أفكَار

أسس واتجاهات المدرسة الإصلاحية الحديثة بالمغرب (2من2)

عبد الإله بلقزيز وسعيد بنسعيد العلوي.. رؤيتان مغربيتان للتعاطي مع الحضارة الغربية- (عربي21)
عبد الإله بلقزيز وسعيد بنسعيد العلوي.. رؤيتان مغربيتان للتعاطي مع الحضارة الغربية- (عربي21)

يواصل الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي استعراض أهم المدارس الفكرية التي صاغت ما يمكن الاصطلاح عليه جهود الإصلاح التحديثي في المغرب الحديث والمعاصر، ويركز في الجزء الثاني والأخير على أطروحتي عبد الإله بلقزيز ومحمد بن سعيد العلوي.


المقاربة التكوينية نموذج عبد الإله بلقزيز

ونقصد بها البحث في التراث الإصلاحي من زاوية دراسة التكوين وجوانب تأثره بالمشرق وانفتاحه على الثقافة الغربية الوافدة (نموذج عبد الإله بلقزيز). 

يشير الدكتور عبد الإله بلقزيز في مقدمة كتابه إلى مختلف الصعوبات التي تعتري الباحث المنقب في التراث الإصلاحي المغربي، ويوضح اختياره المنهجي للإطار الزمني الذي اختاره للدراسة، أي ما بين 1944 و1918، باعتبارها الفترة التي عجت بالأحداث السياسية والفكرية الدالة (معركة إيسلي وما بعدها) وما صاحب هذه اللحظة من اصطدام بأوروبا، واكتشاف واستيعاب لها، واكتشاف تأخر المغرب اتجاهها من جهة، واتجاه نموذجه المرجعي من جهة ثانية، وأيضا باعتبارها فترة غطت جيلين من المثقفين الإصلاحيين، جيل الناصري الذي عاش فكريا وسياسيا عهود السلاطين عبد الرحمان ومحمد الرابع والحسن الأول، وجيل محمد بن الحسن الحجوي الذي عاش عهد الوصاية وعهود عبد العزيز وعبد الحفيظ ويوسف. 

وعلل بلقزيز اختياره لسنة 1918 كسقف لدراسته، بكون الكتاب جاء في سياق تأطير لحظة تكوين الخطاب الإصلاحي وتشكله، وتبلور موضوعاته التأسيسية، معتبرا أن كتاب الحجوي "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" هو المحطة الختامية لطور التكوين.

وقد تتبع بلقزيز مصادر الفكر الإصلاحي المغربي وجوانب تأثره بالثقافة المشرقية والثقافة الغربية، وسجل في هذا السياق تبلور الفكرة الإصلاحية المغربية في سياق مزدوج: سياق الاتصال بالأفكار الحديثة الوافدة من أوروبا، ثم بواسطة الاطلاع على بعض نصوص النهضويين العرب في المشرق .

بالنسبة لسياق التشكل في علاقة مع الفكر الإصلاحي المشرقي، أشار بلقزيز إلى لحظتين فكريتين تغذت منهما الفكرة الإصلاحية، رغم ما يوجد بينهما من انفصال زمني، لحظة دخول الفكرة الوهابية إلى المغرب في مطلع القرن التاسع عشر، ولحظة الاتصال بالمشرق العربي، ومصر بشكل خاص، وذلك في النصف الثاني من نفس القرن.

ويلفت بلقزيز الانتباه إلى أن الخلاف بين المدرستين المغربية الأشعرية المالكية والوهابية، لم يمنع من حصول تأثر بالدعوة الوهابية، على الأقل في الوعي بوجوب الإصلاح وضرورة أن يقوم على فكرة التوحيد ونبذ البدع.
 
في الجانب الثاني من مصادر تكوين الفكر الإصلاحي المغربي وتشكله، يستعرض بلقزيز مختلف التأثيرات الأوروبية الحديثة على الدعوة الإصلاحية، وذلك منذ لحظة الاصطدام، مرورا بلحظة الدهشة واكتشاف الآخر، وانتهاء بلحظة الوعي بتخلف المغرب والحاجة إلى الإصلاح، إذ تبلورت فكرة إصلاح الجيش وتنظيمه وضرورة النظام والدعوة إلى الجهاد بعد الصدمة بالغرب وقوته العسكرية (هزيمة إيسلي واحتلال الجزائر) فضلا عن الدعوة إلى الإصلاح الإداري، والتنظيم السياسي والاقتصادي، لتأتي لحظة اكتشاف أوروبا من الداخل خلال الرحلات، والتعرف على مظاهر التمدن والتقدم بها، وما تركه ذلك من أثر كبير في نفوس الرحالة، ومن إذكاء لحظة توتر وسؤال عن سبب تقدم أوروبا وتخلف المغرب، إذ يتوقف بلقزيز طويلا عند رحلة الصفار إلى أوربا مستعرضا ملاحظات الصفار، ووجه اندهاشه من صور المدنية والعمران بأوربا، فضلا عن صور النظام والإنتاج وهيمنة مجتمع العلم والمعرفة والإبداع وسيادة دولة العدل والديمقراطية والنظام النيابي ومجتمع التمدن .

