كتاب عربي 21

عيد تونسي بطعم الانهيار السياسي

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
نستعد للعيد في تونس.. لسنا وحدنا لكننا وحدنا مثل الفلسطيني في القدس، فقدسنا الوطني منتهك بحرب سياسية داخلية لا ينقصها إلا إطلاق النار. اختلف السياسيون اختلافا لا جبر له، وقد تيقنا من قطيعتهم من خلال أقوالهم وفعالهم. ولم يقم طرف ثالث في الوسط ليعدل من غلواء الحرب الكلامية ويخترق ميدان الحرب براية بيضاء ويفرض سلام الشجعان.

الساحة تحتاج صوتا ثالثا يتكلم بصوت فصيح: التجربة الديمقراطية التونسية تم اختراقها في العمق، وتشتت شمل أنصارها وهم يبحثون عن الصوت الثالث الذي يعلن تصحيح المسار.

الحرب لا تزال في منطقة تحديد من أجرم أكثر في حق الديمقراطية، ولكن النوايا ليست خالصة في التصحيح والعودة إلى الجادة. تقول الوقائع البينة أن نقابة خربت دولة بزعم إصلاح الشأن الاجتماعي، وهنا ساحة الحرب.

الرئيس صمت عن مسألة المحكمة الدستورية

بعد تلك الرسالة الكاريكاتورية انتظر البرلمان الرد الثاني على النص القانوني فلم يرد الرئيس. لقد تكلم شقيقه (الذي لا وظيفة له في الدولة) قبل موعد الرد فقال إن الرئيس لن يمضي النص ولم يحدد الإجراء الذي سيتخذه في هذه الحالة، بما يجعل كلامه في الرد الأول نهائيا، أي لا محكمة دستورية في الأفق، ولو شاء لوسع تأويله ليكون كل ما ترتب عن الدستور غير قانوني بما فيها توليه المنصب.

لكن إغلاق هذا الباب لا يؤدي إلى توقف الدولة عن عملها، وقد فهم رئيس الحكومة ذلك مثلما فهمه حليفه وسنده السياسي رئيس البرلمان (وكل الحزام الذي يشد أزر الحكومة). وقد تجلى من خلال تحركاتهما أنهما قررا الذهاب قدما في إدارة الدولة دون اعتبار للرئيس وتأويله الدستوري، لكنهما يغفلان مصدرا آخر للتعطيل هو النقابة، بل يحاولان الاعتماد عليها في تسريع الحلول وهذا خطأ فادح لا جبر له.

أرسل رئيس الحكومة وفده الوزاري الاقتصادي بالأساس إلى واشنطن للتباحث حول تمويلات تكمل الميزانية، وربما تبني شراكة اقتصادية طويلة المدى مع الولايات المتحدة، بينما سافر رئيس البرلمان إلى دولة قطر (وعلى جدول تحركاته زيارات أخرى بحسب ما يروج أنصاره). وفي قطر حصل رئيس البرلمان على هبة وقرض ميسر وعلى كمية لقاحات، وعلى وعد باستقبال أكثر من 20 ألف عامل في قطاعات لم تحدد بعد.

ثم ظهر الغنوشي يواسي الناس ويطمئنهم في ليلة القدر بجامع حي التضامن، غير بعيد عن سكن الرئيس الأصلي (حي المنيهلة)، وهو اختيار فيه تحد، ثم يظهر في منطقة القصرين حيث ذهب الرئيس إلى ثكنة هناك، بينما ذهب هو يواسي أسر الشهداء ويلقي نفس التطمينات عن استقرار الوضع.

هذه التحركات تنم عن قرار اتخذ ومفاده: لن ننتظر الرئيس وسنتركه يخوض معاركه التي أراد دون التفاعل معه. ونتوقع أنه سيكون لهذه التحركات بقية لا نستبعد أن تكون الاستغناء عن أداء القسم أمام الرئيس وتشكيل الحكومة بحجة الإجراء المستحيل، وهي فتوى قانونية قال بها مختصون في القانون الدستوري، وهي عملية إكمال عزل للرئيس والاستغناء عن وجوده حتى يغير سلوكه طبقا لشعار صوفي قديم "دعوه يئن". لكن في هذا الحل فيروس آخر غير كورونا هو فيروس النقابة.

هل وراء هذه القوة قوة أخرى؟

نرجح أن تحركات الحكومة والبرلمان مسنودة من الخارج، فمن يكون هذا الطرف القوي؟ لقد خلقت اجتهادات الرئيس أزمة حكم وليس فقط أزمة دستورية، ولم تخلق حلولا. وتونس ليست خارج منطقة الصراع على المتوسط بين قوى عظمى تجد في موقع تونس وتجربتها السياسية مدخلا لعمل سياسي مختلف عما دأبت عليه قوى الهيمنة في إسناد الدكتاتوريات الحاكمة منذ الاستقلال (خاصة فرنسا في المغرب العربي). هناك اختيار ثان هو دعم الديمقراطية والعمل معها لبدء سياسات مختلفة ولو على سبيل التجربة. تقدر هذه القوى أن العمل مع ديمقراطية ناشئة فيه صفر خسارات لها وربما فيه مكاسب أفضل من العمل مع الدكتاتوريات، لذلك نرجح أنها تفتح طريقا جديدة تكون التجربة التونسية في عمقها، فليس أفضل جغرافيا من موقع تونس.

