كتب

الإسلام السياسي في الجزائر وتبعات العشرية الدموية.. محطات

إسلاميو الجزائر كانوا سباقين إلى الثورة لكن استفادتهم من الربيع العربي كانت ضعيفة- (الأناضول)
إسلاميو الجزائر كانوا سباقين إلى الثورة لكن استفادتهم من الربيع العربي كانت ضعيفة- (الأناضول)

الكتاب: "تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي، دراسة في التحديات الراهنة وآفاق المستقبل" 

المؤلف: مجموعة من الباحثين
الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين- ألمانيا، الطبعة الأولى، 2019
عدد الصفحات: 289 صفحة

اختلفت تجربة الإسلام السياسي في الجزائر عن محيطها، اختلافا مركّبا بحيث بدت سابقة لمثيلاتها في البلدان العربية في المشاركة في الانتخابات والفوز بها أو في الاصطدام العنيف الدامي مع الدولة ثم مع المجتمع. وتبدو متأخرة عنها في الآن نفسه لأنها لم تصل إلى السلطة كما حدث في بقية الأقطار. وربما أبعد عنها تركيبها هذا أضواءَ البحث والدراسة التي سُلّطت على نظيراتها بعد ثورات الربيع العربي. وها هو كتاب "تجارب حركات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي" يعرض هذه التجربة وفق تصوّر كل من زيدان سعيد وجبران سفيان وحلوز خالد. ويمكن أن نفصل بين ثلاثة مراحل متباينة في تاريخ هذا الإسلام السياسي.
 
1 ـ التجربة الجزائرية مع الحركات الإسلامية حتى سنة 1978

تعود الخلفيات الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد قاد الأمير عبد القادر الجزائري كفاحه المسلح ضد المستعمر الفرنسي من منطلق مرجعية إسلامية ترى العمل على تحرير البلاد جهادا في سبيل الله. 

ثم ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة (1931) بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس فأسهمت في الحراك السياسي بأطروحاتها الدينية. ولكن لم يمثل ظهورها عنصرا فارقا في الحياة السياسية. فلم يكن وقتها إسهام الخلفية الدينية في تشكيل نمط المجتمع عنصر خلاف بين الجزائريين. والعكس أقرب إلى الواقع. فالحفاظ على الهوية العربية الإسلامية ومحاربة للحركات التبشيرية لفرنسا كان أولوية النخب الجزائرية التي كانت تقاوم محاولات طمس هويتهم الوطنية. 

ثم جاء الاستقلال، فمثّل لحظة تاريخية فارقة في العلاقة بين الشأن العام والخلفيات الدينية. فقد قُدّر لجبهة التحرير الوطني أن تكون اللاعب السياسي الأوحد. واختار قادتها النظام الجمهوري الشعبي على المستوى السياسي والنظام الاشتراكي على المستوى الاقتصادي. وهكذا اختزل نشاط الحركات الإسلامية في عمل المجتمع المدني كالجمعيات الإسلامية والكشافة الإسلامية أو في التيار الصوفي أو الزوايا التي كانت تجسد صور الولاء والطاعة للحاكم دون أن تنخرط في اللعبة السياسية. أما المذهب المالكي، مذهب الدولة الرسمي، فلم يكن يؤثر في الحياة السياسية كثيرا. فقد كان يحرم الخروج على الحاكم بداعي المحافظة على الاستقرار الأمة.

2 ـ مرحلة حكم الرئيس الشاذلي بن جديد ( 1979- 1992)

مثل وصول الرئيس الشاذلي بن جديد للحكم المنعطف الأكبر في تاريخ الإسلامي السياسي في الجزائر. فقد شهدت البلاد انفتاحا سياسيا أجاز التعددية الحزبية ومنح حرية تشكيل الجمعيات. فنطت الحركات الإسلامية على الفرصة. وتشكلت الجبهة الجزائرية الإسلامية للإنقاذ في آذار (مارس) 1989 من ائتلاف التيار السلفي الذي يقوده "علي بلحاج" مع التيار الجهادي الذي يقوده "عباسي مدني" وتيار الجزأرة الذي يقوده "محمد السعيد". وبعد نحو نصف عام تحصلت على الترخيص القانوني وبدأت النشاط السياسي العلني. 

