آراء ثقافية

في ذكرى مصطفى محمود: أدَبُ الرِّحلة..الغابةُ والغُرفة!

صدرت له خمسة كتب في أدب الرحلات
صدرت له خمسة كتب في أدب الرحلات
مائةُ عامٍ مرَّت على ميلادِ ذلك الذي ملأَ الدُّنيا وشَغَلَ الناسَ في مصر. نعَم. اتَّفِق معه أو اختلِفْ، أحبِبهُ أو أبغِضْهُ، لا يغيّر ذلك من الوصفِ الذي لم ينطبِق بنفس الدرَجةِ إلا على قَلِيلٍ ممّن راجَت كتبُهم في القرن الأخير في مصر، وفي الصفِّ الأوَّلِ منهم مصطفى محمود.

ولئلّا نُنفِقَ وقتًا طويلًا في اجترارِ ما هو موجودٌ في عشرات المقالات التعريفيّةِ بالرَّجُل، سننفَذُ مباشَرةً إلى أحد الحقول التي توزَّعَت عليها كتاباتُه، وقد اخترتُ أدبَ الرحلةِ لأنّه يضعُ الكاتبَ في مواجهةٍ مع الآخَر الأجنبيِّ، ويزرعُه مؤقّتًا في بيئةٍ غير بيئتِه، ومن شأن هذه المواجهةِ أن تُظهِرَنا على أفكارِ الكاتبِ وما فيها من اتِّساقٍ أو تهوُّشٍ، وعلى همومِه ورؤيتِه للذّاتِ والعالَم والآخَر، فضلًا عن كونِه حقلًا يتّسِمُ عادةً بقَدرٍ من المباشَرَةِ أكثرَ ممّا في فنون السَّرد التخييليّةِ كالقصّة والمسرحيّةِ مثَلًا، ما يُتيحُ لنا أن نقرأَ ذِهنَ الرَّجُلِ دُونَ موارَبَة.

صدرَت له خمسة كتُبٍ في هذا الحَقل، هي (الغابة) عام 1963، ووثَّقَ فيه لرحلاتِه في تنجانيقا وزنجبار وكينيا وجنوب السودان. وممّا يُحمَد له أنّه أعلنَ في المقدّمة أنّ محتوى الكتاب غيرُ مُستقىً بصورةٍ خالصةٍ من رحلاتِه الشخصيّة، وإنما هو قد أضافَ إلى مشاهداتِه من قراءاتِه في مَراجِع الأنثروبولوجيا، وإن كان يَعيبُ هذه الإضافاتِ افتقارُها إلى ضَبط المَراجِع بما ييسِّرُ على مَن يحاول الاستزادةَ أو التثبُّتَ أن يعودَ إليها.

و(مغامرةٌ في الصحراء) عام 1969 ويوثِّقُ لرحلتِه إلى (غدامس) على الحُدودِ بين ليبيا وتونس والجزائر، وانطباعاتِه عن أهلها من الطوارقِ والبربر. ثُمّ (حكاياتُ مُسافِر) عام 1971 عن أسفارِه إلى أوروبّا ولبنان وطرابلس الليبيّة. و(الطريقُ إلى الكعبة) في نفس العام عن رحلته لأداء فريضة الحجّ. وأخيرًا بعضُ فُصولِ كتابِه (مِن أمريكا إلى الشاطئ الآخَر) عام 1982 عن رحلاتٍ إلى أمريكا وإنجلترا ويوغوسلافيا ورودس باليونان.

ومن الواضح أنه قد بدأ رحلاتِه بشغفٍ إلى ما هو ضِدّ حياة المدنيّةِ مُطلَقًا، وقد عبَّرَ عن ذلك بقولِه في الفصل الأول من (الغابة) "كنتُ أشعرُ أني مريضٌ بداءٍ مُزمنٍ اسمُه المدينة. إدمانٌ لا شفاءَ منه على اصطناع كلّ شيء.." إلى قولِه: "وكان أملي الوحيدُ في الشِّفاءِ هو الغابة. أرتمي في حضنها ولا أعودُ أصطنِع شيئا. لا أتكلّف الأدبَ، وإنما أدَعُ ذلك الريفيَّ الخشِنَ الذي يَسكُنُني يتكلم على سجيّتِه كما يفعلُ وحشُ الغابِ حينما يعوي في الصباح دون أن يبحثَ لعُوائِه عن ديباجة."

