كتاب عربي 21

بئست الجمهورية الجديدة!.. المواطنة من جديد (100)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
منذ أن أعلن المنقلب الذي قاد نظام الثالث من تموز/ يوليو عن "الجمهورية الجديدة" مطلع العام الماضي، وهو يتحدث عن إنجازه الكبير الزائف الذي لا يصب في مصلحة معاش الناس حول العاصمة الإدارية الجديدة. يتساءل الناس عن مواصفات تلك الجمهورية الجديدة وأحوال أُناسها من أهل مصر، وفي حقيقة الأمر أن هذا الخطاب حول هذا المعنى إنما يأتي من نظام مستبد فاشي فاشل وفاسد، بات يغطي على كل سوءاته من خلال تلك الألفاظ الرنانة، يحاول أن يهول من صنعه ضمن فائض كلام، فنرى في كل وقت وحين يبشر الناس بإنشاءات جديدة ومزيد من الكباري، وأشياء أخرى مما يعتبرها إنجازات كبرى، وهي في حقيقة الأمر تعبر عن مشروعات غير ذات جدوى لا تستند لدراسات جدوى كما يفخر المنقلب بذلك، ولا تسهم في تحقيق نقلة نوعية لمعاش الناس وسد احتياجاتهم وضروراتهم.

ثم وصلنا في آخر محطة من خطاب للمنقلب (خلال زيارته لتوشكى- جنوب مصر) لم يتحدث فيه مع الناس إلا عن جملة من الأزمات، ويحاول مبررا هذا الفشل من كل طريق، فهو تارة يعود إلى زيادة سكانية وتارة أخرى يعود لما حدث في كانون الثاني/ يناير 2011، ويصفها بالأحداث، متجاهلا أنها ثورة شعبية كبرى مثلت أعظم حدث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.

حقيقة الأمر أن الحديث عن الجمهورية الجديدة صاحبه في ذات الخطاب الحديث عن أزمات كبيرة، فهل الجديد في هذه الجمهورية هو تلك الأزمات الطاحنة التي عبر عنها خاصة مع زيادة التضخم والتعويم الثاني للدولار والذي ستتبعه تعويمات أخرى، كما يروج لذلك إعلامهم ومخابراتهم، أدت في نهاية المطاف إلى زيادة أسعار ورفع ما يسمى بالدعم ضمن استراتيجية كبرى للمزيد من الإفقار والتجويع لأهل مصر، ثم يطالبهم من بعد ذلك بالصمود والتحمل بينما يقوم بإنشاءات لا أثر لها في حياة الناس، مفتخرا بذلك (أيوه ببني وهبني، هي القصور دي باسمي دي باسم مصر.. مصر) وكذلك في ديون تراكمت حتى وصل الدين الخارجي إلى حد تضاعفت فيه تلك الأعباء التي تتعلق بتلك الديون، بحيث وصل الأمر إلى درجة خطيرة تعبر عنها بيانات رسمية ودراسات أخرى اقتصادية، حتى طُرح في الآونة الأخيرة هل تعلن مصر إفلاسها؟
التبشير بالجمهورية الجديدة ترافق معه خطاب يتعلق بالجمهورية المفلسة، وبدت ماكينة التبريرات التي يطلقها ذلك النظام ليست إلا أسطوانة مشروخة يعدد فيها الأسباب الزائفة والمختلقة ولا يعترف أبدا بفشله، بل يحيل ذلك الفشل من كل طريق إلى غيره، ويحمّل عموم الناس تبعاته وآثاره

وبغض النظر عن هذا التساؤل، فإن التبشير بالجمهورية الجديدة ترافق معه خطاب يتعلق بالجمهورية المفلسة، وبدت ماكينة التبريرات التي يطلقها ذلك النظام ليست إلا أسطوانة مشروخة يعدد فيها الأسباب الزائفة والمختلقة ولا يعترف أبدا بفشله، بل يحيل ذلك الفشل من كل طريق إلى غيره، ويحمّل عموم الناس تبعاته وآثاره.

