أفكَار

محددات ومرتكزات التصور السياسي للعدل والإحسان المغربية

قيادي في العدل والإحسان المغربية يشرح محددات ومرتكزات التصور السياسي للجماعة
قيادي في العدل والإحسان المغربية يشرح محددات ومرتكزات التصور السياسي للجماعة

تعتبر جماعة العدل والإحسان، واحدة من كبريات الحركات الإسلامية في المغرب، وعلى الرغم من أن لها قيادات معروفين ومواقع رسمية على الإنترنت، فإن السلطات المغربية لا تزال تعتبرها جماعة محظورة، وهو تصنيف ترفضه الجماعة، وتقول إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.

بعيدا عن الإشكال القانوني والسياسي، تفتح "عربي21" ملف المقومات الفكرية والسياسية لجماعة العدل والإحسان، بقلم واحد من قياداتها، وهو الدكتور عمر أمكاسو، وهو بالإضافة لصفته باحثا في التاريخ، فهو مسؤول مكتب الإعلام وعضو مجلس الإرشاد في الجماعة.


تقديم عام:

في هذا المحور من السلسلة التعريفية بـ "جماعة العدل والإحسان"، نستعرض الجزء الخاص بالشق النظري من موضوع "التصور السياسي لجماعة العدل والإحسان: المحددات، المرتكزات، الضوابط"، على أن نخصص الجزء التالي لاحقا بحول الله تعالى للشق التنزيلي منه.

وللأمانة العلمية، فقد استفدت كثيرا في هذا الموضوع من بحث قيم نشره موقع الجماعة aljamaa.net للباحث المقتدر الأستاذ حسن أوهى في ثلاث حلقات في الموضوع نفسه سنة 2008، لِما وجدتُ فيها من إحاطة شاملة وجهد توثيقي مشكور.

التصور السياسي هو تلك الرؤية العامة التي تحدد الخط السياسي لتنظيم سياسي ما، وتبين شكل عمله السياسي وأهدافه وأسلوبه ووسائله، سواء قبل وصوله إلى الحكم أو بعده. ولا بد لهذا التصور بهذا المعنى الخاص من تصور فكري عام، أو لنقل من خط فكري ومنهاج عمل واضح في التربية والتنظيم والحركية، وهنا نميز بين مفهومين مختلفين للتصور السياسي، لكنْ، مرتبطان ومتكاملان: التصور كخط سياسي ومنهاج عمل ميداني تسير الحركات على خطاه للوصول إلى مركز القرار؛ والتصور كمشروع سياسي تسعى إلى تحقيقه بعد الوصول إلى الحكم.

المعنى الأول هو الذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذا الموضوع، وهو أمر لا يعوز الجماعات الإسلامية، أو لنقل الفاعلة منها على الأقل، مع اختلاف كبير، في الدقة والعمق والجدوى. وهذا مرده إلى أسباب نقدرها فيما سيأتي.

في هذا الصدد، يقول الإمام ياسين رحمه الله في كتاب "رجال القومة والإصلاح" (يمكن تصفح الكتاب في https://siraj.net/ar/read?id=14 ) ص 26 ـ 25: "لا يكفي أن نطالب بدولة القرآن، وحكم القرآن، دون أن نفصل ما نعني بدولة القرآن. ما هو تصورنا لوحدة المسلمين، واقتصاد المسلمين، ونظام حكم المسلمين، وخصائص حكم المسلمين. من هم خصوم المسلمين وأعداؤهم. من هم أصدقاء المسلمين وحلفاؤهم. ثم كيف ينتقل هذا التصور إلى ميدان العمل. وقبل كل شيء هل الإسلام صالح ليقود ثورة؟ هل هو دين إصلاح؟ هل تكون دولة القرآن امتدادا للخلافات الإسلامية ونسخة منقحة منها؟ أم جمهورية عصرية تأخذ من هنا وهناك؟ أم هي عودة لحضارة الجمل؟".