ورغمَ جاذبيّة الصُّورةِ فإنّا نَراهُ غيرَ موفَّقٍ هنا تمامًا، إذ أغفَلَ أنّ حياةَ الرِّيفِ التي هو آتٍ منها حياةٌ متحضّرةٌ منظَّمةٌ بالنسبةِ لحياةِ الغابة، وإن كانت أقلَّ تعقيدًا من حياة المدينة، بل إنّ الحضارةَ في مُجملِها بدأت زراعيَّةً مُرادِفةً للرِّيف.

ثَمَّ مَلمَحٌ يكادُ ينفرِد به (الغابة)، هو بحثُه المستمرُّ عمّا يَعودُ به إلى ثقافتِه العربيةِ المصريّةِ بمفرداتِها ومكوِّناتِها. يبدأ هنا بتسجيل أثَر اللغة العربيةِ في السواحِليَّة، ويتحسّر على توقُّف الأثَر العربيّ في الحاضر على اللغةِ، إذ إنّ كلَّ ما عداها إنـﮕليزيٌّ، مِن المَباني إلى نظامِ المُرور إلى السُّلطة، وحتى الوجود الهنديّ التابع للسُّلطة الإنـﮕليزية. فإذا ترَكنا اللغةَ وجدنا حواسَّهُ تتكلّمُ بالتشابُهاتِ التي تَلقاها بين مُفردات حياة القبائل الأفريقيّة والحياة المصريّة، فيُحدِّثُنا عن مَشرَبٍ مبنِيٍّ بالخَيزُرانِ عندَ جبلِ كليمنجارو، يتناولُ فيه السُّكارَى من الوطنيِّينَ بوظةً مصنوعةً من الموز المخمَّرِ أشارَ إليها باسمِ (بومبي)، ويقولُ: "ورائحةُ المكانِ كرائحةِ بُوظةِ الحللي عندنا." فإذا حدَّثَنا عن الدِّينِ المحلِّيِّ لقبيلةِ جيكويو (ماو ماو)، لا ينسى وهو يقدِّمُ لنا أسطورةَ الخَلقِ عندهم أن يقولَ إنها "حكايةٌ تُشبِهُ حكايةَ آدم." فإذا قارَبَ مقاومةَ القبيلةِ لمُستحدَثاتِ الحضارة الأوربية قالَ وهو يعودُ إلى ذكرياتِ حياتِه الريفيّة المصرية: "وكان يقاومُ الجرارات الميكانيكيةَ التي تحرثُ الأرضَ ويقِفُ في طريقِها معتقدًا أنها تفسد الأرض بتقليبِها. تمامًا كما كنّا نفعلُ حينما كنّا نرفض السمادَ الكيماويَّ خوفًا من إتلافِ المحصول."

وأرى أنَّ سرَّ هذا الانفرادِ هو رغبتُه في التوحُّد مع الأفارقة الأصليِّين ورؤية العالَم من منظورِهم، وقد أرادَ أن يَبسُطَ هذا التوحُّدَ إلى قارئه. ولعلّ في ذلك صدىً لحركة المَدّ الأفريقيّ الناصِرِيِّ في مصر رغمَ ما هو معروفٌ من موقفِ كاتبِنا السلبيِّ من سياساتِ (جمال عبد الناصر)، ونَجِدُ مصداقًا لهذا الصدى في امتداحِه الاشتراكيّةَ الفِطريّةَ التي تنتهِجُها بعض القبائل في حياتها الاقتصاديّة.

