أفكَار

إسلاميو تونس والديمقراطية التنظيمية.. مراجعة هادئة 2من2

الإسلاميون ومسألة التداول على المناصب القيادية.. التجربة التونسية  (صفحة النهضة)
الإسلاميون ومسألة التداول على المناصب القيادية.. التجربة التونسية (صفحة النهضة)

أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم 11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.

والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن.. 

وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث.. 

"عربي21"، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟ وتبدأ من التجربة التونسية وتاريخية سؤال الديمقراطية التنظيمية في مسيرة حركة "النهضة".


تغير المواقع
 
من بين ما يلفت النظر أن عددا من أبرز معارضي الغنوشي اليوم، من داخل "مجموعة المائة" وخارجها، مثل الوزيرين السابقين محمد بن سالم ولطفي زيتون، كانوا في مرحلة المهجر، "الأكثر دفاعا للتمديد للغنوشي" وعارضوا إبعاده عن رئاسة الحركة أو إضعاف دوره، أو استبداله بشخصيات نافسته جزئيا في انتخابات مؤتمرات 1995 و2001 و2007 مثل عبد المجيد النجار وعبد الرؤوف بولعابي ونجم الدين الحمروني ووليد البناني والحبيب المكني.. 

بل إن بعض معارضي الغنوشي والموقعين على "عريضة المائة" كانوا في مرحلة المنفى يوصفون بـ "الصقور" ويتهمون بتعطيل تنفيذ مقررات مؤتمر 1995 التي دعت إلى "المصالحة الوطنية الشاملة" وانتقدت مخططات "التصعيد السياسي والأمني غير المتكافئ مع النظام في 1987 و1990 ـ 1991، بما تسبب في أزمة سياسية شاملة وطويلة في البلاد وفي حملات قمع عنيفة لغالبية المعارضين والحقوقيين والنشطاء الإسلاميين .

وقد تعثر مسار التغيير والإصلاح في تلك المؤتمرات بسبب عدم الحسم في الخلاف السياسي وتعمق التناقضات بين تيارين كبيرين في قيادات الحركة في المنفى والسجون وداخل البلاد: الأول يدعو إلى النقد الذاتي لخطتي التصعيد في 1987 و1991 وإلى المصالحة الوطنية، والثاني يتمسك بمقررات "التصعيد" الصادرة عن المؤتمرين الثالث والرابع والخامس اللذين عقدا على التوالي في 1984 و1986 في ظروف معركة خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة، ثم عن المؤتمر الخامس الذي عقد في صفاقس في 1988 والذي عين الجامعي "المحافظ" الصادق شورو رئيسا للحركة بدعم من أنصار "الصدام الشعبي مع السلطة بدعم من المجموعة الأمنية" مثل علي الزروي ومحمد شمام وصالح كركر..

وقد تعاقب على رئاسة الحركة بين مرحلة الصراع مع بورقيبة في 1987 إلى موفى 1991 عدد من القياديين هم صالح كركر وجمال العوي والصادق شورو ومحمد القلوي ومحمد العكروت ومحمد بن سالم والحبي اللوز ونرو الدين العرباوي ووليد البناني ثم عادت الرئاسة مجددا إلى الغنوشي منذ موفى 1991.

لكن رغم إعادة تزكية الغنوشي في كل مؤتمرات الحركة فقد بحث المؤتمران السابع ("مؤتمر إعادة الهيكلة") في هولندا في 2001 ، والثامن في لندن في2007 سلسة من المراجعات .

كما صادق مؤتمر 2007 على الفصل المثير للجدل حاليا في النظام الداخلي، الفصل 31، الذي حدد عدد الدورات بالنسبة لرئيس الحركة باثنتين فقط ، أي بـ 8 أعوام .

