كتب

هكذا وقفت ليبيا ملكا وشعبا إلى جانب الثورة الجزائرية

كتاب يوثق لإسناد الملك إدريس السنوسي للثورة التحريرية في الجزائر  (عربي21)
كتاب يوثق لإسناد الملك إدريس السنوسي للثورة التحريرية في الجزائر (عربي21)

الكتاب: الملك إدريس السنوسي والثورة الجزائرية
الكاتب: محمد الصالح الصديق
الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر/ الجزائر
عدد الصفحات: 168 صفحة
تاريخ النشر: تشرين الثاني / نوفمبر 2019.

لم تكن الحدود القُطرية ولا الاستعمار ليحد من التواصل الاجتماعي والثقافي والسياسي بين شعوب المغرب العربي، فالدين والمذهب واللغة والتاريخ والتراث عوامل جعلت من تواصل الشعوب وتنقلاتها البينية لا تتوقف، بل جعلت من غير المستهجن أن يقود عبد العزيز الثعالبي الجزائري الأصل الحزب الدستوري قاطرة العمل التحريري في تونس، كما أن الجزائريين اجتمعوا على أحمد بن بلة الذي كان يقول دائما إنه مغربي الأصل أول رئيس للجزائر المستقلة.

إن مثل هذه المشتركات جعلت المساندة البينية لثورات الاستقلال في بلدان المغرب العربي بدون حدود، ولعل من أبرز ملاحم هذا الترابط هو الدعم الليبي (الرسمي والشعبي) للثورة الجزائرية (1954 ـ 1962) الذي أشرف عليه شخصيا الملك الليبي الراحل إدريس السنوسي.
 
الكاتب والمفكر الجزائري محمد الصالح الصديق وقد تجاوز عمره الـ 100 سنة لم يزل قلمه فتيا، وفكره صافيا ومنهجيا، ولا أدل على ذلك كتابه الأخير "الملك إدريس السنوسي والثورة الجزائرية"، والذي سجل فيه شهادته وذكرياته على الدور المحوري للملك الليبي الراحل محمد إدريس السنوسي والشعب الليبي برمته في دعم الثورة الجزائرية، وتأتي أهمية شهادته من موقع أن المؤلف عمل كمسؤول عن الثقافة والإعلام في مكتب الثورة التحريرية الجزائرية في طرابلس في تلك الأيام.

عودة إلى الجذور

ترجع أصول الطريقة الصوفية السنوسية إلى زعيمها محمد بن علي السنوسي الخطابي، وهو من أعيان القرن التاسع عشر الميلادي، وأصله من قبيلة "مهاجر" من بادية مستغانم غرب الجزائر، حيث أسّس زاويته الأولى في ليبيا بالجبل الأخضر قبل أن يختار واحة جغبوب في الجنوب قلعة ومحجا لآلاف الأتباع والمريدين.

وقد ذاع صيت السنوسيين في منطقة شمال أفريقيا وجنوب الصحراء وخاصة في ليبيا والسودان بسبب جمعها بين التعليم الديني الصوفي، و"جهادها" ضد الاحتلال العسكري البريطاني في السودان والإيطالي في ليبيا: "امتدت الطريقة السنوسية إلى الصحراء الكبرى وما وراءها وخاصة في طرابلس وتونس والجزائر ومراكش وتعددت زواياها ومدارسها ومساجدها وأصبح السنوسيون قوة ومكانة وتاريخا، حتى بدوا كالملوك في بلادهم يحاربون الدول الاستعمارية ولا يبالون، ويسعون في التغيير والتبديل ولا يعيرون أي اهتمام لمن أحب أو كره أو وافق أو خالف". (ص 29).

وينحدر محمد إدريس السنوسي، ملك ليبيا، من هذه الشجرة، فهو حفيد محمد علي السنوسي الكبير، وُلد بجغبوب في 12 آذار (مارس) 1892. وأخذ يتلقّى تعليماً دينيّاً تقليديا، مع مسحة من تنمية الروح الإبداعية المولدة للفهم والوعي والإدراك. وعندما بلغ مرحلة الشباب وتهيّأ للقيادة، تولّى زعامة "السنوسية"، وذلك سنة 1915، وكان الوضع أيامها صعبا عسيرا، بسبب الاعتداء العسكري الإيطالي على برقة وطرابلس.

وفي سنة 1920، اعترفتْ به إيطاليا أميرا، لكنّه لم يستقرّ في بلده، بل غادره إلى مصر، مباشرة بعد تولّي موسوليني السلطة في إيطاليا، ووضعه لكل من طرابلس، وبرقة، وفزان تحت الحكم العسكري للإيطاليين.