وملمحٌ آخَر في (الغابة) يتعلّق بمقاربتِه للحياة الاقتصاديّة قبل الاستعمارِ وبعدَه، فهو يَميلُ إلى اعتبارِها ملائمةً تمامًا لحياةِ الوطنيِّينَ وكافيةً بدرَجةٍ كبيرةٍ لحاجاتِهم قبلَ الاستعمار، وإلى اعتبارِ الاحتلال الأوربيِّ احتيالًا لسرقة مُقدَّراتِ تلك القبائل. ففي حديثِه عن عن قبائل الزاندي Zandeيقول: "كانوا يتبادلون عملةً بدائية هي الحديد، يستخرجونه ويستخلصونه من خاماته ويصهرونه ويشكلونه في أسلحة مختلفة، وكانت الصعوبات التي يعانونها في ذلك تجعل منه شيئًا نادرًا غاليًا مثل الذهب. ثم جاء الاستعمار وغمرَ الإنكليز الأسواقَ بالمصنوعات الحديدية. وأصبحَ الحديدُ خُردةً ملقاةً على الأرض في كلِّ مكان. وكانت نتيجة هذا التضخم الهائل في العملة الحديدية أن هبطَ سعرُها للتراب. وبالتالي أفلسَت الطبقاتُ الحاكمةُ (الأفونجارا) التي كانت تقتنيها." كما يقولُ: "لا يفهمُ الزاندي معنىً لأن يزرعوا محصولًا مثل القطن لا يأكلونه ولا يشربونه لمجرَّد أنه يُباع وله قيمة نقدية. وما حاجتُهم إلى النقد؟"

ويلاحَظُ أنه في الغابة والصحراء كان أكثرَ التحامًا برُوح الجماعات البشرية التي يلتقي بها، فنجدُه يكشف عن أثر التديُّن الشعبيّ في الحياة الاجتماعية، سواءٌ لدى قبائل أفريقية أو لدى طوارق غدامس، ويعلّق أهميةً خاصةً على انخفاض معدّلات الجريمة لدى الطوارق بفضل اعتقادِهم في بركة صحابيٍّ غير محدد الهوية يسمونه (سيدي البدري). ونَجِدُه يتحرّى التفسيرات الشعبيّة المزيَّفة لأسماء الأعلام folk etymology، فيروي تفسيرات السُّكّان لاسم (عين الفرَس) التي تستقي منها واحةُ غدامس، ولاسم (غدامس) نفسِه، ونرى في محض إيرادِه لتلك التفسيرات نافذةً لنا على عمق المكوِّن الإسلاميّ في الثقافة المحلّيّة، حيث تتفجّر العين تحت أقدام فرس الفاتح (عُقبة بن نافع).

أمّا في رحلاته الأوربّية فلا نَجِدُ أثَرًا لهذا الاقتراب الإنسانيّ، وإنما تتراوح تعليقاتُه بين الإعجاب بالطفرة الحضارية التي حققتها أوربا واستهجانِ تفسُّخ العلاقات الإنسانيّة وتراجُع القِيَم المجتمعيّة. والاستثناء الوحيد في الرحلات الأوربية هو الفصل الرابع (المسلمون في يوغوسلافيا) في (مِن أمريكا إلى الشاطئ الآخَر)، حيث يحدّثُنا عن تأثُّره بترتيل (سعادة سرنا) للقرآن وجماعة المستمِعِين إليها، وتحلُّقِ علماءِ الدِّين البوشناق حولَ أستاذ اللغة اللاتينية واليونانية العجوز (أحمد توزلتش) وحقيقةِ كَونِه يحفظَ القرآنَ عن ظهر قلبٍ رغمَ عدم إجادتِه العربية.

