كتاب عربي 21

قرب قبر النديم

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
سأخبركم بشيء:

كل يوم يموت ناس..

وذلك ليس إلا البداية

كل يوم، في دور الجنازات تولد أرامل، ويظهر أيتام

يجلسون معقودي الأيدي/ يحاولون تقرير مصير حياتهم الجديدة

(2)
هذه ليست رسالة مسربة من بريد هيلاري كلينتون، لكنها مقطع من قصيدة للشاعرة الأمريكية "لويزا جلوك" الفائزة بجائزة نوبل للآداب هذا العام.

المؤسف أنني أعرف كلينتون جيداً، في حين لم أعرف جلوك قبل فوزها بالجائزة، برغم أن كلمات جلوك تشبه روحنا أكثر، وتتحدث عن حياتنا أصدق وأبرأ. وعندما طالعت بعضا من اشعارها بالإنجليزية وجدت الكثير من المفردات التي تتكاثر في لغتي، مثل الصمت والأشجار والليل والموت، والأمل المحاصر تحت أنقاض العلاقات المهشمة والنتائج الهزيلة، كذلك حضرت في أشعارها رمزيات الريح والشمس والقمر الوحيد الذي يعاند الظلام والقدرة على الحياة برغم كل المهالك.

(3)
لاحظت أن رسائل كلينتون "قلابة أوجه" يستخدمها الفرقاء كرقبة زجاجة مكسورة لطعن بعضهما البعض، لذلك تظهر حقيقة المتصارعين أكثر مما تظهر حقيقة كلينتون باعتبارها مجرد "ساحة قتال" تكسب من استضافة معارك المتقاتلين، فتبيع الأسلحة للطرفين وتبيع معها كلمات السلام ومستشفيات العلاج مدموغة بصليب أحمر بلون الدم.

(4)
العالم ليس على ما يرام، فالسلطان يهدم بيوت الفقراء ويشنق المحتجين نهارا في الطرقات، وفي المساء يحدثهم عن الحياة، وعن الأمان، وعن مشاريع البناء العظيمة في العاصمة الجديدة، وعن العلاج المنتظر من الوباء الذي يكمم الأفواه والرئات، بينما السلطان هو الوباء الذي تتحكم فيه كلينتون وإدارتها.

الحكاية لا تبدو مفهومة في السياسة، لذلك لم أستطع فهم شيء من "بريد كلينتون"، ولا من تصريحات بايدن، ولا من تبشيرات ترامب المريضة بالجهالة المعاصرة، فالسلاطين جميعا يتحدثون بلغة غير لغتنا ويؤمنون بدين غير دين الناس، لذلك استوقفتني قصة اعتراف الولد الفقير للقس كما حكتها السيدة جلوك:

لا يملك أهله أي شجرة

لذا يسرق أحياناً

إنه لا يسرق تماماً (بالمعنى الذي يحدده قانون السلطان)

فقط يحب الفاكهة، ويأكل ما يقع منها على الأرض..

(هكذا قال الولد للقس)

آكل كما تأكل الحيوانات

لا أفكر في تصرفي كخطيئة/ لأني أتناول ثماراً سقطت لتتعفن على الأرض

هذا ما يحدث دائماً

عندما تعامل القس كإنسان اتفق مع الولد، لكنه كقسيس هدده بالعقاب..

شكرا أبانا

(5)
لسبب لا أعرفه فكرت طويلا في الأيام الأخيرة لعبد الله النديم، لم أفكر فيه كما يكتب عنه الناس عادة في مقالات التأريخ الفاتر: مجرد هارب بعد انكسار أمل الثورة وتغير الأحوال، ولم أفكر في التماسه العفو تحت ضغط الضرورة وخطر السجن، ولم أفكر في علاقته القلقة بالسلطان، فكرت فيه كحلم مجهض في قبر مجهول.

قصة القبر المجهول تثير خيالي وأفكاري منذ مـأساة الموت الدرامي للإمام علي، وحتى السؤال عن مصر مصطفى النجار، أو مكان قبر جيفارا، أو مغزى دفن ابن لادن في البحر، أو أسطورة اختفاء جثة النقابي الأمريكي جيمس هوفا بكل ما يصاحبها من تقاطعات مريبة عن ارتباط عصابات مافيا بالسياسة الأمريكية ومصائر الرؤساء، ولغز اغتيال كيندي..

