كتب

الخطاب السياسي العربي من الخيال إلى المجاز.. قراءة في كتاب

الخطاب السياسي العربي تحت مشرحة التحليل اللغوي (تويتر)
الخطاب السياسي العربي تحت مشرحة التحليل اللغوي (تويتر)

الكتاب: المجاز السياسي
المؤلف: عمار علي حسن، 
الناشر: الكويت، سلسلة "عالم المعرفة" (486)، سبتمبر / أيلول 2021


هذه محاولة، يُشكر عليها باحثٌ مصريٌ مرموق؛ نقل فيها المجاز من مجال البلاغة واللغة، إلى المجال السياسي. وفي هذا، سجَّل حسن نجاحًا يُحسب له. وهو ينطلق من محاولة كشف جوانب المجاز في الخطاب، والفكر السياسي المعاصريْن.

في تقديمه للكتاب، أشار المُؤلف بأنه سبق أن أصدر، عن السلسلة نفسها، كتاب "الخيال السياسي"، ثم رأى أن معناه لن يكتمل إلا بالنظر في "المجاز السياسي"، الذي هو ابن التخييل، كما ينبئنا عِلم البلاغة؛ لأن المجاز نفسه يحتاج إلى مخيال ثري، كما أن الخيال في حاجة إلى المجاز، كي يأتي في إهابه، وركابه، متجاوزًا كثيرًا من السائد، والمتاح، والمتداوَل.

في كتابه "الخيال السياسي"، حاول حسن أن يُقرّب الخيال إلى واقع، وسعى إلى إخضاع التفكير العميق، والحر، في المستقبل، لضبط علمي؛ كي لا ينزلق إلى أوهام، أو أُمنيات؛ في سبيل سبر أغوار الرؤية، التي تذهب إلى أن العالم غارق في أكاذيب، سوداء وبيضاء، وفيها يسكن مجاز عرِم. كما حاول المؤلف هنا مشاكسة قاعدة "السياسة فن الممكن"، لتغدو، أيضًا، مادة للخيال. أما في كتابنا هذا، فإن حسن حاول مشاكسة الذين يعتقدون بأن السياسة تدور حول حقائق.

حتى نفهم المجاز السياسي، لا مفر من فهم الخيال السياسي؛ لذا، تجيء همزات وصل بينهما، ففي وسع "المجاز" أن يفتح أمام التفكير أُفقًا بعيدًا، وجديدًا، وبذا، ممكن للمشتغل بالسياسة، وممارسها، والمنخرط فيها، رؤية ما في الواقع من تعقيد، وتركيب، ببصيرة نافذة.

للمجاز في حياتنا حظ أكبر بكثير مما للحقائق. فضلًا عن أن الحقيقة نفسها لا تخلو من إقامة للمجاز، أو حلول مُغرض له.

انتقل المؤلف للمقارنة بين العِلم، والفلسفة؛ فالأول افتراضات ثبتت صحتها، من تساؤلات تمت الإجابة عنها، بينما تدور الفلسفة حول الأسئلة، التي لا تزال معلَّقة. لذا، يظل الباب مفتوحًا، طوال الوقت، للأكاذيب. وسيظل الناس يتخبطون في الأمور المتشابهة، ويزداد الوضع سوءًا، إذا ما انزلق الجدال إلى صراع سياسي، يستبيح كل طرف فيه ما شاء من وسائل صناعة البراهين، حتى لو كانت زائفة. فالحقيقة باعتبارها معنىً، وموقفًا، هي نفسها محل نزاع. على أن هذه المسألة واصلت نموها في الغرب، متعديةً قضايا اللغة، وطبيعتها؛ لتصبح مدخلاً لتفسير الظواهر، الاجتماعية والسياسية.

إلى ذلك، نرى المؤلف يؤكد بأن المجاز ينساب في تفاصيل حياتنا، على نحو ظاهر للعيان، حيث الاستعارات، والتشبيهات، والكنايات، في الحوارات اليومية، التي تجرى على ألسنة الناس. كما أن المجاز حاضر في الإحالات، والتضمينات، المنتشرة في الكتابات، بكل اللغات.

لقد زاحم المجاز التفكير العلمي، أو فرض وجوده على القضايا العلمية المطروحة؛ حين يُراد الإيحاء بالعِلم، لخدمة أغراض أخرى.

باختصار، نحن هنا أمام دراسة في عِلم الاجتماع السياسي. ذلك أن المجاز حاضر في الحياة السياسية، بقدر حضوره في المجتمع، الذي تُشكل اللغة واسطة التفكير، والتعبير عنه.

برَّأ المؤلف كتابه هنا من تهمة محاولة إلقاء السياسة في مجاهل الابتعاد التام عن ملامسة الحقيقة. وأكد بأن قصده، في الأساس، أن يُجلي بعض الغموض، ويكشف بعض التلاعب، الذي يسكن قلب السياسة.

***

في الفصل الأول من الكتاب "السياسة والكلام"، يؤكد المؤلف بأن دور الاستعارات يتعدى ما تتنبأ به قواعد البلاغة، من أنها تشبيه ناقص، خصوصًا أننا لا نعرف، على وجه اليقين، ما يقف وراء القرارات السياسية؛ لذا، ركَّز المؤلف على دراسة ما بين اللغة، والسياسة، كما اهتم بملاحقة سلطة اللغة، بوصفها قوة ناعمة.