أمّا الملمح الذي يكاد ينفرد به (حكاياتُ مسافِر) فهو ذلك الحِسُّ الفُكاهيُّ الذي كان معروفًا به ولم يَحضُر بهذه الكثافةِ في الكتُب الأخرى. فهو يُورِدُ حِوارَه مع مرافقه الرسمي في ألمانيا (هِرْ فالْك) ليوضِّح كيف يتحولُ الألمانيُّ بالحديثِ من الفن إلى التقنية، فبينما يحاولُ كاتبُنا استدراجَه إلى الحديث عن السينما الألمانية، ينحرِفُ (فالك) إلى صمامات الراديو والتليفزيون التي تعمل على أكثَرَ من موجة! وكذلك في ألمانيا حين يدخُل غرفتَه في فندقٍ ويجدُها خاويةً يصفق بيديه ثمّ يتذكّر أنه "في الأتلانتك هوتيل وليس في لوكاندة السيد البدوي!"، ثُمّ يكون ردُّ فعلِه حين ينظرُ خادم الفندق إلى شعره الأكرَتِ وهو مندهشٌ لخُروج أثاث الغرفة من الجدران أن يقول: "إننا في الشَّرق نفعلُ هذا وأكثرَ في السيرك. نرفعُ أحيانًا قبَّعةً صغيرةً فيخرج من تحتها فيل!"

وفي رأيي أنّ الهُوّة الحضاريّةَ وما خَلَقته من سوء تفاهُمٍ مثَّلَت المنبع الذي صدرَت عنه هذه الفكاهة، تلك التي تصِل إلى أَوجِها في نهاية نفس الفصل (شَدّ الحبل في هامبورج) حين تَدخُل الخادمةُ الفاتنةُ وهو في الحمّامِ استجابةً لشدِّه الحَبلَ المُدلَّى فوقَ حوض الاستحمامِ وهو لا يعرفُ له وظيفةً، فتبيّن له أنه لإنقاذ النُّزلاء السُّكارَى من حوادث الغرَق أثناء الاستحمام.

يَترُك كاتبُنا سطرين من النُّقَط ثم يعقِّب عليهما بقولِه: "النقط المتروكة هنا لها معنى آخر غير الذي يقصده إحسان عبد القدوس بالنقط التي يكتبها في قصة لا أنام. وأنا أحذر القراء من الإسراف في الخيال." لا أقلَّ من أن نقولَ إننا هنا إزاءَ أدَبٍ ساخِر.

وفي ثنايا حكايات المُسافِر نقابلُ عينَه الناقدةَ للفنّ، ففي فصل (تأملات من روما) يفاجئنا برأيٍ مهمٍّ للغايةِ في الفارق بين النحت المصري القديم والنحت الإغريقيّ الرُّومانيّ، فالمنحوتة الفرعونية جميلةٌ من كلّ الزوايا حيث تقدّم الإنسان في شموخِه وسِماتِه الباقية خلف التحولات العارضة، بينما الرومانية تبدو من بعيدٍ كأنها (لَعبَكة) لكثرة تفاصيلِها وحركاتِها، فهي "تقدِّم واقعةً سطحيةً تقِفُ عند حدود الجسم وعضلاته وتفاصيلِه." ومهما قِيلَ في انحيازِه إلى تراثِ أجدادِه أو إغفالِه فلسفةَ النحتِ اليوناني الرومانيّ المُحتفي بفَوران الحياةِ وعبقرية الجسَد، فإنّ رأيَه يظلُّ له وَجاهَتُه.

وفي رأيي أنّ الهَمّ الإسلاميَّ في كتب رحلاتِه قد بدأَ في (مغامرة في الصحراء)، حيثُ يُفرِد فصلَ (كلمة الله في الصحراء) للحديثِ عن الحركة السنوسية في ليبيا واضطلاعِها بمقاومة الاحتلالَين الإيطالي والفرنسي، وهو يتحدثُ عنها في إعجابٍ بادٍ، مع ملاحظةِ أنّ تشكيلَها وطموحَ مُنشئِها يبدُوان إرهاصًا بحركة الإخوان المُسلِمين. لكنّ هذا الهَمَّ يُخايلُنا من بعيدٍ في (حكايات مُسافِر)، لاسيّما حين يرصُدُ كاتبُنا الحالة الدينية للمجتمع الفرنسي من خلال فنَّي المسرح والسينما، فيَعرِض في إيجازٍ في فصل (روايات تتحدث عنها باريس) مسرحيةَ (مقبرة العرَبات) لفرناندو أرابال ومسرحية (الأُمّ) لبرتولت بريخت، وفِلم (نهاية الأسبوع) لجودار، وكلُّها يغازلُ فكرةَ وجود الله أو عدمِه.