ويجد الباحثان زيدان سعيد وجبران سفيان أن الجبهة كانت تجمعا لتيارات متطرفة "ترى أن النظام القائم دار كفر وموقفها السياسي منه ليس فقط رفضه وإنما الجهاد لتحويل الدولة إلى دار الإسلام". وهذا ما سيؤّثر كثيرا في مصيرها لاحقا. فسريعا ما فرضت نفسها في الانتخابات المحلية في جوان/ يونيو 1990. فحصلت على 853 بلدية من إجمالي 1541 أي بنسبة 55.42 بالمائة، و32 ولاية من أصل 48 ثم في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية: فقد فازت ب 188 مقعد من 430 مقعد أي 44 في المائة. 

 

 

مثل وصول الرئيس الشاذلي بن جديد للحكم المنعطف الأكبر في تاريخ الإسلامي السياسي في الجزائر. فقد شهدت البلاد انفتاحا سياسيا أجاز التعددية الحزبية ومنح حرية تشكيل الجمعيات.

 

 



وكان لتصدرها المشهد الأثر المباشر على انهيار الانفتاح السياسي وإيقاف المسار الانتخابي، فبعد استقالة رئيس الجمهورية "الشاذلي بن جديد" انقلب الجيش على السلطة ولاحق جميع منتسبيها وزج بهم في السجون وأعلن قانون الطوارئ لفرض النظام. ورد غلاتها الفعل رفعوا السلاح في وجه الدولة وتطوّروا قدراتهم القتالية وجندوا أنصارهم. وعدوا كل من يقف مع النظام الحاكم مدنيا كان أو سياسيا كافرا. وأوغلوا في التطرف أكثر بانضمام "الأفغان" خبراء الحرب ضد الاتحاد السوفييتي. 

ويفسر الباحثان ذلك بأن الكثير من المنتمين إلى هذه الجماعات كانوا من العاطلين عن العمل أو من اللصوص والمجرمين ودون أي مستوى علمي أو ثقافي، الترغيب في الفوز بالآخرة بالحديث عن الشهادة في سبيل وجهاد الكفار أو بإصدار الفتاوى والرخص التي ترضي شذوذهم كإجازة تحصيل الغنائم واتخاذ الجواري، ونكاح المتعة. ومع ذلك فقد وجدوا الدعم المادي الإعلامي الخارجي. 

ولكن عامل المال الذي قوّى شوكتهم، كان حاسما في انهيارهم لاحقا. فما إن حظيت هذه الجماعات بتمويل خارجي وما إن تدفق المال حتى أخذت عناصرها تقتتل فيما بينها للحصول على الزعامة، ما جعل الكثير من مقاتليها يقبلون التفاوض مع النظام، ويسلمون بسياسية الوئام المدني والمصالحة الوطنية التي اقترح النظام. فكان ذلك مؤذنا بظهور إسلام سياسي يعمل وفق قاعدة المشاركة في الحكم ويدين كل أشكال العنف والإرهاب وكل مظاهر الغلو في الدين ويدافع عن قيم الوسطية والاعتدال.

3 ـ الجسد الجزائري والمناعة ضد عدوى الثورات 

اتسم التعاطي الجزائري مع الواقع السياسي الإقليمي والمحلي باليقظة والحيطة. فقد كان النظام يعلم أن البلاد مرشحة لاندلاع ثورات مثل ثورات الربيع العربي لعوامل داخلية، كانتشار الفساد والبيروقراطية والبطالة والمطالب الاجتماعية الملحة ولتأثير المحيط الإقليمي المتحرّك ولتربص بعض العناصر الفاعلة دوليا بها لزعزعة استقرارها وإعادة تشكيل الخارطة السياسية فيها. لذلك عمل على استباق الأمر. وأعلن عبد المالك سلال الوزير الأول الأسبق، أن "الربيع العربي لن يحل في الجزائر" وأن بلاده أغلقت أبوابها ونوافذها في وجهه". 

