قضايا وآراء

السؤال عن حكمة خلق جهنم

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في نقاشات الدين والحياة والعقل المعاصر تثور مثل هذه الأسئلة كثيراً: لماذا يمتلئ القرآن بآيات التهديد والوعيد؟ كيف للعقل أن يفهم حكمة الله من خلق جهنم والخلود في النار؟ هل من العدل أن يكون عقاب الذنب المحدود عذاباً أبدياً؟ أليس الدين هو دعوة الرحمة والمحبة والعفو والإحسان؟

سمعت مثل هذه الأسئلة أكثر من مرة من أفراد متعددي المشارب، ولا أظن أن من الحكمة تجاهل إلحاح هذه الأسئلة، فهي تعبر عن صراع نفسي حقيقي، وربما قاد تجاهلها وإسكاتها إلى فتنة من لم يرسخ الإيمان في قلبه.

أقول والله أعلم:

إن فلسفة الآخرة هي أنها تمثل امتداداً وتجلياً للدنيا، فمصائرنا تبدأ من مسائرنا في هذه الحياة الدنيا، فمن اختار في الدنيا الإحسان والرضى وجاهد نفسه حتى تصل إلى حالة النفس المطمئنة فإنه يعرض نفسه لنفحة الإحسان الكونية، وينجذب إلى رحمة الله وإحسانه الذي يكون تمام تجليه يوم القيامة بدخول الجنة: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".

ومن عاش في هذه الحياة مسكوناً بالغضب والسخط والمقت فإنه يجذب موجة السخط الكونية، والتي يكون تمام تجليها متمثلاً في صورة محسوسة يوم القيامة هي "جهنم".

إن مشاهد يوم القيامة هي التجسيد المحسوس للمعاني الخفية في الدنيا: "وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ".

ويوم القيامة هو الموعد الذي تتجلى فيه سرائر الناس، فتخرج من هيئة الطاقة التي كانت عليها في الدنيا إلى صورة متجسدة: "يوم تبلى السرائر".

لذلك فإن توزيع الناس بين الجنة والنار ليس اعتباطاً بل هو تحقيق لقانون كوني، فمن كانت طبيعته ناريةً كان مصيره إلى النار "جزاءً وفاقاً"، ومن كانت طبيعته رضوانيةً سلاميةً كان مصيره إلى دار الرضوان والسلام.

ثمة إشارات في القرآن إلى صفات النار تظهر تجانساً مع صفات أهلها في هذه الدنيا. يقول القرآن في وصف النار: "وَإِذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً".

إن أهل النار تضيق صدورهم في الدنيا بالحق والعدل، فيكون الجزاء الموافق لذلك أن يلقوا في مكان ضيق في الآخرة. ومن عميت بصيرته عن الحق في الدنيا حشر يوم القيامة أعمى: "وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً".

ويقول القرآن أيضاً: "كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ".

فقد عاشوا في الدنيا حالةً إدمانيةً من الشهوات والفجور والفسوق، وأخفقوا في كسر الدائرة والتحرر من الإخلاد إلى الأرض، فتجسدت هذه الحالة في صورة محسوسة يوم القيامة أنهم كلما أرادوا أن يخرجوا من النار أعيدوا فيها، وهنا يتبين أن النار هي تجسيد لطبيعة نفوسهم في الدنيا.

ويقول: "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ". وصفة الغيظ هي من صفات أهل النار في الدنيا، فالمؤمن بطبيعته ممتلئ بالطمأنينة والسلام، لكن الشقي في الدنيا هو الذي امتلأت نفسه خبثاً ومقتاً وغيظاً فانجذب بذلك إلى النار التي تشبهه في غيظها.

"يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد".. جهنم لا تشبع وتطلب المزيد دائماً، وهذه الحال مشابهة لحال أصحاب النار في الدنيا، إذ إن نفوسهم أبعد ما تكون عن الامتلاء، وهي دائماً في حالة نهم تدفعهم إلى العدوان على حقوق الآخرين، فكانت النار موافقةً لطبائعهم.

ويحدثنا القرآن أيضاً عن تلاعن أهل النار فيها: "كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا"، وهو امتداد لأحوالهم في الدنيا فعلاقاتهم مؤسسة على التلاعن والخبث والكيد وإضمار الشر لبعضهم البعض. في الصورة المقابلة يرسم القرآن لنا صورةً من الجنة: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين"؛ لأن طريق الجنة في الدنيا سلامة الصدر وتطهيره من الغل والخبث.