وبالطبع يبلُغُ هذا الهَمُّ الإسلاميُّ أقصى مَداه في (الطريق إلى الكعبة)، فبينما يُفرِد صفحاتٍ قليلةً لوصف الرحلة نفسِها – لاسيَّما من عرفاتٍ إلى مزدلِفة – نجِدُه يَهَبُ الفصلَ الأولَ لحِجاجٍ إسلاميٍّ لردّ الشبهاتِ عن مَناسِك الحَجّ، كأنه نموذجٌ مصغَّرٌ لكتابِه (حِوار مع صديقي الملحِد). هذا فضلًا عن استرجاعه أحداثَ غزوتَي بدرٍ الكبرى وأُحُدٍ في صفحاتٍ عديدةٍ، منتهزًا مرورَ الحافلةِ ببَدرٍ وجبل أُحُد، وصولًا إلى الفصل الأخير (الرجُل الذي قالَ أنا الله) الذي يتحدث فيه عن الحلّاج، منطلِقًا من موقفِه التاريخيّ إلى أفُق التصوُّف الإسلاميّ الواسع وتبايُن الآراءِ حولَه.

والحَقُّ أنّ رحلاتِه تباينَ مَداها بين الإيغال المغامِر في المَجاهِل كما في (الغابة) و(مغامرة في الصحراء) والاكتفاء بما يعرضُه التلفازُ في غرفتِه بالفندق، كما في فصل (هذا الجهاز سيغير العالَم) عن رحلته إلى لندن عام 1980 في (من أمريكا إلى الشاطئ الآخَر)! هذا في الوقت الذي نشهَدُ فيه هذا التبايُن في رحلةٍ واحدةٍ، كرحلتِه إلى أمريكا، فهو تارةً يرصُد نبضَ الشارع الأمريكي من خلال برامج التلفاز – وخلال ذلك يحدِّثُنا عن وصول سفينة الفضاء فوياجر Voyagerإلى مدار كوكب زُحَل، وما يتعلق بذلك من أخبار فلكيةٍ، لولا اهتمامُه العلميُّ لَما رأى فيها مَدعاةً للتوثيق – وتارةً يأخذُنا معه إلى رحلاتٍ حقيقيةٍ إلى الخور العظيم Grand Canyonولاس فيغاس. لكنّه لا يمنحُنا تلك اللحظات الإنسانية الدافئة التي نشهدُها معه في الغابة والصحراء ويوغوسلافيا، وإنما يقفِزُ من التفاصيلِ الطبيعية والأنشطة الاقتصادية إلى التأملات الكبرى ومحاولة تحليل النشاط الإنساني، ففي الخور العظيم يقولُ "وكأنما تحوَّلَ الزمنُ إلى عملٍ رائعٍ من أعمال النحت المذهِل"، وفي لاس فيغاس يحدثُنا عن القِمار فيقولُ في نفاذ بصيرةٍ: "إن اللذة ليست النقود. ولكن اللذة هي مباشَرَةُ الحظ والمكتوب. اللذة هي مصاولةً القدَر. والوجهُ المحجوبُ من الكارت هو القدَر."

وممّا يُؤخذُ على كاتبِنا أنه كان قليل الاهتمام بتوثيق مَراجِعه، حتى إنه في مَعرض حديثِه عن الانقسامات السياسية في لندن، يُهيبُ بفِلمٍ منتشِرٍ في وقتِه في سينماتِ لندن عن مناضِلٍ شيوعيٍّ يتنكَّرُ لمبادئه، والمفروضُ أنه للمُخرج الإيطاليِّ (برناردو برتولوتشي Bertolucci)، لكنه ينسى أن يخبرَنا باسمِ الفِلم!