وكان مفتاح الإغلاق حزمة من الإصلاحات السياسية. منها القانون العضوي المتعلق بالانتخابات التي تحدد شروط إنشاء الأحزاب السياسية وتنظيمها وعملها ونشاطها تعميقا للممارسة الديمقراطية وتكريسا للشفافية وتعزيزا للثقة بين المواطنين والناخبين والهيئات أو القانون العضوي المتعلق بتمثيل المرأة، أو ما يشار إليه بنظام الكوتا تدعيما لحضور المرأة في المجالس الانتخابية. ومن هذه القوانين ما تعلق بالارتقاء بحقوق الإنسان ودعم الفضاء السمعي البصري.

ومن وجوه الحيطة التي وسمت تعاطي النظام الرسمي مع احتجاجات الأسبوع الأول من كانون الثاني (يناير) 2011. فقد اندلعت تحركات شبابية بعد زيادة في أسعار بعض المواد الغذائية. فشملت أغلب مناطق البلاد واحتدّ عنفها وأتلفت الممتلكات العمومية والخاصة. وسريعا ما تمت السيطرة عليها رغم ظهور احتجاجات في ورغلة أو غرداية في فترات من سنوات 2013 و2014 و2015. فحصرت في غلاء المواد الغذائية وعولجت على هذا الأساس. 

ولا يُرجع الأثر السيطرة على هذه التحركات إلى الإصلاحات السياسية فحسب، وإنما إلى طبيعة هذه الاحتجاجات نفسها. فيجدها حركة شعبية عفوية لشباب يفتقد للقيادة والتأطير من منظمات المجتمع المدني، لم تكن قادرة على إفراز قيادات ميدانية أو ضبط خطط عمل وبلورة مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة. كما يرجعها إلى الرقابة الذاتية التي كان الشارع الجزائري يفرضها على نفسه ليقاوم عدوى الروح الاحتجاجية بالنظر إلى تاريخ البلاد القريب المثقل بالمآسي.

4 ـ الربيع العربي ونشاط القوى الإسلامية في الجزائر.. تشكل تكتل الجزائر الخضراء

ظهر تكتل "الجزائر الخضراء"في الانتخابات التشريعية أيار (مايو) 2012، وهو الاستحقاق الانتخابي الأول، بعد الإصلاحات السياسية. وكان متفاعلا مع صعود التيار الإسلامي في كل من تونس ومصر للسلطة ومع تلك البوادر التي تؤكد تقدم حزب العدالة والتنمية في المغرب ـ أو إسلاميي ليبيا لاحقا. فقد عمل إسلاميو الجزائر على رد الاعتبار لأنفسهم بعد أن ظلوا على هامش الحياة السياسية إثر أحداث أكتوبر1988. وأسسوا تحالفا جمع كلا من حركة مجتمع السلم وحركة الإصلاح الوطني وحركة النهضة. وهي حركات ذات برامج متقاربة. وكانت ترى في الوضع الإقليمي فرصة مناسبة تساعدها على السيطرة على البرلمان الجزائري. 

وتميز هذا التكتل بميزتين، أولاهما الإيمان بفكرة التغيير الإيجابي باعتباره حتمية سياسية وثانيتهما ضرورة تسليم الإسلاميين بقانون اللعبة السياسية التي تؤمن بالتداول السلمي على السلطة عبر آلية الانتخابات ومن ثمة ضرورة مشاركتهم الفعالة على مستوى الحقل السياسي. ولكن لم تكن النتائج بقدر الطموحات. فقد تعرض هذا التحالف إلى انتكاسة في حين كان الجميع يتوقع فوزه الكاسح.

 

 

كان للإسلام السياسي في الجزائر الأسبقية في المشاركة في الانتخابات والفوز بها في سيناريو شبيه بسيناريو حركة النهضة التونسية التي شاركت بشكل غير رسمي انتخابات 1989 عبر قائمة مستقلة بيّنت شعبيتها ودفعت نظام بن على للخيار الأمني لمواجهتها. ولكن النسخة الجزائرية كانت أكثر حدة وأكثر عنفا

 

 



يرد الباحثون هذا الفشل إلى عوامل عديدة منها ما يتعلق بأداء التكتل نفسه ومنها تعلق بالقانون الانتخابي ومنها ما يتعلق بالناخب الجزائري. فالخطاب الانتخابي لمرشحي التكتل اقتصر على نقد برامج الدولة ولم يقدّم بديلا مقنعا أو مستجيبا لتطلعات الجماهير بل اقتصر على فهم ضيق للإسلام وظل  يستعيد خطط الإسلاميين السابقة المبنية على توظيف الدعوة كما ظلّ رافضا لتصدر المرأة لقوائمه الانتخابية غير مؤمن بكفاءتها وقدرتها على العمل السياسي. وجاء في أسلوب بعيد عن مواكبة المتغيرات. 