 

ترجع أصول الطريقة الصوفية السنوسية إلى زعيمها محمد بن علي السنوسي الخطابي، وهو من أعيان القرن التاسع عشر الميلادي، وأصله من قبيلة "مهاجر" من بادية مستغانم غرب الجزائر، حيث أسّس زاويته الأولى في ليبيا بالجبل الأخضر قبل أن يختار واحة جغبوب في الجنوب قلعة ومحجا لآلاف الأتباع والمريدين.

 



ولم يبق الأمير إدريس مكتوف اليدين أمام هذا الوضع، بل نزل إلى الميدان للجهاد والمقاومة برفقة طائفة من الأبطال الذين ساندوه وناصروه وأبرزهم الشهيد الرمز عمر المختار. 

وخلال الحرب العالمية الثانية، تعاون الملك إدريس السنوسي مع البريطانيين بنفوذه ورجاله إلى أن تمّ جلاء الإيطاليين، فاعترفتْ به بريطانيا أميرا على برقة، وذلك سنة 1949. وبعد انتهاء وصاية هيئة الأمم، اعتُرف بليبيا دولة مستقلة بولاياتها الثلاث (طرابلس وبرقة وفزان) سنة 1951، وأعلنت الجمعية الوطنية تنصيبه ملكا على ليبيا.

ويرى المؤلف محمد الصالح الصديق أنّه كان من الطبيعي أن يتخندق الملك إدريس مع الثورة الجزائرية، بكلّ ما يملك من عواطف؛ وذلك بسبب أنّ الجزائر تُعدُّ منبت آبائه وأجداده، ويسرد المؤلف العديد من أشكال تضامن اللّيبيين مع الثورة الجزائرية، التي رآها خلال وجوده بطرابلس الغرب موفدا ضمن إدارة البعثة الجزائرية التي كانت تقوم بالدعاية لصالح الثورة الجزائرية من 1958 إلى 1962.

من مظاهر الدعم الليبي للثورة الجزائرية

بأسلوبه الأدبي الرفيع، صوّر المؤلف محمد صالح الصديق ببراعة التفاعل الصادق للشعب الليبي حكومة وشعبا ومثقفين وعمالا بسطاء مع الثورة الجزائرية، وتفاعلهم مع يومياتها بما تحمل من أفراح أو أتراح، وتجلت في الإقبال الكبير والخرافي لأبناء الشعب الليبي الفقير ـ كان ذلك قبل اكتشاف النفط ـ  على حملات التبرع للثورة وعلى نشاطاتها الإعلامية.

ولم يكن الجيش الملكي الليبي وبأوامر عليا من الملك إدريس ببعيد عن الجهد الحربي لإسناد الثوار في جبال الجزائر، حيث كانت الأسلحة الموجّهة لدعم الثورة الجزائرية، تصل إلى طرابلس، وكان ضباط الجيش اللّيبي وعلى رأسهم العقيد يحيى أبو السعود، برفقة إخوانهم من المجاهدين الجزائريين، يُشاركون في إفراغ حمولة الأسلحة، ونقلها إلى المخابئ السرية قبل العمل على إيصالها إلى الداخل الجزائري عبر قوافل سرية راجلة، ويقول الكاتب في شهادته عن العملية: "كبار الضباط هم من يتولى إنزال ونقل الأسلحة، وكم تورمت وتخددت أكتافهم من حمل صناديق الأسلحة، فإن شكرت قالوا إن الواجب يفرض علينا أن نكون هناك في الصفوف الأمامية في الأرض الملتهبة". (ص 46).

ويُوثّقُ الكتاب، من خلال عرض العديد من التفاصيل، الكثير ممّا قدّمه الليبيون، بقيادة ملكهم إدريس السنوسي، لمؤازرة الثورة في الجزائر. وقد تجلّى ذلك عندما حلّ فريق جبهة التحرير الوطني لإجراء مقابلة رياضية مع الفريق الوطني اللّيبي، فاستقبلته الجماهير اللّيبية استقبالا حارّا، ولم تتردّد في تشجيع الفريق الجزائري، على خلاف ما تعوّدت الجماهير الرياضية أن تقوم به في مثل هذه المباريات: "وما أن انتهت المباراة حتى اندفع الجمهور نحو الفريق يعانقونهم ويقبلونهم في لهفة ظامئة، ويحملونهم على أكتافهم هاتفين للجزائر الحرة وثورتها المباركة". (ص 39)، وهو ما يذكر بشكل يكاد يكون مطابقا، بما فعلته الجماهير الرياضية الجزائرية مع مقابلة فلسطين الجزائر عام 2016 .. أين شجع الفريق الوطني الفلسطيني في ملعب الخامس من تموز (يوليو) وحضور قرابة 90 ألف مشجع، رغم أنه كان في مواجهة الفريق الوطني الجزائري. الأمر الذي زاد من محبة الفلسطينيين لإخوانهم الجزائريين.  

