كتب

الميسر الجاهلي والزكاة الإسلامية.. أي صلة ممكنة بينهما؟

اختزال الميسر في القمار تسطيح لحضارة الجاهليين وشطب لدلالات ذات صلة بمعتقداتهم وتصوراتهم- (عربي21)
اختزال الميسر في القمار تسطيح لحضارة الجاهليين وشطب لدلالات ذات صلة بمعتقداتهم وتصوراتهم- (عربي21)

الكتاب: "من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية، قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى"

الكاتب: محمد الحاج سالم
دار النشر: دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 2014.
عدد الصفحات: 930.

يواصل الأستاذ الجامعي التونسي الدكتور أحمد القاسمي، في الجزء الثاني من عرضه لكتاب "من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية" تسليط الضوء على بنية التفكير العربي وفهمه للكون ودور العامل الاقتصادي وتطور هذه البنية من الجاهلية إلى الإسلام من مدخل اقتصادي..

1 ـ الميسر مبحثا من مباحث المقدس الاجتماعي

تصادر مباحث علم الاجتماع على أهمية المقدس باعتباره سمة أساسية تشكل البنية الذهنية للفرد وتلازم الاجتماع البشري فتصوغ الحياة السياسية وتضبط العلاقات الاجتماعية، فما من جماعة أو إمبراطورية إلا وانبنت على مقدّس ما. لذلك تتوازى بين عظمة إنجازات الدول أو الإمبراطوريات على المستوى الحضاري وعظمة المقدس فيها. ذلك أنّ التداخل بين الديني والسياسي، ضمن البنى العميقة للاشعور الفردي والجماعي وضمن المؤسسات  شديد وشائك وليس الفصل بينهما  غير عمل إجرائي. فنلمس فعل المقدس في الحياة السياسية عبر توحيد الجماعة على المستوى السياسي أولا وعلى أصعدة أخرى أهمها منظومة القيم التي تعمل على تحقيق التوافق بين الجماعة ومحيطها الطبيعي، كما نلمسه على مستوى تنظيم خضوعها لإكراهات خارجية من أجل إعادة إنتاج نفسها على المستوى المادي (التكاثر) أو القيمي (المعتقدات) وضمان استمرار وجودها.

وكثيرا ما تستغل الزعامات السياسية هذه النزعة الجماعية غير الواعية للانقياد ـ فتوظفها لخدمة المقدس الجماعي تحقيقا للاستقرار. ضمن هذا الأفق يمكننا أن نفهم دور الميسر في ضبط منظومة القيم الجاهلية. وضمنه أيضا نفهم عمل الدولة الإسلامية الناشئة على زعزعة هذه منظومته لتقوضه ولتمكن لنفسها. ولكن الدراسات التي تناولت قيام دولة الإسلام الأولى لم تدرك هذا البعد، حسب محمد الحاج سالم. فقد غلبت على الإسلامي منها نزعة اعتقادية تفسر كل التحولات العميقة التي أفضت إلى قيام دولة النبوة تفسيرا غيبيا يرده إلى المشيئة الإلهية ويجافي التفسير التاريخي ـ الاجتماعي لمسار تكون الدول وصعودها..

أما الدراسات التاريخية والاستشراقية فقد كانت ترى في الإسلام محض أفعال بشرية عقلانية ناشئة عن حتمية تاريخية (وعن صدفة تاريخية عند بعض آخر). وكانت تفسر قيام الدولة الإسلامية بتأثير المعطى الاقتصادي، ذلك المحرك الأساسي للتاريخ وفق تصورها. فقد كانت ترى أنّ الدولة النبوية مثلت الحل الوحيد المتاح وقتها لحل التناقض الطبقي في الجزيرة العربية. ويستحضر الباحث هنا قولة المستشرق رودينسون: في كتابه "محمدMahomet " إذ لو لم يكن محمد لكان هناك محمد".

ويخلص بناء على ذلك إلى عدم قدرة هذه الدراسات على تمثل المتحولات العميقة التي أثرت في نشر الديانة وتشكيل الدولة الإسلامية. فقد كانت تسقط سياقات تاريخية على أخرى وتفصل النصوص عن سياقاتها الموضوعية وكانت تعزل السلوك عن "الأرحام التأويلية الأولى" التي تشكلت فيها، من مرحلة الفكرة أو المعتقد إلى مرحلة السلوك والفعل.