من لندن إلى تونس.. ترحيل الخلافات
 
وأثير الجدل مجددا حول هذا الفصل وفصول أخرى من بينها ما يهم صلاحيات رئيس الحركة والمكتب التنفيذي ومجلس الشوري في المؤتمر التاسع الذي عقد في صائفة 2012 بتونس، بعد أن فازت الحركة بالمرتبة الأولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي واستلمت رئاسة الحكومة وعددا من الحقائب السيادية فيما استلم حلفاؤها في حزبي المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي والتكتل بزعامة مصطفى بن جعفر رئاستي الدولة والبرلمان الانتقالي وعددا من الحقائب والسفارات .

وحسم المؤتمر الخلاف بقرار "توافقي" نص على كون "الثورة تجب ما قبلها" وعلى عدم احتساب الدورات السابقة لرئيس الحركة. وتقرر بدء احتساب الدورات من مؤتمر 2012. وبذلك وقع " ترحيل  الخلاف مجددا " على حد تعبير القيادي العجمي الوريمي ورئيس الحركة عام 1991 الفاضل البلدي.

وكان المؤتمر العاشر الذي عقد في أيار (مايو) 2016 في الملعب الأولمبي في رادس جنوبي العاصمة تونس ثم في منتجع الحمامات السياحي، مؤتمر مناقشة كثير من الأوراق الفكرية والسياسية التي حاولت أن تخرج حركة النهضة من ثنائية الجماعة الدينية الدعوية / الحزب العقائدي إلى مرحلة "الحزب الوطني الجامع".

ولقي هذا التوجه ترحيبا كبيرا أول الأمر من قبل المثقفين والسياسيين العلمانيين والدبلوماسيين الذين حضر مئات منهم الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العاشر.

وبرزت خلال الأعمال التحضيرية للمؤتمر العاشر وعند مناقشة اللوائح نخبة من المثقفين والمفكرين والباحثين في العلوم الإنسانية والسياسية والدراسات الإستراتيجية والاستشرافية مثل رضا ادريس وعبد الرؤوف النجار ونجم الدين الحمروني ورفيق عبد السلام ولطفي زيتون ومحمد النوري وزياد العذاري وعماد الحمامي ورضا الشكندالي ورضا السعيدي ..

لكن الصراعات على المواقع والخلافات حول صلاحيات رئيس الحركة وحقه في تعيين أعضاء المكتب التنفيذي أو تكليف مجلس الشورى بانتخابهم، عوامل أجهضت مشروع الانتقال إلى "حزب وطني مفتوح"، والصراع حول الرؤى والبرامج والاستراتجية وليس حول المواقع والمسؤوليات وما وصفه محمد عابد الجابري بـ "معركة الغنائم".

وخلافا للتوقعات تعثرت مخططات إحداث نقلة فكرية سياسية نوعية في مسار الحزب ومشاريع تطوير الحركة من "جماعة مغلقة وسرية" إلى "تجمع سياسي وطني مفتوح لكل الديمقراطيين والوطنيين والحداثيين المتصالحين مع المرجعية الإسلامية للبلاد وللدستور".
 
المراجعات منذ 1979

وتكشف وثائق محاكمات الإسلاميين التونسيين منذ 1981 ثم الدراسات التي أعدها عدد من الباحثين الأكاديميين والشهادات التي نشرها عدد من مناضلي الحركة وخصومها، أن المراجعات الفكرية والسياسية والقانونية والتنظيمية تعاقبت منذ اجتماعها التأسيسي الأول في ضاحية مرناق جنوب العاصمة تونس في 1972 ثم مؤتمرها الأول المنعقد في أغسطس 1979 بالضاحية الغربية للعاصمة تونس منوبة.

تداخلت منذ تلك الفترة عوامل عديدة من بينها "الخلافات بين" القيادات التقليدية المحافظة والسلفية "للجماعة و"الرموز الإخوانية" وجهات النظر التي عبر عنها رموز "التيار الجديد" وبينهم مؤسسون انشقوا عن الحركة مثل احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي وعدد من قيادات العاصمة تونس و"الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية" .

