حقوق وحريات

"خدمة الجمهور".. عقوبة إسرائيلية لتهجير المقدسيين

العقوبات تمنع المقدسيين من العمل مقابل أجر وتستنزف يومهم- جيتي
العقوبات تمنع المقدسيين من العمل مقابل أجر وتستنزف يومهم- جيتي

لا يزال المقدسي جميل العباسي، يتذكر تلك الأيام الطويلة القاسية، التي أمضاها في ما تسمى "خدمة الجمهور"، وهي عقوبة تستخدمها سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين في القدس المحتلة بشكل كبير.

"أيام سوداء" كان وصفه لها؛ فجميل الأب لخمسة أطفال لم يتسن له خلالها رؤيتهم إلا وهم نيام، بسبب انشغاله الدائم ما بين قضاء حكم "خدمة الجمهور" وبين عمله الذي يجلب لأطفاله القوت اليومي.

العقوبة المذكورة تستخدمها محاكم الاحتلال ضد الفلسطينيين في القدس المحتلة، والداخل المحتل عام ١٩٤٨؛ كبديل عن السجن الفعلي، ولكنها على عكس كل أحكام دول العالم تنفذ بحق أشخاص ليست عليهم تهم ولا دلائل، ما يعزز نظرية المقدسيين أنها عقوبة عنصرية بامتياز تهدف فقط إلى التضييق عليهم، وإجبارهم على الرحيل من مدينتهم لصالح مخططات التهويد.

ويقول العباسي لـ"عربي21" إنه اعتقل عام ٢٠١٤ لمدة ٢٤ ساعة، بتهمة المشاركة في استقبال أسير تحرر من سجون الاحتلال؛ وتم الإفراج عنه دون أي شروط، ولكن في عام ٢٠١٨ وتزامنا مع أحداث إعادة فتح مصلى باب الرحمة، اعتقل مجددا دون أي مبرر وتمت العودة بملفه أربع سنوات إلى الوراء.

ويوضح أنه حينها شعر بأن الاحتلال يضع نقاطا سوداء على أسماء معينة، وينتظر الأيام المناسبة كي يبدأ بالعقوبات اللامنطقية؛ فخلال أحداث مصلى باب الرحمة أراد إشغال العباسي بسلسلة من المحاكم لإبعاده عن المشهد.

وبالفعل بدأ الاحتلال يحاكمه على ملف لا يحتوي على تهم واضحة أو حتى ترقى إلى مستوى التهم؛ ولكن المخابرات الإسرائيلية هي التي تتحكم بجميع القضايا ومفاصلها، وبعد جلسات طويلة تم الحكم على العباسي بقضاء ستة أشهر ضمن ما تسمى "خدمة الجمهور".

ويقول إن الخدمة كانت تبدأ يوميا من الساعة السابعة صباحا، وحتى الثالثة عصرا بدون أي مقابل؛ وتوزعت ما بين دور المسنين والمطابخ التابعة للمؤسسات الرسمية الإسرائيلية في عمل وصفه بالمرهق والمذل.

ويضيف: "كانوا يتعمدون إذلالنا نحن الفلسطينيين المحكومين بخدمة الجمهور؛ فيضاعفون العمل علينا ويجعلونه صعبا وقاسيا، ويجبروننا على تغيير الحفاض للمسنين أو العمل في غسل الأطباق وتنظيف دورات المياه، وكأنهم ينتقمون منا".

ولكن هذا الجزء لم يكن الأصعب في عمل العباسي؛ فعمله كان يحرمه من رؤية أطفاله وشكل عبئا ماليا كبيرا عليه، حيث إنه يحرمه من العمل بمقابل في أي جهة أخرى لأنه يستهلك جميع وقته.

ويوضح أن عمله المجاني الإجباري في خدمة الجمهور كان بعيدا عن مكان سكنه ويضطر لركوب حافلة وقطار ومركبة للوصول إليه؛ وبعد الانتهاء منه يتوجه إلى داخل القدس للعمل من ساعات العصر وحتى العاشرة ليلاً في تدريب كرة القدم وهو العمل الذي كان يتقاضى أجرا مقابله، ولكنه لم يكن يرى أطفاله في تلك الفترة إلا نياماً؛ وفي أحيان نادرة كانوا ينتظرون عودته متأخرا فيقبلونه ويخلدون للنوم.

وبقي جميل على هذه الحال لمدة شهرين؛ وبعدها استدعته سلطات الاحتلال مجددا، وأخبرته بأنه يشكل خطرا على "الجمهور" وأنها ستطلب سجنه فعليا في الأشهر الأربعة المتبقية له في هذه الخدمة تحت هذه الحجة.

ويشير إلى أن سلسلة محاكم ما زالت تعقد له في هذه القضية، حيث يطالب الاحتلال بحبسه فعليا، لافتا إلى أن المخابرات الإسرائيلية هي التي تتحكم في جميع القرارات بهدف تنغيص معيشة المقدسيين.

ويضيف: "تعرضت للتضييق بكل الأشكال؛ حيث تم فرض ضريبة الأرنونا علي بآلاف الشواكل وإصدار مخالفة سير بحقي مع حبسي لشهر رغم أن الأمر لا يحتمل كل ذلك؛ وكل هذه التضييقات لثنينا عن التواجد والصلاة في المسجد الأقصى؛ لأن كل من يرابط فيه يتعرض لهذا النوع من التضييق في كل شيء، ولكنهم لن يثنونا عن التواجد فيه فهو كل حياتنا ولن نتخلى عنه".

