير معلومات يفترض أن تكون موضوعية وخارجة عن التوراة، على أساس افتراضات مستمدة من التوراة، هو شيء يتسم به تاريخ البحث عن "إسرائيل" القديمة.

التعليقات (3)
أحمد علي بايزيد
الثلاثاء، 17-05-2022 02:54 م
الملاحظة الوحيدة و التي هي نموذج يمكن تعميمه على كل أبواب و "نوافذ" نظرية فنكلشتاين و رهطه في هذا الإطار إذ هي ليست إلا مجرد تلفيقات لماض كاذب و متخيل , و لكن ثمة "العون التاريخي " الذي تكفل به ورثة فرعون الغريق و جيشه...إذ تم مسح و إخفاء منهجي لجميع معالم و آثار و دلائل "واقعة غرق فرعون مصر"... و لكن ورثة فرعون الغريق و جيشه و لسبب معلوم بديهيا ما كانوا سيتعايشون تاريخيا مع هذه "الكارثة الدينية" إذ تضرب في الصميم "ألوهيتهم" و أنهم أبناء الشمس... شكرا أعرابي21 على هذه "المقالة" و إن كنت أشم من تفاصيلها قليل من الموضوعية العلمية. -
نسيت إسمي
الثلاثاء، 17-05-2022 01:00 م
'' الهند.. تكوين العالم الهندي ـ الإسلامي في 3 أجزاء '' صدر عن قطاع المكتبة الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة كتاب "الهند.. تكوين العالم الهندي ـ الإسلامي" من تأليف أندريه وينك، وترجمة عبدالإله الملّاح، وذلك في ثلاثة أجزاء موسوعية يتناول الأول منها الهند في مطالع العصور الوسطى والتوسع الإسلامي (من القرن 7ـ11م)، ويتحدث الجزء الثاني عن سلاطين الدولة المملوكية والفتح الإسلامي (من القرن 11ــ13م)، فيما يتناول الجزء الثالث موضوع المجتمع الهندي ـ الإسلامي (خلال الفترة من 14ـ15م). ويقدّم الجزء الأول من الكتاب تحليلا لعملية التحول الكبيرة وطويلة الأمد التي رافقت أسلمة المناطق التي أسماها العرب "الهند"، أي الهند وأجزاء كبيرة من المناطق النائية الداخلة في نطاقها. حيث كان لتوسع الإسلام في الهند منذ القرن السابع وحتى القرن الحادي عشر للميلاد، أثر تجاري واسع النطاق، وكانت هيمنة تجارة الشرق الأوسط الإسلامي في مطلع الحقبة الوسيطة قد استمدت من موقعها المتوسط ما بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، مما جعلها واسطة التبادل بينهما. كما أنّ توسّع الإسلام في تجارة البر والبحر قد أثر عميقا في تشكل الدول الإقليمية في شبه القارة الهندية، شأنه في ذلك شأن التوسع الصيني في عهد أسرتي التانغ والسونغ. وكان نمو اقتصاد عالمي وتطوره في المحيط الهندي وحوله ـ حيث الهند في وسطه والشرق الأوسط والصين قطباه الديناميكيان ـ قد حدث بفضل تكامل اقتصادي واجتماعي وثقافي في أنماط آخذة بالاتساع والتعقيد تحت رعاية الإسلام. ويعالج الجزء الثاني من الكتاب الفتح الإسلامي في الحقبة ما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر الميلادي، حيث يقدم تحليلا للأشكال التنظيمية المستجدة في الدولة الهندية المسلمة في هذه القرون، وأنماط الهجرة التي نشأت ما بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، والتطورات البحرية في المحيط الهندي والتحول الديني، كذلك فإن المنظور الديني المقارن والتاريخي العالمي المبين هنا على أساس التفاعل الدينامي بين المجتمعات البدوية والزراعية جدير بأن يثير الاهتمام لدى جميع المؤرخين المعنيين بآسيا في هذه الحقبة. ويمضي الجزء الثالث للدراسة مصطحباً القارئ في رحلة تبدأ من غزوات المغول إلى حقبة العصور الوسطى وبواكير العصور الحديثة في أواخر القرن الخامس عشر ومطالع القرن السادس عشر، ويخترق هنا مجالا جديدا بتركيز الانتباه على دور الجغرافيا، وبالأخص التفاعل بين المجتمعات البدوية والمستقرة والبحرية. ويقدم على هذا النحو صورة لعالم الهند والمحيط الهندي عشية اكتشاف البرتغاليين الطرق البحرية، وهو عالم من دون معايير ثابتة، ويتسم بدوام التقلبات الجيوفيزيائية، والمدينية البدائية والمضطربة، ونخب سريعة الزوال ومتنقلة ذات أصول بدوية، وجماعات تجارية في الشتات، وطبقة فلاحية عرضة للجوع والأمراض، كانت حياتها مقامرة بانتظار موسم الأمطار.
ابراهيم
الثلاثاء، 17-05-2022 11:49 ص
من الدراسات الحادة والرزينة لسيد محمود القمني وفراس سواح نخلص الى نتيجة متطابقة مع دراسة العالمين اليهودييين في جامعة تل أبيب ، فلا وجود تاريخي لابرام ولا لداوود وسليمان ، وهولاء الشخصيات من ابتداع القصاصين الشعبيين في العصور الغابرة ، فلا نزوح جماعي ولا هروب من مصر كما تزعم التوراة وتحدد العدد ب600 ألف فروا من مصر أمام الفراعنة وهي تختلف جذريًا عن الشخصيات الواردة في القرآن الكريم