مقالات مختارة

مثالية الغرب.. شيزوفرينيا السلوك

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

يقال: نفقت الدابة إذا ماتت، ومن ذلك جاء مفهوم النفاق وهو موت الضمير، والأخلاق، والقيم كذلك، ولعل من أخطر أنواع النفاق وأشدها فتكا وتدميرا للمجتمعات نفاق المؤسسات المتدثرة بالقيم والأخلاق وهي تنهى عن خلق سيئ وتأتي مثله، ومن أساليب النفاق الاحترافي التستر خلف العلم وكثير من الأعمال الإنسانية والقوانين الدولية، فذلك لا شك واقع تحت طائلة النفاق العقدي أو النفاق الأكبر، وفيه على سبيل المثال يظهر الإنسان الإيمان بالله لكنه يبطن خلاف ذلك.


وهذا فيما يتعلق بالأفراد أما المؤسسات الموبوءة بداء الشيزوفرينيا، فتظهر المثالية القيمية والأخلاقية وتجعلها عنوانا لها، بينما سلوكها يفضحها رغم محاولات الاخفاء، فالداء العضال يأبى إلا أن يتمظهر ويعلن عن نفسه شاء صاحبه أم أبى، بل نفاق المؤسسات يشمل حتى النفاق العملي بمحاولة إظهار السلوك المثالي ليراه الناس طلبا لمنزلة في قلوبهم، بيد أن سلوكا مناقضا يتبدى في ذات الوقت، وهنا تتجسد شيزوفرينيا السلوك وهو العار الذي يخفيه المصابون ويخشون افتضاحه لدرجة التكتم عليه بكل الوسائل، ومن حسن الحظ فإن شيزوفرينيا السلوك تكشف العالم المثالي الواهم الذي تجتهد المؤسسات النفاقية في تصديره والظهور به.


الأسبوع الماضي كشف راديو National Public الأمريكي، وهو منظمة إعلامية بمثابة نقابة وطنية لنحو 797 محطة إذاعية عامة في الولايات المتحدة الأمريكية، عن استقالة كورنيل ويست، أحد أبرز العلماء السود في البلاد من جامعة هارفارد، وقد اتهم الجامعة بالإفلاس الفكري والروحي العميق، وغرّد ويست في حسابه في تويتر متسائلا: هل جامعة هارفارد مكان لرجل أسود حر مثلي يؤمن بحق الأطفال الفلسطينيين في المساواة مع نظرائهم اليهود ومع جميع الأطفال، وقال إن جامعة هارفارد رفضت تثبيته في موقع رفيع بالجامعة بسبب موقفه من القضية الفلسطينية، معتبرا ذلك قرارًا سياسيًا يجب رفضه والتصدي له.


مضيفا أن الجميع يعلم كذب أسباب رفض تثبيته، وأن لا علاقة لذلك بالمعايير الأكاديمية، وأكد ويست أن لا شيء يقف في طريق حبه العميق للشعوب المضطهدة أينما كانوا وتضامنه معهم، وأعلن المفكر البالغ من العمر 68 عاما، وهو أحد أهم المثقفين في الولايات المتحدة، أن الفوضى في المناهج بالجامعة، وخيبات أمل أعضاء هيئة التدريس الموهوبين والمحترمين، تلوح في الأفق بشكل كبير.


هكذا بدت جامعة هارفارد مؤسسة تظهر المثالية القيمية والأخلاقية، لكنها وفقا لحادثة كورنيل ويست فإن سلوكها يتناقض مع الصورة الزاهية التي تقدم بها نفسها، وهارفارد تعتبر من أقدم وأعرق الجامعات الأمريكية، وإحدى أقدم جامعات العالم وأفضلها، وأكبر جامعة في العالم من حيث المساحة والتجهيزات، وكان قد أسسها القس البروتستانتي جون هارفارد عام 1636 لتناظر جامعتي كامبريدج وأوكسفورد في بريطانيا.