وعليه يجد في الميسر، باعتباره طقسا دينيا يتضمن رؤية للوجود من منظور جاهلي ولأدوار الفرد فيه وباعتباره احتفالا ضخما موسميا واسعا يشارك فيه الجميع، تلك الحلقة المفقودة التي تمنحنا معرفة شاملة بالرحم الذي تشكل فيه الإسلام. فيضبط البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الجاهلي ووجوه تفاعله مع محيطه الخارجي (المصري والبابلي خاصة) على مستوى تشكل المعتقدات والأفكار. ويكشف مدى تغيّر هذه البنى في هذا المجتمع الجديد ودرجاته وكيفياته وعوامله.

2 ـ الميسر الوجه الآخر من الديانة الجاهلية

يرفض محمد الحاج سالم الاعتقاد السائد لدى أغلب الباحثين في الحياة الجاهلية بأن لا دين لأهلها غير عبادة الأصنام. ويجعل الميسر مدخلا لتفكيك مقومات الديانة الجاهلية مؤكدا طابعها النجومي الصابئي الدهري الذي يرى أنّ لا مدبّر للكون غير نفسه، وأنه يسير نفسه بنفسه بحيث تكون النجوم علة الحوادث في العالم فتتحكم بتحركاتها في مصير الكائنات. وهذا ما يجعلها وجها من وجوه الاعتقاد بوحدة الوجود. فعالم السماء يؤثر في عالم الأرض وفي الإنسان الذي يعيش على "سطحها".

وبدافع من "العقيدة الصّابئيّة"، اعتقد العرب، وفق تقدير الباحث، أنّ كل خلل طبيعيّ يحدث، كانحباس الأمطار في فترة غياب نجم الثريا ـ أي فترة أمطار الوسمي عندهم أو الأعاصير المدمرة مثلا، يكون نتيجة لخلل يصيب السّير العاديّ للنّظام الفلكيّ. وهذا الخلل بدوره يكون تعبيرا عن غضب إلهيّ من تصرّفات إنسانيّة يستوجب التّكفير. فيستحون القوى الفلكيّة لفعل المثل في إطار ما يسمّى "السّحر التّشاكليّ". ويمارسون طقوسهم استرضاء للآلهة واستمطارا للسماء كاشفين عن مؤثرات بابلية طي معتقداتهم.

يمثل الميسر إذن مكونا رئيسيا من مكونات عالم رمزي بنته العرب فكان المياسرون يقيمون وليمة جماعيّة ينحرون فيها الإبل ويسيلون دماءها ويضحون بحيوان مقدّس ممثل للإله المسؤول عن الخصب أي "القمر" بوصفه محرّك الأنواء المتحكّمة في تواتر الفصول الطّبيعيّة وتغيّرات المناخ حتّى تردّ الفعل وتنزل الأمطار سقيا لعبادها المستمطرين. ويتحقق ذلك كله في عرض لعبي مهيب، ممسرح تشارك فيه الرجال والنساء والأطفال ويُضبط لكل منها دور يتقمصه.

3 ـ الميسر مسرحية رمزية للجنس بحثا عن استمرار دورة الحياة

بعد أن يعيد الباحث بناء مختلف مكونات الميسر من لعب ولاعبين ونصب وخمر يأخذ في تأويل دلالات هذا الطقس. فيسلم باعتقاد العرب في وجود نوق سماوية، حقيقة لا مجازا، تدر لبنها مطرا هطِلا من الأعلى. ويجد في ذلك تأثرا بالحضارة الفرعونية وما اشتملت من المعتقدات والرموز. فهذه النوق السماوية امتداد للآلهة المصرية نوت التي تنحني في السماء لتدر مطرا نافعا لأبنائها البشر من لبنها. وعبارة  نوء عنده تحريف معجمي (أو اقتراض) للإسم نوت.

ويجد أن الميسر في نهاية المطاف طقس من طقوس الجنس الرمزي. فكل عناصره ترشح إيحاء بهذا اللقاء الشبقي بين الذكور والإناث. أوّلها صورة اللقاء السماويّ بين "القمر" الممثّل للإله الأب و"الشّمس" الممثلة للآلهة الأمّ. وثانيها اللقاء الرّمزيّ بين قداح الميسِر مثيلة أعضاء الذكورة شكلا وفعلها الإخصابيّ المولّد للأنصباء وبين الرّبابة مثيلة الرّحم التي تضمّ القداح لتلد أنصباء لحم توزّع على الفقراء. وثالثها لقاء فحول الإبل بالنّوق في موسم ضرابها وتزاوجها. فالجنس يمثل بؤرة هذه الصّور والمرأة تمثّل محورها. ويقدّر أنه بمرور الزّمن قد تم استبدال الممارسة الجنسيّة بممارسة رمزيّة لعبية.