ولعلّ أهمّ سِمةٍ أسلوبيّةٍ في كتابة مصطفى محمود هي عدمُ تحرُّجِه من الاستعانة بألفاظٍ وتراكيبَ عامّيّةٍ في ثَنايا كتابتِه، ففي ألمانيا يقولُ: "ورُحتُ أُبَرطِعُ إلى شارع الريباربان"، وفي (لقطات من لندن) يصِف عددًا من البنات يتحلَّقن حول الخطيب الزنجيِّ في (هايدبارك) بأنهن (سنّ ستّاشَر). هذا في الوقت الذي ينحِت فيه صُورًا بالغة الجمال في مواضع قريبةٍ من هذه.

أما فيما يتصل بالمنهجيّة في التناوُل فنراها تغيبُ متى طالَ الموضوعُ الذي يتناولُه. ففي (الغابة) حيثُ تعددَت الرحلةُ فُصولًا، كلٌّ منها إلى جهةٍ أو مجموعة قبائلَ، لا يتضح غيابُ المنهجيّة كثيرًا، بينما في (مغامرة في الصحراء) حيث الموضوع المسيطر هو عالَم طوارقِ غدامس، نراه يكرر المعلومات دون مبرِّرٍ، كما لا نَجِدُ سببًا لحشد معلوماتٍ معينةٍ تحت عناوينِ فُصولٍ بعينِها، فرغمَ مجيء العناوينِ جذابةً تحملُ مفارقاتٍ مثيرةً مثل (الجَنة درجة حرارتها 48 – الرجُل ملثم والمرأة سافرة – القبلات بحك الأنف بالأنف) نجدُه مثلًا في هذا الفصل الأخير يحدثُنا بلا مناسبةٍ عن آراء المؤرخين العرب كابن عبد الحكَم وابن بطوطة في أصل البربر.