وكان من بين محاور الخلاف بروز قراءات متباينة "للتيارات العقلانية في التراث العربي الإسلامي والحركة الوطنية التونسية وفي شمال إفريقيا" ولتجارب حركات الإصلاح والتجديد والنهضة الفكرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى جانب اختلاف في تقييم تجارب جماعات الإخوان المسلمين في المشرق العربي وللشخصيات التي تأثرت بها في البلدان المغاربية وأوروبا وفي المشرق الإسلامي.
 
واستفحل الخلاف والجدل في السجون والمنافي في حقبات مختلفة. وبلغ أحيانا حدة كبيرة مثل ما يؤكد النائب السابق لرئيس حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي .

لكن حصيلة الخلاف كانت انفتاح التيار السائد على المدارس غير الإخوانية والسلفية، ثم على التيارات اليسارية الوطنية والقومية الوحدوية في الحكم وفي المعارضة.
 
وتطور الانفتاح إلى مشاركة قيادات من النهضة في تظاهرات مشتركة في ليييا وسوريا ولبنان والعراق  مع زعامات قومية عروبية في الحكم والمعارضة بينها معمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد.. ثم انخرطت في مؤتمر الحوار القومي العربي ـ الإسلامي مع شخصيات قومية ويسارية اعتبارية مثل خير الدين حسيب ومعن بشور من العراق وعبد الحميد مهري من الجزائر ومسعود الشابي من تونس وحمدين صباحي من مصر وقيادات فلسطينية ورموز من "تيار الممانعة" في لبنان وفي المنطقة. لكن هذا المسار أجهض بعد الثورات العربية بسبب تباين المواقف من الحرب في سوريا وليبيا .

تفكيك المرجعيات الفكرية والسياسية
 
يعتبر صلاح الدين الجورشي الرئيس السابق لمنتدى الجاحظ واحميدة النيفر رئيس رابطة الثقافة والتعدد والباحث في الفلسفة بن عيسى الدمني.. أن التقييم والنقد مدخل رئيسي للمراجعات ولتفكيك الفكر الذي تسبب في شيطنة الخصوم وتكفيرهم .. بمن فيهم قيادات داخل التيار الإسلامي ..

ودعا الجورشي إلى تفكيك المرجعيات العقائدية والفكرية والسياسية لحركة النهضة ولبقية مكونات الأحزاب العقائدى الإسلامية.. قبل أي عملية تطوير أو تأسيس لمشروع ديمقراطي جديد ..

لكن الحوارات والمعارك الكلامية حول "الانتقال الديمقراطي" في تونس وداخل حركة النهضة، بما كشفت الحاجة إلى تفكيك "ألغاز مسكوت عنها" من بينها تحقيق "توازن" بين صلاحيات "الرئيس المنتخب" و"هيئة كبار الخبراء" أو "مجلس الشيوخ" وغيرهما من الهيئات التي قد يقرر المؤتمر القادم إحداثها ويسند رئاستها إلى الغنوشي في صورة موافقته على عدم الترشح لدورة جديدة مقابل "ضمانات" و"التزامات" من قبل مؤسسات الحركة والمؤتمر بـ "احترام المقامات" والاستفادة من خبرته الطويلة وشبكة علاقاته  ..

في الأثناء قد تعتبر الأغلبية من ناخبي النهضة وحلفائها أن أولوياتها مستقبلا اقتصادية اجتماعية وأن الصراعات الحزبية الداخلية قد تنال أكثر من شعبية الإسلاميين في الانتخابات القادمة.. وكانت النهضة خسرت ما بين انتخابات 2011 و2019 ثلثي ناخبيها رغم فوزها بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية.. وقد تؤدي الصراعات داخل النهضة إلى توجه مزيد من ناخبي "تيار الهوية " نحو منافسيها مثلما حصل في انتخابات 2019 عندما انتخب قطاع واسع منهم قيس سعيد وسيف الدين مخلوف والصافي سعيد في الرئاسية وليس عبد الفتاح مورو فيما فاز المرشحون الإسلاميون تحت قائمات "ائتلاف الكرامة" بالمرتبة الرابعة .. 

 

إقرأ أيضا: إسلاميو تونس والديمقراطية التنظيمية.. مراجعة هادئة1من2

التعليقات (0)