 

الميسر في نهاية المطاف طقس من طقوس الجنس الرمزي. فكل عناصره ترشح إيحاء بهذا اللقاء الشبقي بين الذكور والإناث. أوّلها صورة اللقاء السماويّ بين "القمر" الممثّل للإله الأب و"الشّمس" الممثلة للآلهة الأمّ.

 

 


ويجد في الثقافة العربية ما بعد ظهور الإسلام ما يشبه الترسبات لتلك المعتقدات القديمة والأحافير. فالقمر عندهم رمز للنمو والتجدد انطلاقا من نموه من شكل الهلال إلى اكتمال استدارته وانطلاقا من حركتي المد والجزر. ففي مروج الذهب للمسعودي، أحد أهم المراجع العربية أنه "ينمي النبات وغيره ويعظّم البحار ويُسمن الحيوان" وأنّ "البيض الذي ينعقد في أجواف الطير في وقت زيادة المطر في ضوئه، يكون أوفر بيضا من الذي يحدث في أجوافها آخر الشهر"وعلى النحو نفسه يتحكم في الخصوبة فـ "يلزم النساء الطمث أزمانا معدودة".

على هذا النحو يغدو الميسر احتفالا دينيا استذكاريا لزواج بدئي مقدس ومسرحة رمزية للممارسة الجنسية ولعمليّة الخلق، فتتولى العذارى الدّعوة إليه بخروجهنّ إلى ساحة الحيّ وإشعال ما يسمّى "نار الميسِر" وهنّ واضعات الأخمرة في دعوة صريحة إلى الجنس، ويأخذ الرجال في اللعب للفوز ببديله الرّمزيّ. وحيازة نصيب من اللّحم هو فوز، ضمن اللاشعور، بكاعب من بنات الحيّ. ومن ثمة يجد في نحر النوق تحريرا للصبايا  من "وأد" منتظر إرضاء للآلهة.  ويجد في هذا التأويل مشروع فهمٍ جديد للوأد الجاهليّ وتفسيرٍ مقبول لنشوء مؤسّسة "بنات طارق"، اللواتي تمنحهن المصادر الجاهلية دور المحرّض على الحرب بالغناء "نحن بنات طارق، إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق وإن تدبروا نفارق فراقا غير وامق" ويردن بالطارق النجم الثاقب الذي ورد ذكره في القرآن ويقدر الباحث الأمر على الحقيقة لا المجاز انطلاقا من هذه الديانة النجومية، في مقال أكاديمي بعنوان "من هنّ بنات طارق" صادر له سنة 2009.

4 ـ الميسر ضربا من الاقتصاد الاجتماعي

أما على مستوى الدلالة النفعية المباشرة التي يشير إليها القرآن، يجد الباحث في الميسر شيئا مما نسميه اليوم بالاقتصاد الاجتماعي عند مواجهة الأزمات والكوارث والجوائح. فعبر الجزور تتحقق أكثر من غاية. فيُغاث الفقراء زمن النّكبات والمجاعات بسبب القحط، وبدافع دينيّ يمتثل لشريعة الأسلاف الذين ضبطوا قواعد الاجتماع  التضامني وبدافع المروءة ثانيا والتنافس ثالثا يتحول الميسر إلى ما يشبه "مؤسّسة إغاثة". ويمثل اللعب حافزا يلهب الحماسة. فتخاض منازلات يخصص ريعها لإطعام المحاويج. ويضفي ما يشبه "القسر الاجتماعيّ" فيُحقّر الممتنعون عن المشاركة فيه ويلحق بهم العار. فيوصمون بصفتي "الأبرام" و"الحصورين" استنقاصا من رجولتهم وفي الشّعر "الجاهليّ" أكثر من مثال على ذلك. ويتخلص أرباب الإبل من فائض الإنتاج المهدد بفعل الجدب. فيستبقون الكوارث ويحدثون توازنا بيئيا بين أعداد الحيوان وكميّة الموارد الطّبيعية المتاحة.