الجمهورية الجديدة جمهورية مَدِينة على وشك الإفلاس؛ فقد رصد تقرير بموقع "Middle East Eye" أن ديون مصر بلغت 392 مليار دولار بنهاية العام المالي 2020-2021، ويشمل ذلك 137 مليار دولار من الديون الخارجية، وهو أعلى بأربع مرات مما كان عليه عام 2010 (33.7 مليار دولار)، ويشمل أيضا ديونا داخلية بقيمة 255 مليار دولار -وفقا للبنك المركزي المصري- أي ما يقرب من ضعف الدين المحلي عام 2010. فقد زاد الدين الخارجي المصري منذ أن تولى المنقلب السلطة عام 2014، فبلغ 46.5 مليار دولار عام 2013، ثم انخفض إلى 41.7 مليار دولار عام 2014، قبل أن يرتفع في السنوات التالية، ليصل إلى 84.7 مليار دولار عام 2016، ثم إلى 100 مليار دولار عام 2018، و115 مليار دولار عام 2019.

في الوقت نفسه نشرت مجلة "إيكونوميست" تقريرا عن تدخل الجيش المصري في اقتصاد الدولة، بعنوان "درب التبانة الحامض، مصر ليست مفتوحة للتجارة"، قالت فيه إنه وبعيدا عن الحديث الداعم للاستثمار فالجيش "يهبش" ما يريد، مشيرة إلى أن التعامل مع شركة جهينة يُعد ابتزازاً على غرار ما تفعله المافيا (أسلوب المافيا). مثل هذه الأزمات جعلت مصر -كما ذهب إلى ذلك بعض الخبراء الاقتصاديين- تعاني من أزمة سيولة دولارية تضغط بقوة على الجنيه المصري واحتياطي البلاد من النقد الأجنبي الذي تراجع بشدة في شهر آذار/ مارس الماضي، ودفع العديد من الهيئات والمؤسسات الاقتصادية للحديث عن إفلاس مصر.
الإفلاس الحقيقي والذي وصل إلى أقصى درجاته هو ما يمكن تسميته بـ"الإفلاس الأمني". ففي صورة متكررة من التورط في قتل الناس ثم البحث بعد ذلك عن مبررات ومخارج وحيل في محاولة لنفي التهمة عن تلك الأجهزة الأمنية

إلا أن الإفلاس الحقيقي والذي وصل إلى أقصى درجاته هو ما يمكن تسميته بـ"الإفلاس الأمني". ففي صورة متكررة من التورط في قتل الناس ثم البحث بعد ذلك عن مبررات ومخارج وحيل في محاولة لنفي التهمة عن تلك الأجهزة الأمنية، صار هذا طقسا يشير إلى حال أهل مصر بعدما اعتبرهم النظام بأنهم بالجملة مجرمون محتملون؛ بينما هؤلاء الفاسدون يمرحون ويسرحون في المجتمع ويمارسون كل أنواع الفساد والإفساد، وبات الكذب والافتراء من هذا النظام سياسة ممنهجة، وما سياسة الأجهزة الأمنية والنيابة العامة حول "قضية أيمن هدهود" إلا مثالا صارخا يعبر فيه عن حال المواطن والإنسان في الجمهورية الجديدة المزعومة والمزمع تدشينها. بل إنه حينما أخرج بعض المسجونين تحت ما أسماه العفو الرئاسي وهو على غير الحقيقة من ذاك (فهذا كما وصفه البعض "جهالة واستعباط لصناعة صورة مزيفة للنظام")، فإنه على الرغم من عدم إدانتهم في أي قضية فقد قضى بعضهم ما يزيد عن خمس سنوات في إطار عمليات التجديد المستمرة والتدوير التي تقوم بها النيابة العامة.