خصَّص حسن فصله الثاني لتعريف المجاز السياسي؛ باعتباره جزءا أساسيا من التفكير الإنساني، أي جزءا من نسيج اللغة، التي هي جزء من عملية الإدراك. لذا، نرى المؤلف يركز على تعريف المجاز، باعتباره "استعمال اللفظ في غير ما وُضع له، أصلًا". ينتقل، بعد ذلك، المؤلف إلى المقارنة بين المجاز، والحقيقة، قبل أن يُلقي حزمة من الأضواء على المجاز السياسي.

 

يؤكد المؤلف بأن أغلب الدارسين العرب يتعاملون مع السياسة على أنها أقرب إلى السلعة، منها إلى الخطاب، "تاركين الأخير لعلماء اللغة، ونقاد الأدب". قبل أن يختتم حسن كتابه بـ"مسرد بأهم المجازات السياسية المتداولة".

 



عن "الاستعارة"، جاء الفصل الثالث من الكتاب، مبينًا أن الاستعارة، في الأساس، غير ما يُسارع اللغويون إلى تأكيده على ارتباطها، في الأساس، باللغة، بل هي مرتبطة بالأنساق الفكرية؛ فالاستعارات في اللغة ليست ممكنة، إلا بوجود استعارات في النسق التصوُّري لكل فرد.

لذا، نرى المؤلف يُلقي الضوء على معنى الاستعارة، وتاريخيتها، وهمزات الوصل بين الاستعارة، والسياسة، مع الصلة المباشرة بين الاستعارة، والتحايل السياسي، إلى صلة أخرى غير مباشرة، بين الاستعارة، وعلاقة الدين بالفلسفة السياسية. ويقدم حسن نماذج لأهم الاستعارات السياسية المتداولة؛ ففي استعارات الحرب ثمة الكلمة، والبارود، إلى النظر للإنسان على أنه مجرد آلة. بينما يتم التعاطي مع الدولة على أنها جسد، وكرة القدم وكأنها راية قومية، والسياسة بوصفها رقعة الشطرنج، والمجتمع الدولي "مُول"، والتمويل "غزو"، والاشتراكيون "قطط سمان"، أما الفقر ففي حيِّز الاستعارة.

جاء الفصل الرابع ليغطي عنوان "المبالغة"؛ حيث الرمزية، المرتبطة بشخص، أو حدث، أو شخص يستغل حدثًا، أو حدث يصنع شخصًا. وهي لا تكون حقيقية، في كل الأحوال، إنما تتخذ مجازًا ينطوي على مبالغة ما، سواء في عقل السياسي، أو في المخيِّلة الكلية للشعب.

بعد أن أجرى المؤلف مقارنة بين الفصاحة، والبلاغة، والمبالغة، نراه يستعرض المقبول، والمرفوض في المبالغة السياسية، قبل "حالات من (المبالغة السياسية)، وتوظيفها"، بدءًا من الحكاية السياسية، "حضور الشعر العربي، باعتباره موطنًا للمبالغة السياسية"، فمفردات الخطاب المتطرِّف، ومقولاته، والإفراط في استعمال أفعل التفضيل، وترميز الحاكم، من باب المبالغة، فالنفاق، أو المبالغة الرخيصة، والبذاءة السياسية، والمبالغة الفحشاء، فالكذب، والمبالغة الملتوية.

نصل إلى الفصل الخامس عن "الصورة"؛ حيث يعتمد بناء الصورة الذهنية على الأدلة، والوثائق، أو الشائعات، والأقوال المرسلة، ولكنها، في النهاية، تُمثِّل واقعًا صادقًا، بالنسبة إلى مَن يحملونها في رؤوسهم. ما جعل المؤلف يبدأ بإلقاء الضوء على الصورة، والنص، فبلاغة الصورة السياسية، قبل اعتبارها "المجاز السياسي المعلَّب"، مع تعزيزها بحالات تصوُّر ذهنية مستقرة، وأخرى متصارعة، تصوِّر ذهنية متعددة على صورة مجازية لفكرة سياسية، من الصورة المجازية للتسامح، إلى صورة "دولة المدينة" بين أثينا، ويثرب، مع المقارنة بين "الدولة الآلة"، و"الدولة الإله". وعن المجاز، وتصحيح الصورة النمطية السياسية، يختار المؤلف حالة الشعر العُذري.

تخصص الفصل السادس، والأخير بالبحث عن "الصمت"، ويبدأ حسن بمقولة "التاريخ لا يصنعه الصائتون، فقط، بل يصنعه الصامتون، أيضا"، مفتتحًا هذا الفصل بتعريف الصمت، والتعريف بفضاء أوسع لمجاز الصمت السياسي، الدين، والحكمة؛ فالصمت السياسي، بدءًا من الصمت والتمنُّع، فالصمت والتفاوض، ثم الصمت والتعبير الجمعي، إلى السيطرة الصامتة.

في "الخاتمة"، يؤكد المؤلف بأن أغلب الدارسين العرب يتعاملون مع السياسة على أنها أقرب إلى السلعة، منها إلى الخطاب، "تاركين الأخير لعلماء اللغة، ونقاد الأدب". قبل أن يختتم حسن كتابه بـ"مسرد بأهم المجازات السياسية المتداولة".

وبعد، فهذا الكتاب مرجع لا غنى عنه لكل المعنيين بالشأن السياسي؛ نشطاء، أو باحثين، فنحن أمام مصدر يجب أن يحتل مكانه اللائق به، في مكتبة النشطاء، والعاملين في أي من المجالين الأكاديمي، والسياسي، على حد سواء.


التعليقات (0)