أولا ـ محددات التصور السياسي لجماعة العدل والإحسان

ـ المحدد الأول، محدد منهجي يضبط كيفية التعاطي مع مصادر الاستنباط وكيفية التخطيط والتنظير لمستقبل الأمة: تلتقي كل الجماعات الإسلامية في أصول تصورها السياسي: القرآن والسنة. لكن، كيف نفسر هذه التناقضات بين تصورات غاية في القوة والوضوح في التعاطي مع الاستبداد الجاثم على الأمة، وأخرى غاية في المهادنة والانبطاح معه، وأخرى عنيفة تكفيرية، ورابعة وديعة منزوية، وخامسة سلبية متدروشة؟

يجيب الإمام ياسين رحمه الله تعالى عن هذه المعضلة ويرجعها إلى إشكاليتين أساسيتين: إشكالية العقل وإشكالية الإرادة: فأي عقل ذاك الذي نُعمِله لفهم الكتاب والسنة؟ وأية إرادة تلك التي نطبق بها تعاليم الكتاب والسنة؟ أَهُو عقل شمولي عميق أم عقل سطحي تجزيئي تبسيطي؟ أهي إرادة جهادية اقتحامية تقتفي أثر الرسول صلى الله عله وسلم وصحبه الكرام في التربية والتنظيم والزحف، أم هي إرادة قاعدة مشلولة تبرر الواقع وتكرسه بدل العمل على تغييره؟

وإذا كان باب الاجتهاد مفتوحا لمن توفرت فيه شروطه المعروفة، فإنه من الخطأ أن نتعامل مع النص الإسلامي بأفهام تجزيئية بسيطة وبإرادة قاعدة مشلولة، أو بانتقائية ودوافع نفسية تخفي جهلا وضيق نظر، وجبنا وتقاعسا عن قول كلمة الحق، أو تتستر على مصلحية متسربة إلى عمل يُفترض فيه الإخلاصُ والتجرد.

يقول الإمام ياسين: "جل ما عندنا من فقه سلفنا الصالح فقه فروع لا نستغني عنه... لكن العلم الكلي النافع الذي نحتاج إليه هو ذاك الذي يخط لنا ويعلمنا كيف ننفذ حكم الله في إقامة الدولة وتسييرها، في تنظيم المجتمع وإقامة العدل فيه، في تربية جماعة المؤمنين وتنظيمهم، في إدارة شؤون المسلمين إنتاجا وتوزيعا ومعالجة للمعاش، في إدارة الاقتصاد ووظائفه، في جعل أمور الأمة شورى...، في تنظيم الاجتهاد لاستنباط أحكام الله من كتابه وسنة نبيه لهذا العصر ولهذه الشعوب الموزعة في الأرض، وبهذه الوسائل المتاحة، ولهذا الهدف الذي أصبح قبلة للإرادات الجهادية المتجددة" (المنهاج النبوي، ص214). 

- المحدد الثاني هو محاولة تجاوز أعظم التحديات التي واجهت وتواجه المسلمين، المتمثلة في صدمتين تاريخيتين، كان لهما الأثر البالغ في مسار التاريخ الإسلامي برمته:

الصدمة الأولى: وهي انكسار وحدة المسلمين بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما نتج عن تلك الفتنة من تحول من الخلافة الراشدة إلى الملك العاض ثم الجبري، وما تلا ذلك من تمزق في صفوف جماعة المسلمين. 

الصدمة الثانية: دخول الاحتلال الغربي للدول الإسلامية، وذلك بدءا بالجزائر والهند، وصولا لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين. وما رافق ذلك من تغريب وتبعية.

 

إذا كان باب الاجتهاد مفتوحا لمن توفرت فيه شروطه المعروفة، فإنه من الخطأ أن نتعامل مع النص الإسلامي بأفهام تجزيئية بسيطة وبإرادة قاعدة مشلولة، أو بانتقائية ودوافع نفسية تخفي جهلا وضيق نظر، وجبنا وتقاعسا عن قول كلمة الحق، أو تتستر على مصلحية متسربة إلى عمل يُفترض فيه الإخلاصُ والتجرد.

 



- المحدد الثالث: التمييز بين مجتمع الجاهلية ومجتمع الفتنة والتخلف، فقد خالف الإمام رحمه الله من يطلق عبارة "الجاهلية" على واقع المسلمين، لِما قد يولد ذلك من شعور بالانعزال وميل للتكفير والعنف، واختار رحمه الله أن يصف مجتمع المسلمين الحالي بالمفتون؛ لأن هذا التوصيف يفتح المجال للانخراط في النهوض والرفق في العلاج.

ـ المحدد الرابع: التمييز بين الثورة والقومة سبيل للتغيير: يقول الإمام ياسين رحمه الله: "المسلمون في تواريخهم يستعملون كلمة (ثورة) للدلالة على خروجٍ عنيف بغير حق. وفي كلمة (ثورة) إيحاء بالعجلة والعنف والاضطراب. ويستعمل مؤَرِّخونا كلمة (قومة) للإخبار عن الخارجين على الظلمة بحق. وكلمة (قومة) موحية بالقوة والثبات والثقة" (كتاب “العدل: الإسلاميون والحكم”، ص 246).