ظلم وعنصرية

وتندرج "خدمة الجمهور" ضمن العقوبات التي تفرض على المقدسيين بمعدلات مرتفعة دون مبرر، ويرون أنها تفرض عليهم لأهداف سياسية.

ويقول رئيس لجنة أهالي أسرى القدس أمجد أبو عصب لـ"عربي21" إن هذه العقوبة هي جزء من العقوبات التي يفرضها القضاء الاحتلالي على الفلسطينيين، وهي تنفذ في حال كانت هناك تهم بسيطة لمقدسيين فيتم استبدال خدمة الجمهور بالحكم، لمدة تتراوح ما بين شهر وعشرة أشهر.

 

اقرأ أيضا: شاهد عيان يروي لـ"عربي21" أحداث مجزرة الأقصى قبل 30 عاما


ويوضح أن هذه العقوبة لا تستثني السيدات أو الفتية من العمل بها؛ وتكون عادة داخل دور رعاية المسنين ومستشفيات ومؤسسات إسرائيلية وتكون مراقبة من ضابط السجون الإسرائيلي الذي يأتي بشكل مباغت على مكان العمل للتأكد أن الشخص المحكوم يعمل لمدة ٨ ساعات.

ويشير إلى أن الشخص لو كان محكوما بالعمل في الخدمة لمدة ستة أشهر، وعمل لمدة طويلة ثم تغيب ليوم واحد لظرف ما، فإنه يتم إلغاء جميع ما عمل به من أيام في محاولة للتضييق عليه أكثر، ثم يتم سحبه للسجن باعتبار أنه خرق الشروط.

ويصف أبو عصب هذه العقوبة بأنها استنزاف لطاقات المقدسيين وصحتهم ونفسيتهم ومالهم؛ حيث إنه حين يكون الشخص محكوما بالعمل لثماني ساعات يوميا من الصباح وحتى المساء فلا يعطيه ذلك أي فرصة للعمل بشكل خاص، وعادة ما يكون العمل شاقا في مؤسسات ضخمة مثل حديقة الحيوانات والمغاسل والمستشفيات وكله يتطلب جهدا كبيرا.

ويتابع: "عادة ما يأتي هذا العمل بعد فترة طويلة من الحبس المنزلي لعدة أشهر؛ وبالتالي لا مجال أمامه للعمل وكسب المال وهو ما يجعل ظروفه المعيشية سيئة للغاية، وقد تضطر الزوجة أو الأبناء للعمل لتأمين مصاريف هذه المرحلة".

وتنطبق هذه العقوبة على الفلسطينيين في الداخل المحتل عام ١٩٤٨ كذلك، ولكنها تطال أعدادا أكبر في القدس المحتلة بسبب حجم الاستهداف للمقدسيين، علما بأن مخابرات الاحتلال ترفض في بعض الأحيان تحويل الشخص للخدمة بحجة أنه يشكل خطرا على الجمهور وبالتالي تطالب النيابة بسجنه فعلياً.

ومما يضاعف معاناة المقدسيين في هذا الإطار عدم وجود أي مؤسسة فلسطينية ترعى هؤلاء الذين يعملون في "خدمة الجمهور" سواء ماديا أو معنويا.

"ضريبة الصمود"

وتعتبر الناشطة المقدسية وفاء أبو جمعة (٥٢ عاما) من سكان حي الطور شرق القدس المحتلة مثالا واضحا على هذا النوع من العقوبة، حيث لا تسمح لها ظروفها الصحية بالعمل في "خدمة الجمهور" ورغم ذلك تصر عليها مخابرات الاحتلال على أن تؤدي ثمانية أشهر منها.

وتقول لـ"عربي21" إنها اعتقلت ثلاث مرات بدءا بعام ٢٠١٥ وفي كل مرة كانت تحاكم بالحبس المنزلي ويتم التحقيق معها بحجة التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي أو تهديد المستوطنين في المسجد الأقصى المبارك.

وفي المرة الأخيرة من اعتقالها قرر الاحتلال تحويلها لخدمة الجمهور لمدة ثمانية أشهر الأمر الذي رفضته وطلبت بديلا له كالحبس المنزلي أو دفع الغرامات المالية؛ ولكن الرد من الاحتلال جاء أن البديل الوحيد هو الاعتقال.

وتبين وفاء أنها تعاني من حالة صحية لا تمكّنها من القيام بأي أعمال حتى في منزلها؛ فهي مريضة بالقلب والسكري وتعرضت لحادث دهس من قبل مستوطنة إسرائيلية تركتها ملقاة في الشارع وهربت، ما أصابها بكسور بالغة في ذراعيها، وحتى الآن فهي لا تتمكن من تحريكهما بشكل كامل.

وتعتبر وفاء أن "خدمة الجمهور" فرضت عليها عقابا وليس حلاً لأي مشكلة؛ فهي أبلغت القضاة مرارا بأنها تعاني من مشاكل صحية لكنهم لم يكترثوا لذلك، كما أنهم علموا أنها لن تتمكن من القيام بالأعمال الموكلة إليها إلا بصعوبة شديدة، وهو ما يريدونه تماما، بحسب قولها.

وتضيف: "هذه ضريبة الصمود ندفعها بهذا الشكل وبأشكال أخرى، وهم يريدون فقط إذلالنا ومحاولة ترحيلنا عن مدينتنا، ولكننا نحتمل كل ذلك في سبيل القدس والأقصى".

التعليقات (0)