(6)
استيقظت صباحاً وخرجت مدفوعاً بالرغبة في الحوار مع النديم، على يميني البحر وقصر عثماني بديع، على يساري سور حجري مزين بصور كبيرة من حياة مصطفى أتاتورك. شعرت بأنني في ممر إجباري بين سلطتين، لم ينقذني من هذا الهاجس إلا الاتجاه يساراً وصعود التلة التي ينام فوقها النديم قبالة البحر في بشكتاش، وعندما دخلت مقبرة "يحيى أفندي" عادت أجواء لويزا جلوك تنقر الذاكرة، لكنني لم أتذكر القصيدة التي تعبر عن إحساسي بالمشهد، كانت قصيدة عن مصائر السكان الأصليين الذين أكلهم الرجل الأبيض ولم يترك منهم إلا بقايا صور وذكريات ومقابر. ولما عدت إلى البيت بحثت عن القصيدة طويلاً، واقتطف منها بتصرف وبدون ترتيب ما يصور إحساسي عند قبر النديم، حيث تبدو الثورة وسكانها مثل الأوراق الجافة الساقطة، ومثل البراعم المؤملة المتبقية من شجرة السكان الأصليين:

المقبرة كانت صامتة

الريح تنفخ بين الأشجار، فأسمع أنيناً خافتا لبكاء صفوف الأشجار المتوالية

وفي الخلفية يعوي كلب بنباح حزين..

تذكرت أنني وحدي

سألت: أين ذهب الآخرون؟

قالت: إنك تدوس على والدك!

كنت أقف على سجادة خضراء مقصوصة بعناية، فخطر ببالي أنه قد يكون قبر والدي، برغم عدم وجود شاهد قبر يدل على ذلك

كررت (بصوت أعلى هذه المرة): إنك تدوس على والدك

بكيت: لا تنساني

نحن نمضي الآن بين الكثير من المؤامرات، الكثير من الأمهات والآباء

قال مشيراً إلى المسارات: بالتأكيد تدرك أن هذه هي النهاية، فالمسارات لا تذهب أبعد من ذلك

كانت كلماته قاسية لكن نظرة عينيه كانت حانية

قال: كما تعلم، مهمتنا صعبة لأننا نواجه الكثير من الحزن وخيبة الأمل

ثم نظر إليّ وقال بصراحة أكثر: تعرف أنني كنت مثلك أحب التمرد والثورات

سألته: هل ترغب في العودة إلى الوطن؟

قال: أي وطن؟.. وطني في هذا الحضور الخفي

أما هناك في المدن الغارقة في الأكاذيب.. أختفي

(7)
أتذكر نظرات كلينتون أثناء زيارتها لميدان التحرير، وأتذكر صورة ميدان الثورة بعد أن امتلأ بالقمامة والمخبرين الذي اتخذوا سمت الباعة الجائلين، وأتذكر مع ذلك الكثير من المؤامرات، والكثير من الآباء والأمهات الذين أفرزتهم الثورة ثم بدأ الوحش ياكلهم واحداً واحداً، بحيث لم يتبق في الساحة إلا الوحش في صورة رئيس فرد.

وتذكرت غصة في القلب قبل أيام عندما اصطدمت عيني بتقرير إخباري في أحد المواقع اللبنانية عن قتل المعارضين في مصر، بالشنق والقمع والفقر والنفي والسجن، وقلت: يا نديم/ يا أبي النائم في الخفاء/ لم تعد وحدك غريباً/ لم تعد وحدك مطارداً/ لم تعد وحدك منفياً/ لم تعد وحدك محاصراً بين خديوي وسلطان/ لقد صرنا يا نديم شعباً يستحق الرثاء..

(8)
كانت المقبرة صامتة/ لكن قلبي كان صاخباً/ وعقلي كان مختنقا بالأسئلة، لدرجة الرغبة في صمت احتجاجي تام، لا يقطعه نحيب الأشجار ولا نباح الكلاب ولا ثرثرة الحمقى المتشاحنين، فكل يوم نشاهد أناسا يموتون، وكل يوم تتكاثر في الجنازات وسرادقات العزاء أعداد الثكالى والأرامل والأيتام، وكل يوم يتشاحن الأوصياء على تركة القتلى من غير اكتراث بتقرير مصير حياتنا الجديدة.. حياة ما بعد الابتلاء..

[email protected]
1
التعليقات (1)
Elnashar
الأحد، 07-03-2021 07:30 م
في هذ المقال يشعر بك القارئ تشكو وتنتحب بعمق وفي صمت مرير وطويل وطوله الزمني يمتد من زمن عبدالله النديم الى زمن 2020 ،ولكن عزاؤك هو إخلاصك لقيمك ومبادئك التي يشاركك فيها الكثير وهم بالملايين .ولكن حقيقة اأنك ذهبت الى قبر النديم فهي تعني أنك لم تجد من بين الأحياء حولك من يحمل هذا العبء الكبير معك .