إن مغامرة البنك الدولي مع بلد يقف على حافة الإفلاس يحمل دلالة سياسية مفادها: لن نترك هذا البلد يسقط في الفوضى وسنعمل مع الموجود حتى حين. وقد يتحول التمويل القادم إلى وسيلة ضغط إضافية على الرئيس المعزول عمليا فيؤوب إلى رشده. لكن ما زال هذا الكلام معلقا في حكم الوعود حتى تتنزل إجراءات فعلية على الأرض لنختبره، والاختبار الحقيقي للجميع في الداخل والخارج هو طريقة التصرف مع النقابة التي تخرب كل الحلول.

هل يجب أن نفرح بمثل هذه التمويلات مهما أظهرت من حسن النية أو إنحازت لجهة داخلية دون أخرى؟ نحن نرى هذه التمويلات هروبا من حلول جذرية موجودة بالداخل تتمثل أساسا في استرجاع الدولة لسيطرتها على مواردها الذاتية، وخاصة منها الفوسفات المعطل، والذي تعادل مداخيله مبالغ الاقتراض وتفوقها. لقد كتبنا كثيرا في أن الحل موجود بالداخل، ولكن الحل يبدأ في تحديد من يعطله ويمنع عودة الدولة إلى السيطرة على ممتلكاتها الأصلية. ونشير هنا بإصبع الاتهام إلى النقابة، فالرئيس يستقوي بالنقابة في سياق التعفين الذي يريد.

النقابات بدأت التسخين لتلقف التمويلات القادمة

عاد خطاب المظلومية النقابية إلى الظهور تحت مسميات حفظ السيادة الوطنية، وهو خطاب سفيه خبرنا قائليه الذين ابتزوا الموازنة العامة بتعطيل الإنتاج والعمل في كل المؤسسات العمومية ذات المردود المادي على الموازنة، وذلك منذ انطلاق الثورة، فلم تسقط السيادة إلا بالعمل النقابي القطاعي الذي تجاوز الجريمة الإنسانية.

الاتجاه إلى ليبرالية اقتصادية لم يبدأ بالسفرة الأخيرة إلى البنك الدولي، فقد فتح نظام بن علي باب الخصخصة في المؤسسات العمومية واعتماد سياسة اقتراض غبية، وكانت النقابات تتفرج وتدعم، وتقبض القيادات النقابية الرشوة على شكل امتيازات مادية دون أن تنبس ببنت شفة ضد الخيار الليبرالي الفاحش. ولكنها تخرج الآن من تحت ركام المؤسسات العمومية التي جرّتها إلى الإفلاس، لتدافع عن خيار اجتماعي لم تسمح له بالبقاء والعمل، لتتبنى خطاب السيادة الوطنية في وجه مؤسسات التفليس الدولية على حد قولها.

هذا الخطاب كذاب بل سفيه لأنه ذريعة لمزيد المطالبة القطاعية ليس أكثر، وهو خطاب تربص بالقروض القادمة لتصرف على شكل زيادات في الأجور وتضاعف سرعة انهيار الموازنة. وهذا يطرح على الحكومة ضرورة القيام بحركة أخيرة لإنقاذ نفسها من الابتزاز النقابي.. خطاب مصارحة للشعب عن دور النقابات التخريبي وتحميلها مسؤولياتها ثم المضي قدما في إصلاحات اقتصادية ليبرالية. فالرضوخ والهروب أمام النقابات لم يعد يجدي الحكومات نفعا، وهي تنهار وتتراجع سلطتها على المؤسسات العمومية وفي مقدمتها الفوسفات.

ثمة ثمن سياسي يجب أن يدفع ولن يغطيه دور مزيف للنقابات في حوار وطني لم ينطلق وقد لا ينطلق أبدا، فنصف النقابات يقف مع الرئيس ويرفض الحوار، ونصفها الآخر يزعم تهيئة أجواء حوار اقتصادي واجتماعي؛ في توزيع أدوار تتقنه النقابات، وكل ثقة قد تمنحها الحكومات للنقابات هي سقوط في فخ الابتزاز مرة أخرى.

تقديرنا أن الخروج من المأزق الذي تردت فيه الحكومات بعد الثورة هو تخطيط نقابي يكذب علينا في مسألة السيادة الوطنية، وقد وجبت مواجهته في حرب أخيرة إما أن تنتهي بإلزام النقابات حدها، أو التسليم لها لتحكم على هواها وتتحمل كلفة الانهيار النهائي للدولة. ولا منطقة وسطى بين الاحتمالين الخيارين؛ إما أن تحكم الحكومة أو أن تحكم النقابة، أما اجتماعهما فهو الثالث المرفوع الذي لن يبقى بعده إلا الفرجة على الخراب، مهما كان كرم المقرضين وتفهمهم لمسار التجربة الديمقراطية التونسية.

الصوت الثالث يحتاج زعيما شهيدا.
التعليقات (0)