"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ".. لو تفكرنا في الأعمال التي تقرب الناس من النار لرأيناها دائماً أعمالاً ذات طبيعة "فورانية"، مثل الغضب والشهوة والظلم والعدوان والانتقام، إنها حالة طيش لا تنطلق من قلب ثابت، إن الإنسان حين يقترف هذه الأفعال يكون في حالة فوران، فكانت النار تجسيداً لطبيعته.

في المقابل، فإن الأعمال التي تقرب إلى الجنة هي أعمال ذات طبيعة "سلامية سكونية" مثل الصلاة والخشوع والصبر والرضى والإحسان والعفو، فكان الجزاء المتجانس معها هو الجنة دار السلام.

إذاً من كانت طبيعته الغالبة في الدنيا الطيش، فإنه ينجذب إلى دار طبيعتها الطيش والفوران، ومن كانت طبيعته الغالبة في الدنيا السكينة فإنه ينجذب إلى دار طبيعتها السكينة والسلام: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

وما دام قد اتضح أن المصائر في الدار الآخرة ليست إلا تجلياً وإبلاءً لأحوال النفوس في الدنيا، فإن هذا يزيح السؤال: لماذا خلق الله جهنم إلى سؤال كيف يبعد الإنسان نفسه عن جهنم في الدنيا حتى يتقيها في الآخرة، فجهنم هي حقيقة كامنة في الدنيا في نفوس أصحابها، والذي يحدث في الآخرة ليس سوى إظهار للخفاء: "يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚإِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ".

من أراد أن يفهم حكمة خلق جهنم فلينظر إلى كبار المجرمين والأشرار في التاريخ، من وزن هتلر وستالين وحافظ الأسد وجورج بوش ومئات الملايين من الجنود الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، والذين أوقدوا نار الحروب وعذبوا الناس وأبادوا الشعوب.

أي مكان يشبه نفوس هؤلاء غير جهنم؟ إن الله يجلي لنا شيئاً من جهنم في الدنيا عبر هذه المرآة العاكسة لأفعال الأشرار حتى نوقن بوجودها، إذ لا بد أن تنجذب النفوس إلى ما يشبهها حتى تتجانس معه، ونفوس هؤلاء متجانسة مع أصل الجحيم.

يسأل سائل: هل من العدل أن يجازي الله بالعذاب الأبدي على أفعال محدودة في الزمان والمكان؟

نرجع إلى فكرة القانون الكوني، لو أن أحدهم زلَّ زلةً بسيطةً من مكان مرتفعٍ فوقع وتهشمت عظامه، وعاش طيلة حياته عاجزاً مشلولاً! هل يقال لماذا جازاه الله على زلة بسيطة بالشلل طيلة حياته؟

لا أحد يقول ذلك. لماذا؟

لأنه قد استقر في وعي الناس، أن هذه هي القوانين الطبيعية التي تحكم الحياة، فلا يوجه الناس غضبهم إلى القانون إنما يتعاملون معه ويتقون الإخلال بشروط القانون.

بذات المنطق، فإن المجازاة بالنار أو الجنة هي قوانين وجودية، وبدل السؤال لماذا يفعل الله ذلك؟ فإن الحديث المثمر هو اتقاء الشروط التي تورد هذا المصير. إن الله يدخل الناس الجنة أو النار بذات الطريقة التي يقدر الله فيها لمن يضع يده في نار الدنيا أن يحترق ولمن يلقي نفسه في البحر أن يغرق ولمن يلقي نفسه أمام شاحنة مسرعة أن يُدهس: "لا مبدِّل لكلمات الله".

لكن من جهة أخرى، من قال إن أفعال الأشرار محدودة؟ إن العبرة بالنفوس التي امتلأت بالشر، فأدمنت تلك الحالة دون خلاص، وحتى لو أخرجت تلك النفوس من النار فإنها ستعود إلى سابق عهدها لأن تلك طبيعتها المتأصلة: "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون".

لذلك فإن خلودهم في النار هو بسبب تأصل الشر والخبث في نفوسهم: "وما هم بخارجين من النار"؛ جزاءً وفاقاً لعدم خروجهم من طبيعة الخبث والشر.

وقد عظَّم الله أفعالاً يحتقرها الناس: "وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم"، وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مفسراً هذه الآية: "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم".

هي في نظر بادي الرأي كلمة هينة، لكن هذه الكلمة قد تفسد في الأرض، وقد تشعل حرباً وقد تزهق نفساً وقد تشيع فاحشةً وقد تؤجج فتنةً، وقد تفرق بين المرء وزوجه فتتهدم أسرة ويضيع الأولاد ويكبرون وهم في حال حرمان وشتات فيضر ذلك بأبنائهم من بعدهم، كل ذلك بكلمة واحدة لم يُلق صاحبها لها بالاً، فالشر قد يمتد في الزمان والمكان أكبر من تصورنا..

قد يزرع كاتب فكرةً مسمومةً تتلقاها قلوب الملايين فتتولد منها مذابح وإفساد في الأرض، وهل كان قتل عشرات الملايين سوى ثمرة لأفكار مسمومة اعتقد أصحابها بأفضليتهم العرقية وتميزهم وحقهم في إبادة الآخر؟

وجود جهنم يجيب على سؤال العدالة المفقودة في الأرض، فقد أفلت كثير من المجرمين بعد أن أفسدوا وقتَّلوا الآلاف والملايين، حتى لو أعدم هؤلاء شنقاً في الدنيا فتلك نفس بآلاف الأنفس، فمن يأخذ بحقوق الآلاف الآخرين؟ في جهنم لا يموت المجرم ولا يحيى، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب؟

إن التسامح مع المجرم بحجة أن الدين محبة وسلام، هو ظلم للضحية، فلا بد أن يذوق كل ظالم ما كسبت يداه.

من الجدير بالإشارة أن هناك رأياً فقهياً معتبراً، قال به ابن القيم رحمه الله وتبناه العلَّامة القرضاوي وآخرون، أن النار ستفنى يوماً ما، وهو رأي يطمئن إليه من حار قلبه بالسؤال عن حكمة العذاب الخالد الأبدي، لكن مهما طال أمد أهل النار فيها فإن ذلك لم يكن إلا لأن طبيعتهم نارية تستحق ذلك المكان، وقد بني قانون الوجود على أن تتجاذب الأشباه وتتجانس..

والله أعلم..

twitter.com/aburtema
التعليقات (5)
جمال
السبت، 26-06-2021 12:46 م
الله يزاك الخير
فيروز
الخميس، 04-03-2021 08:50 م
درس جيد
الكاتب المقدام
الخميس، 28-01-2021 03:19 ص
*** مقالة جاءت في وقتها، للرد على الأقوال التي تزايدت في الآونة الأخيرة لبعض المتنطعين والمتنطعات، التي ينتقدون فيها الدعاة لإكثارهم من ذكر عذاب الآخرة، ويزعمون بأنهم بذلك ينفرون الشباب من الدين، ويكونون سبباُ لانتشار الإلحاد بينهم، ويطالبون الدعاة بالاقتصار أو التركيز على ذكر سماحة الأديان لتحبيب الناس فيها، هكذا !!! والواقع أن مبدأ الثواب والعقاب، موجود في كل المعتقدات البشرية، والقوانين الوضعية، ويقر به كل إنسان عاقل، وأن الحياة لا تستقيم والعدالة بين الناس لا تكتمل إلا بكليهما، وقد نشر مؤخراُ أقوال غريبة لبابا الفاتيكان الحالي رأس الكنيسة الكاثوليكية، يصرح فيها باعتقاده بأن جهنم هي فكرة نظرية أكثر من كون وجودها حقيقة فعلية، وقد انتشرت بين الناس أقوال منحرفة لبعض المتصوفة يزعمون فيها بأنهم لا يعبدون الله طمعاُ في ثوابه، ولا خوفاُ من عقابه، ولكن فقط حباُ فيه، وفساد هذا القول ظاهر، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ...)، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...)، لأنهم مع إيمانهم بأن الله هو الرحمن الرحيم، يؤمنون أيضاُ بأن الله شديد العقاب، والله أعلم بعباده.
صحراوي
الأربعاء، 27-01-2021 05:04 م
مجرد تساؤل. والسؤال عن حكمة خلق الجنة. هل من العدل أن يكون جزاء طاعة محدودة نعيما أبدياً !!!؟؟؟
صحراوي
الأربعاء، 27-01-2021 05:01 م
مجرد تساؤل. هل من العدل أن يكون جزاء طاعة محدودة نعيما أبدياً !!!؟؟؟