كتاب عربي 21

الفرصة الأخيرة لراشد الغنوشي

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
أمام السيد راشد الغنوشي فرصة لإنقاذ حركته من الانقسام والتشرذم، أيضا لتحسين صورته داخل البلاد وخارجها؛ هذه الصورة التي زادت تضررا منذ أن تولى رئاسة البرلمان، حيث كادت كتل عديدة متناقضة أن تسحب منه الثقة لولا وقوف حزب قلب تونس إلى جانبه. كما أن الشيخ المؤسس لحركة النهضة فوجئ بمائة من قادة الصف الأول يقفون ضده، ويطالبونه علنا باحترام القانون الداخلي للحركة الذي يمنعه من الترشح مرة ثالثة في المؤتمر القادم. ودار بينه وبينهم سجال علني زاد في تأزيم الأوضاع الداخلية، رغم محاولة البعض البحث عن حل وسط لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

في الحديث الذي أدلى به إلى قناة الجزيرة، أعلن الشيخ لأول مرة عن موقف واضح من مسألة التمديد في رئاسته للحركة. أكد في هذا الحوار أن من واجباته احترام الفصل 31 من القانون الداخلي لحزب النهضة، وأوضح أن كل الفصول الأخرى الواردة في هذا القانون موجودة "للتطبيق وليست مجرد شعارات". بذلك حسم الرجل مسألة بقيت غامضة، وكادت أن تفجر الحركة من الداخل. بناء عليه، لم يعد هناك فيما يبدو مبرر للحديث عن إصرار رئيس النهضة على البقاء في منصب الرئاسة مهما كان الثمن، وهو ما من شأنه أن يعيد الاطمئنان ولو نسبيا إلى نفوس النهضويين الذين عاشوا فترة مؤلمة، وهم يتابعون توالي استقالات رفاقهم من الصف الأول والثاني؛ احتجاجا على ما اعتبروه نقضا للعهد من قبل رئيس الحركة.

هل يعني ذلك أن الأزمة الداخلية قد انتهت؟ يصعب تأكيد ذلك أو نفيه، لأن هناك جوانب أخرى من الخلاف واللبس لم تتضح معالمهما حتى الآن. فالقول بضرورة التمييز بين الرئاسة والزعامة التي دعا إليها الغنوشي ودافع عنها بعض المقربين منه؛ لا تزال مطروحة وتثير العديد من الأسئلة، حيث لم يتم الاتفاق على مضمون هذه المقولة أو الشكل الذي ستتجسد فيه، وحدود الصلاحيات التي سيتمتع بها الزعيم.

فالذين وقعوا على عريضة المائة من أبناء الحركة، عبروا عن خشيتهم من حصول تنازع متوقع في الصلاحيات بين وظيفة الزعيم من جهة، ودور الرئيس الذي سيتم انتخابه من قبل المؤتمر الحادي عشر للحركة من جهة أخرى. بل إن بعضهم اعتبر أن الموقع الجديد سيكون أشبه بموقع المرشد في نظام الحكم الإيراني، الذي يعدّ فوق رئيس الجمهورية.

كما أكد الشيخ راشد الغنوشي في الاجتماع الأخير لمجلس الشورى أن رئاسة حركة النهضة "أمانة"، وأن تسليمها لشخص آخر يجب ألا يتم بشكل عشوائي، ودعا أعضاء الحركة إلى الاتفاق بينهم لاختيار هذا الشخص والتأكد من كونه سيكون قادرا على تحمل هذه المسؤولية الثقيلة، عندها فقط سيقوم بتسليم الرئاسة له. بهذا الشرط وضع الجميع أمام مسؤولية صعبة؛ لأن الجيل القيادي الحالي داخل الحركة يشترك في تساوي الرؤوس، وأن الممارسة وحدها هي التي تضمن اكتشاف الشخصية القيادية القادرة على إدارة المرحلة القادمة، خاصة بعد رحيل أو استقالة الكثير من مؤسسي الحركة. كما أن عامل الثقة يبقى مهما في عملية الفرز الطبيعي، ويمكن للديمقراطية الداخلية أن تساعد على اختيار الأفضل والأقدر؛ إذ في كل الحالات لا يمكن تأمين الانتقال القيادي عبر الوصاية؛ لأن التغيير داخل الجماعات والأحزاب قانون حتمي لا مفر من الخضوع له مهما كانت الأوضاع والنتائج التي ستترتب عنها. والسؤال الآن: ماذا سيكون موقف الغنوشي في حال لم يحصل إجماع على رئيس مناسب للحركة؟

يشكل التداول على القيادة أحد التحديات الصعبة التي تواجهها معظم الأحزاب، سواء أكانت يسارية أو قومية أو حتى ليبرالية، خاصة إذا بقيت البيئة الاجتماعية محنطة واستبدادية ولم تخترقها المنظومة الديمقراطية.

يقول الطاهر شقروش، أحد اليساريين القدامى، إن اليسار عانى كثيرا ولا يزال من غياب التقاليد الديمقراطية في صفوفه. واعتبر مؤخرا أن زعيم حزب العمال حمة الهمامي "أكثر استبدادا من راشد الغنوشي، لأن الأول طرد كل المعارضين له في حين أن الثاني لم يفعل ذلك وترك خصومه يواصلون نشاطهم داخل الحركة، وعبر عن استعداده بعدم البقاء على رأس الحركة مدى الحياة".

 يلاحظ أن الانتقال القيادي يكون أكثر صعوبة لدى الحركات العقائدية وبالأخص الإسلامية منها، حيث تمتزج تقاليد الجماعة بالبنية الداخلية للحزب. يحصل ذلك بالأساس مع المؤسسين الذين ينظر إليهم كشخصيات استثنائية، ويوصفون بصفات تقترب أحيانا من دائرة التقديس، ويتم في الغالب تخصيصهم بطاعة نادرة، يمكن أن تبلغ درجة الاستعداد للتضحية بالنفس.

فعندما وصف حسن البنا بالإمام، لم يكن ذلك مجرد مجاملة، وإنما هي كلمة لها دلالاتها في التراث الإسلامي كما لها وقعها في عقل الإسلاميين ونفسيتهم، فهو القائد والمرشد والموجه والأب الروحي والعالم والمربي، لهذا كانت علاقة المحيطين به علاقة تابعين، لهم ثقة مطلقة في شخصه ونزاهته وتقواه وحكمته وعلمه ودرايته.

أما في السياق الشيعي، فالمسألة تصبح أكثر تعقيدا والتباسا، لأن الولي الفقيه يتمتع بصلاحيات مطلقة، يصعب بموجبها الاعتراض عليه، وتخضع جميع الهيئات المنتخبة بمن في ذلك رئيس الجمهورية له.

لعل ذلك هو الذي جعل ثقافة الديمقراطية القائمة على التداول السلمي والسلس على القيادة من خلال التنافس الحر والانتخاب السري، تجد صعوبة داخل التنظيمات الإسلامية، خاصة إذا تعلق الأمر بمنافسة المؤسس على المنصب الأول. في هذا المنعرج بالذات تقف حركة النهضة الآن، وجزء من مصيرها سيتحدد وفق السيناريو الذي سيتم اختياره لإنجاز الانتقال القيادي داخلها. ليس أبناؤها فقط هم الذين ينتظرون كيف ستكون النهاية، بل حتى خصوم الحركة الذين يراهنون على انهيارها، ويتمنون أن يخطئ الشيخ لكي يتخلصوا منه، ثم يتفرغون بعد ذلك للإجهاز على "النهضة" وأنصارها.
التعليقات (0)