تختلف "القومة" عن "الثورة" في الحوافز والأساليب والأهداف. فالثورة أسمى ما يحركها الغضب ضد الظلم، أما القومة فإن دافعها الأساس غضب لله، غضب على انتهاك حرمات الله وتضييع حقوق الله.

ثانيا: مرتكزات التصور السياسي لجماعة العدل والإحسان

أما بخصوص مرتكزات هذا التصور فهي كالآتي:

المرتكز الأول: مفهوم الفقه الكلي النافع، الذي تقابله الذهنية الذرية العاجزة، ومن مقتضياته بناء "تصور عمل إسلامي في نسق منتظم على منهاج يرتب الوسائل لتبلغ الأهداف، ويرتب المراحل والأولويات، ويترك في حسابه مكانا للمرونة عند الطارئ المفاجئ والضرورة الغالبة" (المنهاج النبوي، ص218).

والمرتكز الثاني: الرجوع مباشرة إلى المنبع الصافي والتعلق بالنموذج الكامل: سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام رضوان الله عليهم. فقد كانوا أحرارا مجاهدين للظلم والظَّلَمة ولم يركنوا إليهم ولم يداهنوا. كانوا لا يخافون في الله لومة لائم. وقد سار على دربهم عدد كبير من السلف الصالح، بينما اختار آخرون الصبرَ وعدمَ الخروج على الظلمة من حكام العض آنذاك، حفاظا على وحدة المسلمين وتماسكهم الداخلي مهما بلغ ظلمُ الحكام واستبدادُهم وإفسادُهم.

وبعد انفراط تلك الوحدة وذلك التماسك الداخلي، لم يعد لخيار عدم عصيان الحكام الظلمة مبرر اليوم، فالأمة أصبحت غثاء هزيلا مُفتتا من الداخل، وقصعة وفريسة سائغة للأعداء من الخارج. نحتاج إلى عمل مرتب ومنظم وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، للإسهام في قيام دولة يسود فيها ما أراده الله عز وجل لعباده من عدل وكرامة وحرية. ومن الحرية حرية الإنسان في معرفة خالقه عز وجل وعبادته. ودون هذا كله مدافعة الظلم والظالمين من حكام الجبر. وهنا يطرح الإمام رحمه الله مفهوم "المحجة اللاحبة" و"الخط السياسي الواضح". ونظرا لمركزيتهما في الفكر المنهاجي وتصور جماعة العدل والإحسان السياسي، فسنتعرض لهما بشيء من التفصيل في الجزء الثاني بحول الله.

 


 صورة لكتاب "العدل، الإسلاميون والحكم" الذي نَظَّر فيه الإمامُ عبدُ السلام ياسين للتصور السياسي والتحدياتِ السياسية التي تعترض الإسلاميين في زحفهم وتقلدهم للحكم. (يمكن تصفح الكتاب وتحميله في رابط  https://siraj.net/ar/read?id=1064 )

ويقوم المنهاج السياسي للجماعة على خصائص استُلهَمت من منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وحي رسالته الخالدة، نجملها في:

ـ الربانية: تتجلى في أصالة هذا المنهاج الذي يستمد من وحي الله في القرآن، وبيانه في السنة النبوية.

ـ الشمولية: ينطلق المنهاج السياسي من رؤية شمولية تجمع بين خلاص الفرد وخلاص الأمة، وبين العدل والإحسان. فخلاص الأمة من الاستبداد الجاثم على صدرها منذ قرون، يكون عبر نظام أساسه العدل. وخلاص الفرد لا يستقيم إلا إذا امتلأ قلبُه بحب الله رحمة، وخضع عقله لوحي الله حكمة، وكان جسده في طاعة الله مقتحما العقبات إلى الله بالعمل الصالح. 

ـ الوضوح: نقصد به وضوحا في الأهداف والوسائل يجنبنا الوقوع في ردود الأفعال. ووضوحا على مستوى الخطاب والعمل يجنبنا الوقوع في الانتهازية والغوغائية والتخبط والالتقاطية.

ـ الإجرائية: ينطلق من تشخيص دقيق للواقع، وتفاعل خلاق مع أحداثه دون انقياد أو استيلاب.

ـ المستقبلية: يقترح تصورا بعيد الأفق يفتح للأمة أبواب المستقبل، ولا ينغلق على الموروث التاريخي التراثي.


التعليقات (0)