واحتلت جامعة هارفارد المرتبة الأولى على قائمة أفضل 100 جامعة في العالم متقدمة على جامعتي كامبردج وأوكسفورد البريطانيتين في ترتيب نشر في ملحق لصحيفة تايمز البريطانية خصص لشؤون التربية، ومن أشهر خريجي الجامعة سبعة رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية تخرجوا من جامعة هارفارد وهم: جون آدامز، فرانكلين روزفلت، رذرفورد هايز، جون كينيدي، وباراك أوباما، ومن خريجيها بيل غيتس مالك شركة مايكروسوفت الشهيرة.


في جانب آخر، وفي مايو 2006 أعادت صحيفة دانماركية نشر رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعها وسائل الإعلام التي أعادت نشر الرسوم، بزعم أنها تدافع عن حرية التعبير، في سياق هذا الموقف المناقض للقيم والمثاليات التي يتم تبنيها في الغرب انضم لموقف تلك الصحف طيف واسع من السياسيين والمفكرين والقطاعات الاجتماعية، منتقدين المظاهرات الغاضبة في الدول الإسلامية والدعوات إلى مقاطعة البضائع الدانماركية والأوروبية، فلم يروا أن من حق الآخر التعبير عن رأيه بالتظاهر والمقاطعة الاقتصادية.


إن المراقب المحايد في هذا الحدث يجد في المواقف الأوروبية السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية بشأن الرسوم المسيئة تناقضات كثيرة يصعب التجاوز عنها، إذ شددت على إعادة نشر الرسوم وطرح قضية حرية التعبير مع زعمها بأن الدين الإسلامي معادٍ للتسامح وتعدد الآراء.


قبل الميلاد بـ 380 عاما أي قبل نحو أكثر من 2400 عام ألف أفلاطون مؤلفه السياسي الرئيس وأسماه "كاليبوس" وعرف لاحقا بجمهورية أفلاطون الفاضلة، تحدث فيه عن تعريف العدالة والنظام، وطبيعة الدولة العادلة والإنسان العادل، ووضع أفلاطون إطارا نظريا يوتيوبيا للدولة المثالية، وهي عنده مكونة من ثلاث طبقات، طبقة اقتصادية مكونة من التجار والحرفيين، وطبقة الحراس وطبقة الملوك الفلاسفة، يتم اختيار أشخاص من طبقة معينة ويتم إخضاعهم لعملية تربوية وتعليمية معينة، يتم اختيار الاشخاص الأفضل ليكونوا ملوكا فلاسفة، حيث إنهم استوعبوا المثل الموجودة في علم المثل ليخرجوا الحكمة، لكن قرونا عديدة مرت لم ينشغل خلالها أحد بطرح أفلاطون، فقد مثل طرحا نخبويا غير واقعي في عالم ظل يموج بالظلم والاستبداد وربما البهيمية.

 

لكن في هذا العصر الذي تميز بالنفاق في كافة المستويات لا سيما المؤسساتية، فاق زعم الدولة الفاضلة زعم أفلاطون وتهويماته. وإن كان أفلاطون قد بدا بريئا حالما إلا أن (أفلاطونات عصرنا) قد غاصوا في مستنقع النفاق حتى أخمص أقدامهم.


الكبار والصغار من المسؤولين الحكوميين أو مسؤولي الأمم المتحدة يلعبون على مسرح السياسة الدولية، بينما تستمر الأزمات الدولية والحروب المستعرة تطحن الشعوب المستضعفة، وأولها أزمة الضمير العالمي، فإن كانت المنظمات الدولية تمثل الضمير العالمي وأهمها الأمم المتحدة؛ فهي لم تعد سوى قصر مشيد وبئر معطلة، حصون رفيعة منيعة، وميزانيات مليارية سنوية تتدفق بغير حساب، وموظفون امتلأت جيوبهم وتضخمت بالنثريات، يروحون ويجيئون لم يجيدوا شيئا مثلما أجادوا رسم الابتسامات المصطنعة والباهتة.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل