قضايا وآراء

مَتَى نُغيِّرُ ما بأَنْفُسِنا لِيَتغَيَّرَ حَالُنا؟!..

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

التَّمزُّق والتَّدابُر والتَّنافُر الذي أصابنا نحن العرب، وجرَّنا إلى صراعات دامية أغرت بعضنا ببعض، وأغوت البعض مِنَّا فغدوا تبعاً يستقوون على الأمة بموالاة أعدائها، ومستضعفين يركضون وراء الأقوياء ولا يتوقُّون المُذِلَّة ويتَغاوون بالحلفاء ويغرقون في الإغراء ويوالون أعداء الأمة والدين.. كل ذلك حوَّلنا من حماة للدين/ الإسلام وعوناً للمسلمين إلى أنظمة خارجة على جوهر الإسلام وتعاليمه الواضحة السليمة السمحة تجافي الأهل وتكسِر الظهر، بل جعلت من بعضنا حرباً على الدين والقومية والهُوية العربية الإسلامية، وعامل إضعاف لمسلمين وقوة تحالفات عليهم من أعداء تاريخيين ناقمين على الإسلام والمسلمين. 

من المسلمات السياسية

وقد أصبح هذا الوضع المُتهافت قومياً وإنسانياً مسلمَّات سياسية في أقطار، ومبادئ وتوجهات اجتماعية وتربوية وإعلامية وثقافية لدى سياسيين وفي سياسات وأحزاب وفئات، الأمر الذي جعل منه نقمة على الأمة العربية وعلى المتمسكين بالعقيدة. وها نحن من جراء ذلك، نشهد في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين على الأقل انهيارات وانقسامات ودماراً وخسارات وانتكاسات وفتناً مأساويات، وضعفاً وإضعافاً للأمة، وتفريطاً بالأمور الجوهرية وبالقضايا الرئيسة، وتنازلاً عن المبادئ والحقوق والأخلاق والقيم، وتفتيتاً للصف وتردياً للهيبة والمكانة والقدرة والقوة والرأي والرؤية، بل وتواطؤاً من أنظمة ضد أنظمة، وحرباً من أقطار على أقطار، واستهانة بالروابط والعلاقات والمصائر المشتركة، وتحالفاً مع أعداء تاريخيين يجعلهم متحكمين بالقيادة والإرادة والسيادة، ومسيطرين على الأموال والثرات، ومنتهكين لكرامة الأوطان والإنسان في بلاد العرب والمسلمين.

وإذا كان هذا الذي أشرنا إلى بعضه من "منجزات سياسة باركة أو تابعة أو قاصرة أو متآمرة" فإن استمراره سيجلب علينا من المصائب ما هو أعظم مما أصابنا على صُعد وطنية وقومية، ودمر ما دمر من قيم في مجالات إعلامية وثقافية وتربوية واجتماعية.. وها هي بوادر ذلك تظهر في تشويه للعلاقات والمفاهيم والقيم العربية ـ الإسلامية، وفي تطاول على الثوابت المبدئية والوطنية والأخلاقية، وفي نقض للمنطق وللسليم من المفاهيم، وتجاوز للصحيح من الوقائع، ونيل من الهوية والانتماء والإيمان، بل وتآمر يندى له الجبين، وتصاعد للمد العدواني وسيطرة للأعداء على بلدان عربية وإسلامية، يعززون فيها وجودهم ويقيمون قواعد عسكرية، ويزحفون على مواقع الإرادة والسيادة والقرار.. 

وفي الوقت ذاته وبتزامن مثير للغرابة نشهد احتدام الصراع الدموي العربي ـ العربي، وتصعيداً للتهديد، وحرصَ حكومات عربية على التمسك بالقوى الأجنبية في بلدانها، وموالاة أنظمة وحكام عرب لأعدى أعداء العروبة والإسلام.

لقد كان القرن العشرون في معظمِه قرن نضال عربي من أجل التحرر من الاستعمار، "الفرنسي والبريطاني والإيطالي والإسباني" وغيره من أشكال الاستعمار والنفوذ والهيمنة، ومقاومة لإقامة القواعد العسكرية في الوطن العربي وللموالاة لغير الأمة، ونضالاً ضد الأحلاف وعلى رأسها حلف بغداد، وكفاحاً مسلحاً من أجل تحرير فلسطين والانتصار على الصهيونية العنصرية وحلفائها.. وكان في معظم تلك المواجهات تضامن عربي وتنسيق عسكري وأمني بين أقطار عربية. 

وفي القرن العشرين نشأت منظمة التحرير الفلسطينية وبدأت المقاومة الفلسطينية المجيدة، وولد ميثاق للدفاع العربي المشترك، "لم يتجسد عملياً كما يجب"، وتعزز رفض عربي رسمي وشعبي للهزيمة والاستسلام، رغم الخسائر الفادحة والنكسات، وتجلى ذلك أكثر ما تجلى في "لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث".. واستمر النضال من أجل التحرير والتحرر والوحدة والتقدم والنهضة العربية الشاملة بسعي للتكامل بين الأقطار وبتعاون الآباء والأبناء.. 

 

كان القرن العشرون في معظمِه قرن نضال عربي من أجل التحرر من الاستعمار، "الفرنسي والبريطاني والإيطالي والإسباني" وغيره من أشكال الاستعمار والنفوذ والهيمنة، ومقاومة لإقامة القواعد العسكرية في الوطن العربي وللموالاة لغير الأمة،

 



ونتيجة للمقاومة ضد الاستعمار وللتضامن العربي: تحررت مصر، وسوريا، ولبنان، والعراق، واليمن "جزيرة بريم وعدن"، وتونس، والجزائر، وموريتانيا، والسودان وأرض الصومال.. تحررت بالمقاومة والتضامن من الاستعمار البغيض، ونشأت في محميات الخليج العربي ومشيخاته التي كانت تحت السيطرة البريطانية دولٌ مستقلة ذات سيادة، واستقل الأردن، وأنشأت مصر ما أنشأته من منشآت وحررت ما حررته من ثروات، وقادت حركة التحرر والتضامن العربيين، ونما التعاون العربي سعياً للوصول إلى التكامل.. وكانت تضحيات والتزامات عربية متبادلة أملاها انتماء وشعور قومي ووجدان جمعي وإيمان بالله والوطن.. 

عودة القابلية للاستعمار

أمَّا اليوم، في القرن الحادي والعشرين، فنمرُّ، نحن العرب، في حال هي النقيض لما كنا عليه في القرن الماضي.. نستقدم المُحتل ونهزُج له ونمكِّنه من تعزيز وجوده على أرضنا وندفع التكاليف، ونتعاون مع الأجنبي المعتدي على تدمير هذا البلد أو ذاك من بلداننا، وتتمسك بلدان من بلداننا بالاحتلال كأنه منقذ ورأس مال، بعد كل ما دمَّر وشرد وقتل، وتعلن أنه "إذا خرج المستعمر من البلد ففي ذلك هَلاكْ؟!"، والأمثلة على ذلك مُعلَنة على الملأ بألسنة ناطقين باسم حكومات في أقطار عربية كانت رائدة في الدعوة إلى التحرر من الاستعمار وتحرير المحتل من الأرض ودحر الصهيونية وتحرير فلسطين، وفي رفض كل شكل من أشكال التبعية وإدانة القابلية للاستعمار؟! 

وبدلاً من التمسك بالاستقلال والسيادة والدفاع عن الوطن والشعب، يوجد بين دولنا العربية اليوم وبين بعض مواطنينا مَن يفرش السجاد للأعداء، ويمكن الصهيونية والقوى الاستعمارية العالمية الكبرى من بلاده وفي بلاده، وينادي بعودة الانتداب، ويوجد مَن يستقدم قوات أجنبية تحتل أرضه وتقتل شعبه وتدمر وطنه، وتنتهك حرمة شعبه والسيادة التي دفع الشعب دماً غزيراً للحصول عليها. ويوجد من يدفع تكاليف الاحتلال، وثمن أسلحة يشتريها ويخزِّنها ويصونها ليستخدمها المحتل في حروبه ضده وضد أمته ودينه، من دون أن يسمح له باستخدامها في الدفاع عن نفسه أو في معارك ضد الاستعمار الجديد والصهيونية المغْتَصِبة لفلسطين والمحافظة على المصالح والثروات.. 

هناك من يفعلون ذلك ويتفاخرون بما ينجزون، ويدفعون المليارات من الدولارت عندما يتحرك لسان القوة المتوحشة قائلة بلسان القوة الخشِن: "ادفع"، أو مطالبة بالامتثال للتطبيع مع كيان الإرهاب الصهيوني والاعتراف به على حساب فلسطين وشعبها، في نقض مهين للمبدئية الأخلاقية، والعدالة الدولية، والانتماء القومي، والكرامة الإنسانية.. ملبِسَة المهطعين ثوب العار مجبرة إياهم على التسبيح بحمد القَتَلَة العنصريين ومباركة الاحتلال القاتل، وذم الأمة والخروج عليها لترضيه وتسترضيه؟! 

 

إلى متى يستمر هذا الوضع الشاذ الذي يضعنا ولا يرفعنا، ويدمرنا ولا يخدم مصالحنا، ولا يحيينا ولا ينقذنا مما آل إليه أمرنا، ولا ينسجم مع تكويننا واعتقادنا ولا مع ما كنا عليه وما نتطلع إليه.؟!

 



أفلا نرى ذلك اليوم، ومنا من يبارك ومنا من يصمت؟! فمن منا لم ير مَن يتحالفون مع الصهاينة العنصريين الإرهابيين القَتَلَة، ويذمون أمتهم ويتهمونها بالإرهاب، ولا يدافعون عن الدين عندما يلصِق به الإرهابيون العالميون تهمة الإرهاب زوراً وبهتاناً؟! 

إن بين دول في وطننا العربي حروباً مدمرة طويلة الأمد، وصراعات سياسية تبلغ حدَّ التآمر والذبح، وهناك قطيعة وحصار اقتصادي ومهاترات في السياسة والإعلام، وفي بلدان من بلداننا، للأسف الشديد، حروب أهلية وشبه أهلية، وفتِنٌ كريهة، مذهبية وطائفية وعرقية، وميليشيات عابرة للأقطار، ومؤسسات قتل دولية، ومرتزقة من دول وملل، وكل ذلك يعمل على تخريب الأوطان، وإرهاب الشعب وإفقاره، وتدمير مؤسسات الدولة وممتلكات الأفراد، ويوغل في القتل والإجرام ويشرد ملايين المواطنين في بلدان العالم.. وفي بلدان من بلداننا كوارث ومجاعات وجائحات تشمل عشرات الملايين من الناس، لا سيما الأطفال والنساء والشيوخ، وفي وطننا العربي فقر ومرض وانتهاك للحريات والحقوق، وفقدان للأمن، وذل وعار يتربع فوق الهامات والرّقاب، مما أصبحت تعرفه الأمم وتُعيِّرنا به وتضرب بنا مثلاً للتردي والانهيار والدمار، عندما تلوح لها مخاطر تتهددها؟!.. 

بين دولنا العربية تدمير للعلاقات والثقة والاعتماد المتبادل، ونقض للتآلف والتعاون والتكامل، وبين أبناء أمتنا مَن يسيء للأمة وتاريخها عن قصد، بجهل مطبق وجاهلية حمقاء، ومَن يفتري ويشوه صورة العرب والمسلمين، ويناصر الأعداء بالافتراء وتشويه للوقائع والحقائق والتاريخ، وبيننا للأسف مَن يفاخر بتحالف مع أعداء الأمة والدين، مع الصهاينة القتلة الإرهابيين المجرمين ويقف ضد فلسطين وشعبها ومقدساتها وعروبتها ومقاومتها ودفاعها عن النفس والحق، وذاك منتهى العار.. 

نحن أبناء الأمة العربية اليوم، أمام ادعاءات عريضة مريضة بأننا "أمم"، وأمام سَدَنة للتبعية والانحلال يرقصون على أشلاء أمة عريقة، أضحت بسببهم وبموالاتهم وبسبب من أخطاء غيرهم ومن أعدائها، أعداء العروبة والإسلام، مزعزعة مقسمة متعادية متقاتلة متآكلة متهالكة.

نحن اليوم أمة أنهكتها حروب وصراعات دامية مجنونة، في داخل أقطار من أقطارها دمار ونار، وهناك من يصب على النار فيها زيتاً لتزيد اشتعالاً وإحراقاً. أمة يتحالف المتقاتلون مِن أبنائها مع مَن يستدعيهم ساسة "مؤلَّهون"، وزعماء مستأجرون، وقادة ضالون ومعارضون تابعون.. للمناصرة والذبح والتدمير والتشريد، فتُرتكب في عقر دارنا أبشع المجازر، وتستفحل أشد الكوارث، وتنتشر أسوأ الفِتن المذهبية والطائفية والعرقية و.. ولا يستفيد من ذلك إلا المُسْتَقدَمون الذين لا يريد أيٌّ منهم خيراً لشعبنا ووطننا وأمتنا وديننا، رغم تلفَّعهم "بالخير" وإظهارهم ما لا يبطنون.. وتعيش أمتنا من جراء ذلك فتناً وويلات، وتحتقن بأحقاد وكراهيات، ويؤسس ذلك لصراعات وإحياء قَبَليات وطائفيات ومذهبيات سقيمة وعقيمة، كان الآباء قد تجاوزوها.. 

وكل هذا الذي يجري، يُشيع الفوضى ويُضري الفساد والإفساد، ويضاعف المعاناة، ويُضعف ويُردي، ويجعل الأخ يأكل لحم أخيه ميتاً، ويدمر القيم والهوية والاستقرار والعلاقات، ويشوه الواقع والتاريخ، الحاضر والماضي، ويعلن حرب الذات على الذات، على ما كان وما يمكن أن يكون، حيث تتراكم الأحقاد وتعشش الكراهية ويعيش المظلومون والظالمون والثأريون حياة هي الرعب واليأس، البؤس حتى بلوغ الرَّمس.. فإلى متى يستمر هذا الوضع الشاذ الذي يضعنا ولا يرفعنا، ويدمرنا ولا يخدم مصالحنا، ولا يحيينا ولا ينقذنا مما آل إليه أمرنا، ولا ينسجم مع تكويننا واعتقادنا ولا مع ما كنا عليه وما نتطلع إليه.؟!  

وضع بؤس لا مصلحة فيه لمواطن ووطن وأمة، ولا لإنسان يريد أن يعيش حياته التي تمر دقائقها سراعاً ولا تعود أبداً! أفلا نفكر، ونتعظ، ونغير ليتغير ما بنا.. ﴿… إِنَّ اللَّه لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم… ﴿١١﴾ ـ سورة الرعد.

التعليقات (0)