5 ـ الزكاة الإسلامية بديلا من الميسر الجاهلي

ينتهي الباحث إذن إلى فهم جديد للميسر أوسع بكثير من لعبة القمار بحثا عن المال السهل. فيجده منظومة متكاملة متفاعلة فيما بينها. ويجده طقوسا منسجمة مع تصورات الإنسان الجاهلي للوجود ولمنزلة الإنسان فيه ومع تصورات المجتمع القبلي للاجتماع. فيضطلع بأدوار مهمة ذات أبعاد عَقَدِيّة روحية واجتماعيّة وسياسيّة. ويُحدَّد ذلك كله من منظور وثني متأثر بالثقافات المختلفة التي كان العرب على اتصال بها شمالا حيث الحضارة البابلية وغربا حيث الحضارة الفرعونية.

 

معلوم أنّ الفقهاء لم يميّزوا بين صدقة التطوع والصدقة المفروضة (الزكاة) إلا في وقت متأخر. وضمن هذا الأفق أيضا يفهم الأمر في سورة التوبة بأن "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"

 



ولأنّ الدولة الإسلامية ناشئة على أنقاض مجتمع اللادولة كان قيامها يقتضي تقويض المنظومة الوثنية القائمة وضرب مواردها التي يخصص بعضها للكهنوت (أرباح القدح الوغد خاصة) وبعضها الآخر للمساكين (السوائب والبحائر) كان عليها أن تقر مؤسسة جديدة تضطلع بالمهام التي كان الميسر يتولاها. ولكن من منظور إسلامي فكانت الزكاة والصدقة بديلين إسلاميين ينهضان بالدور الاجتماعي ويكفلان تمويل المؤسسة الدينية. وضمن هذا الأفق يفهم الباحث قول النبي "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق". فيستبدل عبادة الوثن بعبادة الرّب ويستبدل الميسر بالصدقة.

ومعلوم أنّ الفقهاء لم يميّزوا بين صدقة التطوع والصدقة المفروضة (الزكاة) إلا في وقت متأخر. وضمن هذا الأفق أيضا يفهم الأمر في سورة التوبة بأن "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (103)  وكان هذا التغيير متدرّجا من تأثيم الميسر في السنة الثانية للهجرة، عند انتصار المسلمين في أول مواجهة لهم مع قريش وبداية تشكل أمة جديدة إلى تحريمه في سورة المائدة، في السنة الخامسة للهجرة، عند تماسك الجماعة والانطلاق الفعلي في تشكيل دعائم هذه الدولة الجديدة إلى فرض الزكاة باعتبارها تشريعا بديلا.

وقد أنزل في فترة القيام بطقوس الميسر نفسها. وكان ذلك في سورة التوبة، في رجب من السنة التاسعة للهجرة تزامنا مع  غزو النبي للرزم في تبوك وحاجة الدولة إلى الموارد لتجهيز الجيش. ومن ثمة يفهم علة المشترك بين الزكاة والميسر. فكلاهما حوليٌّ واجبٌ دينيا. ويعاقب تاركهما في الديانتين ويجازى القائم بهما بالثواب والاستمطار والخصب. وكلاهما يجمع بين الاقتصادي والاجتماعي. وهكذا يصادر إذن على أن اختزال الميسر في القمار تسطيح لحضارة الجاهليين وشطب لدلالات عميقة جدا ذات صلة بمعتقداتهم وتصوراتهم للحياة. فيجده لعبا في ظاهره وعرضا فرجويا ممسرحا أما في عمقه فهو صارم جاد. وتحريمه كان آلية ضرورية لتقويض بنيته الاجتماعية والعقائدية والاقتصادية القبليّة الوثنية وتعويضها بتصور مختلف للوجود من منطلق إيماني منسجم مع الرؤية الإسلامية.

 

إقرأ أيضا: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة في كتاب 1من3

التعليقات (1)
متاهات
السبت، 05-12-2020 03:15 م
يا باحث يا غويص أنت لماذا لم تقدم دراسة شاملة للزكاة الفرض والحلال والضريبة أو الضرائب الحرام أصلا والربا الخمر والميسر من الجانب الذي يفيد الناس حاليا ويحفزهم على القراءة والفهم ..تدرسون وتبحثون وتغوصون في أشياء قد لا تفيد الحاضر