كما كان النظام حريصا على أن يستبدل هؤلاء بغيرهم فتم إلقاء القبض على عدد من المواطنين (فرقة ظرفاء الغلابة)، لنشرهم فيديوهات لأغانٍ تنتقد غلاء الأسعار، بالإضافة لاعتقال ومطاردة سيدتين مصريتين لتجرؤهما على كشف الفساد الذي عشش وانتشر في أركان ماسبيرو وفي أنحاء الدولة.

كما استغل عملية الإفراج عن عدد من الأبرياء الذين تجاوزوا فترات الحبس الاحتياطي المطولة، وأخرج بينهم قتلة من أجهزة الأمن، وهم المدانون في قتل مواطن مصري مسيحي الديانة، وذلك في إطار تحقيقه لاستراتيجيته الأمنية القائمة على "القتل من دون حساب أو عقاب".

الجمهورية الجديدة بعاصمتها الإدارية تزف إلينا ولعاً بأكبر سارية علم، وأكبر كنيسة وأكبر مسجد، وأكبر برج، إلا أن ذلك الخطاب الفاضح الذي ارتبط بوزير للأوقاف لم يحسن في فترة توليه منصبه إلا أن يثبت للجميع أنه كما يطلق عليه الكثيرون "الوزير الأمنجي، والمخبر"، يدير المسألة بضوء أخضر من نظامه ليقيد حياة الناس العبادية في الشهر الكريم.
ما هي القيمة لأكبر مسجد والنظام يقوم بكل عمل يحارب فيه المصلين في طقوسهم وشعائرهم العبادية تحت دعوى تنظيم ذلك، حتى صار مفهوم المنع هو الأساس في إصداره هذه القرارات اليومية من منع التهجد، ومنع الاعتكاف في المساجد بزعم أنها ليست فنادق، ومنع اصطحاب الأطفال في الأعياد، ومنع التكبيرات إلا لسبع دقائق، ومنع الصلاة في الساحات

فما هي القيمة لأكبر مسجد والنظام يقوم بكل عمل يحارب فيه المصلين في طقوسهم وشعائرهم العبادية تحت دعوى تنظيم ذلك، حتى صار مفهوم المنع هو الأساس في إصداره هذه القرارات اليومية من منع التهجد، ومنع الاعتكاف في المساجد بزعم أنها ليست فنادق، ومنع اصطحاب الأطفال في الأعياد، ومنع التكبيرات إلا لسبع دقائق، ومنع الصلاة في الساحات، معتديا على الشعائر العبادية لعموم الناس في هذا الشهر الفضيل، تارة بدعوى التنظيم، وتارة أخرى بدعوى كورونا بينما تشهد المحافل الأخرى اكتظاظا وممارسة اعتيادية، سواء في المولات التجارية أو في الحفلات الغنائية، بل إنه يدق الإسفين في سياق مقارنة المواطنين بين احتفالات الكنائس المفتوحة والمساجد المغلقة، فيثير بذلك الفتنة في ربوع الوطن ضمن سياسات فاجرة غير مسؤولة؟

فهل هذه هي الجمهورية الجديدة الموعودة التي يزداد فيها الناس فقرا، ويطارد الناس فيها ويفقدون أمنهم وأمانهم، ويعتقلون لأسباب تافهة يحاول فيها النظام أن يستخدم عصاه الغليظة مكمما للأفواه، وبناء مزيد من السجون (أكبر مجمع للسجون)؟ فإن كانت تلك هي جمهوريتك الجديدة، فبئست الجمهورية إن ضاع الوطن وتنازلت فيه عن مقدراته ونيله وموارده، وبئست الجمهورية تلك التي تبشرنا بها فاقدا فيها المواطن أمنه وكرامته، وتتركه فريسة لغول غلاء الأسعار، وبلاد على شفا إفلاس، صار المواطن فيها وبأولاده وأحفاده مديونا لا يأمن قابل أيامه.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)