يخلص بلقزيز في دراسته للحظة تشكل الفكرة الإصلاحية في المغرب، إلى عدد من الملاحظات نجملها كما يلي:

ـ إقبال المثقف المغربي على الفكرة الإصلاحية مبكرا يرجع سببه إلى شعوره بأنها من صميم الدين، وأنها ترقى لدرجة الفريضة التي تثبت استمرارية الدين وعدم انقطاعه التاريخي .

ـ الفكرة الإصلاحية المغربية تظهر كأنها عملية تجاوب اضطراري مع ضرورات معاصرة.

ـ تداخل البعد العقدي مع البعد السياسي في تبني الفقهاء المغاربة لبعض موضوعات التوحيد الوهابية .

ـ لم يتعرف الإصلاحيون المغاربة على أوربا الأنوار من خلال نصوصها، بقدر ما تعرفوا على أوربا الحاضرة التي تجسدت عيانا من خلال مشاهداتهم في رحلاتهم إليها.

ـ تتمثل أوروبا في وعي الإصلاحيين المغاربة بشكل مزدوج، فهي من جهة مثال للتقدم، ومن جهة أخرى، عنوان للوحشية والنفوذ الاستعماري الاستغلالي .

ـ الفكرة الإصلاحية المغربية ظهرت في شكل اندماج وتكيف إسلامي في نظام الحداثة ذي المصدر الأوروبي .

وقد خلص بلقزيز إلى سبع ملاحظات في اشتباكه مع موضوعات الفكر الإصلاحي المغربي، أولها عدم اكتمال المشروع الإصلاحي في ذهن الإصلاحيين المغاربة ، وثانيها، انتقاله من فكر إصلاحي للمجتمع، يتناول سبل مواجهة البدع إلى فكر إصلاحي للدولة ، وثالثها، عدم تسجيل أي توتر أو صراع حول من تؤول إليه مهمة قيادة الإصلاحات وتنزيلها المخزن أم الإصلاحيين، ورابعها، أن الفكر الإصلاحي المغربي رغم تأثره بالمشرق وبمصادر الثقافة الغربية إلا أنه بقي منغرس الجذور في الثقافة المغربية الإسلامية ، وخامسها، أن الخطاب الإصلاحي المغربي، وإن غلب عليه الخطاب الفقهي، إلا أنه سياسي بالمقاوم الأول، وسادسها، أن الفكر الإصلاحي المغربي لم يعش التقاطب بين الفكرة السلفية وبين الفكرة الليبرالية، بل كثيرا ما تجاورت الفكرتان في نسق تركيبي، وأخيرا أن خطاب الإصلاح كان في الأصل خطاب نخب مخزنية، وأن هذه الحقيقة، لا يغيرها ميل بعض النخب إلى تبني مواقف معارضة لسياسات المخزن.

البحث في التراث الإصلاحي من زاوية تأصيل التحديث (نموذج الدكتور محمد بنسعيد العلوي):

شكلت مساهمات الدكتور محمد بنسعيد العلوي واحدة من أهم المساهمات التي حاولت إلى جانب نفض التراب عن مكونات أساسية من هذا التراث الغميس، استعراض وتحليل عدد من النصوص المغربية الإصلاحية، التي ظهرت في شكل مؤلفات أو رسائل أو فتاوى، وتتميز دراساته بكونها أخذت منحى البحث داخل هذا التراث عن الجنينيات الأولى للانفتاح على التحديث في الإرث الإصلاحي المغربي وذلك في كتابيه: دراسته الموسومة بـ: "الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب" أو دراسته الأخرى التي حاولت التنقيب في أدب الرحلات المغربية المعاصرة عن صورة أوربا في تمثلات الرحالة المغربية.
 
لم يركز بنسعيد العلوي على هذه الأدبيات الإصلاحية بقدر ما ركز على الشكل الذي استقبل به العقل الفقهي التقنيات الحديثة، وكيف نظروا إلى تأثيرها على الحياة الدينية إذ ساق إشكالية الموقف الواجب اتخاذها شرعا من التليفون والتلغراف، أو بالأحرى الخبر الشرعي المنقول بواسطتهما، أو بواسطة أحدها، والقاضي مثلا بحلول شهر رمضان أو رؤية هلال شهر شعبان؟ فذكر في هذا الصدد تعدد التآليف في هذا المجال وتنوعها، وتباين مواقفها لاسيما في الإقرار بثبوت الخبر الشرعي بواسطتها، مع ميل أغلبي لقبول التقنيات الحديثة وتعليل ذلك بأدلة الشرع وأورد خلاف العلماء في قبول الخبر الشرعي الآتي عبرها، والاعتراضات والاعتراضات المقابلة، لينتهي بهذا الخصوص إلى تسجيل خلاصة ذهب فيها إلى أن المواقف من الغرب ومن تقنياته الحديثة في المغرب كانت مختلفة بين إرادة التحديث ورفض الاستعمار، وبين الرغبة في قبول الإصلاحات والحفاظ على الهوية والاستقلال .