فضلا عن ذلك ووفق المؤلفين دائما، فقد عانت الحركات الإسلامية من مشاكل داخلية وانقسامات كشفت تغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة للحزب وتورط العديد من قادة هذه الأحزاب وأبناؤهم في قضايا فساد. أما العوامل الخارجية فتمثلت في قانون الحصص. فيبدو أنه مثل عائقا لم يستطيعوا تجاوزه. فتذمروا منه كثيرا، بقدر ما تذمروا من الحملات الإعلامية المغرضة التي تبناها النظام السياسي لتوجيه إرادة الناخب وجعله يفضل الإبقاء على الأوضاع الراهنة عوض انتخاب على مرشحي التكتل بصفته ممثل للتيار الإسلامي. وأما أثر العشرية السوداء فكان كثيفا. فقد ربطت الإسلام السياسي في الأذهان بالسلوك الدموي العنيف وجعل الجماهير تخشى من التحالف الأخضر خوفا من انزلاقه نحو العنف بدوره.

هكذا كان للإسلام السياسي في الجزائر الأسبقية في المشاركة في الانتخابات والفوز بها في سيناريو شبيه بسيناريو حركة النهضة التونسية التي شاركت بشكل غير رسمي انتخابات 1989 عبر قائمة مستقلة بيّنت شعبيتها ودفعت نظام بن على للخيار الأمني لمواجهتها. ولكن النسخة الجزائرية كانت أكثر حدة وأكثر عنفا فقد كان تفوقها أكثر جلاءً وتسارعت الأحداث لاحقا بشكل درامي وتحولت إلى صدام حاد مع الدولة ثم مع المجتمع بأسره. وعاشت البلاد نسقا شبيها بنسق توارث الربيع العربي، فقد تكونت الجماعات المسلحة مثلما حدث في سوريا مع جماعة داعش. ثم آل الأمر إلى الانفصال بين متطرفين يرفعون السلاح في وجه الدولة وأحزاب تشارك في الحياة السياسية وتكتفي بدور ثانوي.

ولئن خدمت الثورات العربية الإسلام السياسي في عامة شمال إفريقيا (المغرب ـ تونس ـ ليبيا ـ مصر)، ومثلت الحجر الذي حرّك المياه الراكدة في المشهد السياسي العربي عامة ودفعت الحركات الإسلامية إلى القفز إلى الصدارة وإلى السلطة فإنّ الحركات الجزائرية قد تخلفت عن الركب. فقد اتضح أنّ ظلالا ثقيلة لتلك العشرية الدموية ظلت تجثم على الصدور وتعيق استعادتها لثقة الناخب الجزائري. ولم تستطع أن تجعل من هذه الثورات ورقة للضغط على النظام الحاكم أو لتعبئة الجماهير وتوسيع قاعدتها الشعبية. وبالمقابل كان النظام يضغط على الشارع باستحضار التجربة المريرة في التسعينيات وحربها الدموية. ونجح في ضبط الأوضاع وربح الوقت حتى ظهرت النتائج السلبية لثورات الربيع العربي فاستفاد منها وثبت أركانه.

 

إقرأ أيضا: في الإسلام السياسي وعوامل صعوده وصلته بالدولة العميقة

 

إقرأ أيضا: الإخوان المسلمون في مصر.. دورة عمرها قرن من الزمن



التعليقات (1)
طارق الجزائري
السبت، 23-01-2021 02:23 م
"....ولم نقرا نقد ولو تلميحا للانظمة الفاشلة اوذكر اشباه المسؤولين باشراك اسرهم في المناصب والامتيازات واختلاس المال العام والتفرد بالسلطة ولم يريدو منح فرصة للمجتمعات في التغيير واختيار ممثليه بكل حرية......"لكن الباحث العربي العلماني المجرم والغير محايد....ماذا ينتظر منه لما يتعلق الامر بالاسلام والدين والامة....ياو فاقو..