انتهاءً، يُطلِعُنا أدبُ الرحلةِ عند كاتبِنا على مكنون نفسه المُحِبَّة للمعرفةِ، التوّاقَة إلى الهروبِ مِن رِبقةِ الحضارةِ الصناعية، لكنها نفسٌ لا تجدُ مفرًّا من الانحيازِ إلى الفقراء، والوقوف في صفّ مُسلِمي العالَمِ أينما كانوا، وقد تشتطُّ أحيانًا في رؤية الآخَر، وإن كان لها الكثيرُ من العُذر، خاصّةً وهذا الآخَرُ قد سوَّدَ التاريخَ بجرائمِه في حقِّ أهل الغابة والصحراء. وربما لهذا سجنَ كاتبُنا نفسَه في غرفتِه في لندن، أو ارتحلَ إلى الخور العظيمِ متأمّلًا فِعلَ الزمنِ دون أن يقتربَ من بَشَرِ المكان. وتظلُّ كتبُه في هذا الحقل زادًا قابلًا للانتفاعِ به وتأمُّلِه، وإن اختلفنا مع بعض ما جاء فيها.
1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الأحد، 02-01-2022 03:29 م
1 ـ (غابة الفراشات في المكسيك، من عجائب الطبيعة الفريدة..) في كل عام، تقطع فراشات من فصيلة “فراشات العاهل أو الملك” مسافة طويلة من كندا والولايات المتحدة الأمريكية تبلغ قرابة 2500 ميلًا (4023.3 كلم) إلى غابات ميتشواكان المكسيكية فيما يُعرف بأكبر هجرة للحشرات في العالم. حيث تتجمع الفراشات والحشرات بأعداد لا تُحصى على الأشجار والأرض لتُغطي مساحات واسعة من الغابات كأنها قطعة سجاد باللون البرتقالي والأسود، في مشهد يحبس الأنفاس والأنظار. لكن، وكما هو الحال دائمًا، فإن الفضول والجشع البشري يُدمر هذه الظاهرة الطبيعية الفريدة.تعتبر هجرة فراشات الملك العظيمة واحدة من أسرار الطبيعة الفريدة. حيث تنطلق الفراشات الصغيرة من أماكن مثل تورونتو، وينيبيغ، أو ديترويت لتعبر القارات إلى المكسيك. لا أحد بالضبط يعلم كيف تتمكن الفراشات من قطع هذه المسافة الكبيرة، لكن بعض الخبراء يعتقدون أن الملاحة الجوية والمجالات المغناطيسية هي من تُرشد الفراشات إلى وجهتها الصحيحة.وتبدأ فراشات الملك بالوصول إلى غابات ميتشواكان في أواخر شهر أكتوبر لتُصبح الغابات منزلها خلال فصل الشتاء. حيث تقضي الفراشات الخمسة أشهر القادمة متجمعة على شكل حشود ضخمة كأنها خلية نحل ملونة. وتلتصق هذه الكتل بالأشجار حتى أنها تتسبب بتكسر فروع الأشجار في بعض الأحيان بسبب ثقل وزنها. وتتجمع الفراشات بهذا الشكل لتبقى على قيد الحياة خلال فصل الشتاء، فالتصاق أجسادها ببعضها البعض يزيد من درجة حرارتها ليلًا خاصة في تلك المرتفعات الجبلية التي تنخفض حرارتها خلال الشتاء.أما المشهد الأكثر جمالًا، فيبدو جليًا خلال شهري فبراير ومارس، حيث تبدأ الحرارة بالارتفاع خلال النهار وتنخفض ليلًا، فتبدأ مرحلة التزاوج بين الفراشات قبل رحلة العودة إلى الوطن. وعند غروب الشمس، تكتسي الأرض بالفراشات كأنها لوحة فسيفائية من البرتقالي والأسود.وتعتبر غابة الفراشات في المكسيك من المزارات السياحية الهامة الأكثر شعبية في البلاد، وهي محمية بموجب القانون. لكن ذلك لم يمنع الناس من الزحف ببطء نحو الغابة وتدمير بعض أجزائها وهذه الظاهرة الفريدة تحت اسم الجشع. فقد برزت العديد من أعمال قطع الأشجار غير القانونية في قلب المحمية منذ فترة طويلة، ونادرًا ما يتم تقديم الجناة إلى العدالة. فخلال عام 2015م، قام السكان المحليون بالإمساك بمجموعة من قاطعي الأخشاب الذين قرروا قطع تسعة هكتارات من الأشجار في الغابة، وتم تقديمهم للعدالة، لكنهم تفاجأوا عندما تم إطلاق سراح الجناة بكفالة بعد بضع ساعات فقط.وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لحماية هذا المكان الفريد، لكن برز تهديد جديد من المرجح أن يُنهي هذا المكان السحري. إذ تنوي شركة تعدين أن تفتح منجمًا للنحاس والزنك والرصاص والفضة والذهب في قلب المحمية. ويعتقد الخبراء أن هذا المشروع سيُنهي هجرة الفراش الطبيعية للمكان وينتهي بذلك هذا السحر. كما أن الاستعمال المتزايد للمبيدات الحشرية على المحاصيل الزراعية كفول الصويا والذرة يؤدي إلى تدمير نبات الصقلاب الذي يُشكل محطة أساسية في تنمية فراشات الملوك من بيضة إلى فراشة. 2 ـ •تختلف الأهرامات المكسيكيّة عن الأهرامات المصريّة، حيث أنَّ الأهرامات المكسيكيّة كانت تُستخدم للآلهة أو لأغراض عسكريّة، بينما المصريّة كانت تُستخدم لوضع الموتى فيها. مِن أساطير الأزتك. ويُقال بأنَّ آلهتهم أخبرتهم ببناء مدينة، حيث يرصدون نسراً علي صبّار يأكل ثعباناً، وقاموا ببناء مكسيكو سيتي . "الأدب في الملاعب.. عندما تلهم كرة القدم الروائيين والشعراء" الكاتب المكسيكي خوان بيورو يقارن بين الكتابة الأدبية ولعبة كرة القدم، بأن لكل منهما قواعد، ويمثلان عالمين مختلفين؛ فحضور المباراة وقراءة عمل أدبي كفيلان بإثارة المشاعر، كما أن قارئ النص الأدبي يقسم الشخصيات حسب الصراع الدائر بين الخير والشر، كذلك يفعل جمهور كرة القدم، إذ تمثل المباراة صراعا بين طرفين. وينظر بيورو لكرة القدم بوصفها رواية، تقع فيها حكايات وأحداث كثيرة مأساوية تتطور بها الشخصيات، أي اللاعبين، وترافق الكلمة مباريات كرة القدم من خلال "التعليق". كتب بيورو كتابين عن كرة القدم، ويفترض أن قرّاء أعماله ينقسمون لصنفيْن: عاشق لهذه اللعبة، يعرفها جيدا وربما أكثر من الكاتب نفسه. وكاره يتساءل: ما الذي يدفع روائيا وقاصّا للكتابة عن "هذا الجنون"، حسب بيورو. وفي تعليقه للجزيرة نت يقول بيورو إن كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في أميركا اللاتينية، لكنها كانت بالنسبة لكثير من الكتّاب "اهتماما شعبيا بدائيا"، وسادت فكرة أن جمهورها مكوّن من أشخاص لا يقرؤون. وحتى ستينيات القرن الماضي لم يكن يُنظر لتلك الرياضة كظاهرة اجتماعية مهمة. 3 ـ ( أنطوني كوين.. أسطورة القرن في السينما الأميركية ) استطاع النجم العالمي أنتوني كوين أن يحفر أسمه فى أذهان الكثيرين من عشاق السينما الأمريكية بجميع أنحاء لعالم، وبالوطن العربى بشكل خاص من خلال تجسيده عدد من الشخصيات العربية التاريخية ومن أبرزهم "عمر المختار، حمزة بن عبد المطلب". وولد أنتوني كوين فى مثل هذا اليوم من عام 1915 بالمكسيك، لأب أيرلندي وأم مكسيكية، ولم يكن التمثيل هو المحطة الأولي في حياته، حيث درس الهندسة المعمارية وعمل لفترة زمنية كمهندس معماري قبل أن يدخل عالم التمثيل فى الأربعينيات من القرن الماضي . وشهدت فترة الخمسينات الانطلاقة الحقيقة لأنتوني كوين في عالم هوليوود، حيث حصل على فرصته الحقيقية بفيلم "فيفا زاباتا"، والذى حصل من خلاله على جائزة الأوسكار أفضل ممثل صاعد عن تجسيده شخصية أوفيميو زاباتا شقيق الثوري المكسيكي أميليانو زاباتا . وفى عام 1976 قرر المخرج العالمي مصطفي العقاد تقديم فيلم "الرسالة" الإسلامي التاريخي فى نسختين، إحداهما عربية والأخري إنجليزية، ليتم اختيار أنتوني كوين لتجسيد شخصية حمزة عبد المطلب بالنسخة الإنجليزية، حيث استطاعت النسخة الإنجليزية وحدها أن تحقق 10 أضعاف التكلفة الإنتاجية للفيلمين. وإذا أردنا التحدث عن أنتوني كوين فى وطننا العربي فإن أول ما سيتبادر إلى أذهاننا هو تجسيده شخصية البطل الليبي عمر المختار في الفيلم العالمي "أسد الصحراء" عام 1981، حيث استطاع أنتوني كوين أن يقدم صورة قريبة للغاية من حياة عمر المختار الحقيقي، لدرجة جعلت الكثيرين يتعاملون مع شخصيته بالفيلم على أنها الشخصية الحقيقية .