وقد توقف بن سعيد العلوي طويلا في كتابه على نموذج عبد الواحد ابن المواز الفاسي من خلال إنتاجاته الإصلاحية، وذلك لكونه كان يجمع بين العلم الشرعي وبين استيعابه للثقافة الأوروبية من خلال رحلاته إليها وإقامته ببعض بلدانها، هذا فضلا عن المناصب المخزنية التي تقلدها، إذ توقف على كتابيه "حجة المنذرين على تنطع المتنطعين" ثم كتابه: "خطوة الأقلام في التعليم والتربية في الإسلام" مستعرضا جوانب التحديث في نظرته الإصلاحية، لاسيما ما يرتبط بالجوانب المالية، واستعمال الأبناك وإمضاء الرواتب عبرها، وما تضمنته كتاباته من إصلاحات تحديثية في مجال التجارة والضرائب، ومن مطالبات إصلاحية لدولة الحماية، ثم ركز على شخصية أخرى هي محمد بن الحسن الحجوي، مستعرضا مسار حياته وأهم المحطات التي قطعها لاسيما مناصبه داخل المخزن، مركزا على ثلاث موضوعات استأثرت باهتمامه مما يدخل في رؤيته الإصلاحية والتحديثية، وهي نقده للنظام التعليمي في القرويين والدعوة إلى إصلاحه كما إصلاح التعليم برمته، ودعوته إلى وجوب تعليم الفتيات، ومناداته بوجوب فتح اقسام التعليم التجاري وتسجيع أهله ورعايته ، فكشف جانبا من رؤية الحجوي الإصلاحية، بالتركيز على نظرته لإصلاح التعليم وإصلاح الاقتصاد ودعوته للاجتهاد في كتابه "الفكر السامي" وغيره من رسائله، ليخلص في نهاية استعراضه لمخرجات هذه الشخصية الإصلاحية، جمعه بين ثقافته الإسلامية وانفتاحه على الخطاب الليبرالي ودعوته إلى عصرنة الدولة وتحديث بنياتها. 

وقد اجتهد بن سعيد العلوي في القسم الثاني من دراسته، في تقريب عدد من النصوص الإصلاحية، التي تعود لعلماء ومثقفين مغاربة، كلها حول الموقف من التحديث والتقنيات الحديثة، والاقتباس من الأوربيين، وبيان أصول التقدم والرقي وغير ذلك من القضايا التي تندرج في الاجتهاد والتحديث.

واستكمالا لمشروعه في التنقيب داخل التراث الإصلاحي المغربي عن جوانب الانفتاح على التحديث والتقنيات الحديثة فضلا عن تجسير العلاقة مع الاخر، وتأصيل الحاجة للاقتباس منه والإفادة من تجربته، تأتي  المساهمة الثانية لسعيد بن سعيد العلوي، هي كتابه: "أوروبا في مرأة الرحلة" والتي حاول من خلالها تتبع أدب الرحلة المغربية المعاصرة، وبشكل خاص الرحلة السفارية، مستعرضا عشر رحلات أساسية (الإكسير في فكاك الأسير لمحمد بن عثمان المكناسي، والبدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر للمؤلف نفسه، ورحلة الصفار لمحمد بن عبد الله الصفار، والرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية لمحمد الطاهر الفاسي، وتحفة الملك العزيز بمملكة باريز لإدريس العمراوي، والتحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإسبانيولية لأحمد الكردودي، وإتحاف الأخيار بغرائب الأخبار لإدريس الجعايدي، ورحلة الغسال للحسن الغسال، ورحلة التعريس في وصف بعض ضخامة باريس لعبد الله الفاسي، والرحلة الأوربية لمحمد بن الحسن الحجوي)، غطت ثلاث مراحل أساسية من مراحل وعي الفكر الإصلاحي بالآخر: لحظة القوة والثقة في النفس وتسجيل ملاحظات في دار الكفر، ولحظة الهزيمة والاكتشاف، والتي سجلت ملاحظات عن تقدم أوروبا في كافة المستويات وبداية الوعي بتأخر المغرب مقارنة معها، ثم لحظة الدهشة واستعادة الوعي .

يقارن الباحث بين لحظة رحلة المكناسي، ولحظة رحلة محمد بن الحسن الحجوي، وما بينهما من زمن طويل ممتد (قرن ونصف) ليقف عند التحول العميق الذي حدث في بين حالة المغرب، وحالة أوروبا، من حالة الندين الشبيهين في كل الأوضاع بما في ذلك الأوضاع التقنية والعسكرية، وبين التحول  لحالة الاختلاف والابتعاد في الوجود المادي والتقني والعسكري، تلك الحالة المقارنة التي تؤرخ لانبعاث وعي نهضوي حزين ممتلئ مرارة وأسى عن تقدم الغرب وقوته وتأخر المغرب وضعفه، واندهاش بالنموذج الأوروبي في الانضباط للقوانين وضمان العدالة واحترام معايير الاستحقاق.

 

إقرأ أيضا: أسس واتجاهات المدرسة الإصلاحية الحديثة بالمغرب (1من2)


التعليقات (0)