 

التزمت جمعيات التجار الليبيين بتوقيف استيراد السلع الفرنسية إلى ليبيا، وألغى التجار الليبيون في هذا السياق كل طلباتهم السابقة وأوقفوا توكيلاتهم من المؤسسات الفرنسية، وطالبوا الدول التي تتعامل تجاريا معهم بألا ترسل إليهم السلع الفرنسية، وأوجدت تلك الجمعيات التجارية "القائمة السوداء" للتجار المخترقين لقرار مقاطعة البضائع الفرنسية.

 



وتجلت مظاهر الحفاوة أيضا من خلال الزيارة التي قام بها أعضاءٌ من الحكومة المؤقتة الجزائرية إلى ليبيا سنة 1959، حيث تمّ استقبالهم بـ"دار السلام" من قِبل ملك ليبيا إدريس السنوسي، وخط فرحات عباس قبل مغادرته طرابلس رسالة إلى الشعب الليبي وإلى حكومته وملكه جاء فيها: "إن أول كلمة يجب أن نعلنها للملأ بهذه المناسبة، أصالة عن أنفسنا ونيابة عن جيش التحرير الوطني وعن الشعب الجزائري المجاهد لجلالة الملك إدريس المعظم الذي ما فتئ منذ انبثاق فجر الثورة المقدسة في الجزائر يرعاها بعنايته، ويتعهدها برعايته وإلى الحكومة الليبية ومجالسها النيابية الذين اعتبروا وما زالوا يعتبرون القضية الجزائرية قضيتهم الوطنية يجاهدون في سبيلها ويقدمون أقصى ما يستطيع شعب شقيق إلى شعب الجزائر الشقيق.." (ص 42).

سلاح المقاطعة للبضائع الفرنسية من أجل الجزائر

ومن أمثلة التضامن الشعبي الليبي مع الثورة الجزائرية التي أوردها المؤلف رفض نقابات عمال ميناء طرابلس تفريغ البواخر الفرنسية مهما كانت حمولتها، حتى ولو كانت مؤجرة وتحمل أعلام دول أخرى  مثل ما وقع مع الباخرة الإيطالية "ميروبي" في كانون الثاني (يناير) 1961 والتي كانت تحمل مواد أولية لشركة النفط الليبية ولكن لأن الشحنة مستوردة من أحد الوكلاء الفرنسيين رفض العمال تفريغها، رغم إغراءات الشركة الموردة وعرضها مبالغ كبيرة للنقابة ولوسطاء آخرين. (ص 76).

وقد التزمت جمعيات التجار الليبيين بتوقيف استيراد السلع الفرنسية إلى ليبيا، وألغى التجار الليبيون في هذا السياق كل طلباتهم السابقة وأوقفوا توكيلاتهم من المؤسسات الفرنسية، وطالبوا الدول التي تتعامل تجاريا معهم بألا ترسل إليهم السلع الفرنسية، وأوجدت تلك الجمعيات التجارية "القائمة السوداء" للتجار المخترقين لقرار مقاطعة البضائع الفرنسية. (ص 79).

ولم يشذ عن القاعدة رجال الأعمال والتجار الليبيون، فكان رجلا الأعمال الهادي مشيرقي ويوسف مادي على رأس المتبرعين للمجهود الحربي بل إن الأول شارك في إنجاز إحدى صفقات التسليح بأوروبا لصالح الثورة التحريرية الجزائرية ونجا بأعجوبة من محاولة اغتيال بألمانيا، والثاني أنجز مدرسة خاصة لزهاء 250 يتيما من أبناء الشهداء الجزائريين بطرابلس وتكفل بكل مصاريفها ومصاريف الإقامة الخاصة للأطفال حتى استقلال الجزائر في 1962، حيث زارها كبار قادة الثورة وعلى رأسهم أحمد بن بلة. (ص 95).

وللإشارة فإن المحسن يوسف مادي فتح بعد ذلك مدرسة خاصة للأيتام الفلسطينيين بالأردن تضم 300 يتيم.

اليتيمة التي تحولت إلى أميرة ليبية

ومن الأسرار التي كشف تفاصيلها الكتاب لأول مرة، قصة تبني الملك إدريس السنوسي ـ الذي لم يرزقه الله بأولاد ـ لطفلة جزائرية يتيمة من مدرسة المحسن يوسف مادي للأيتام الجزائريين بطرابلس، بعد موافقة مسؤولي الثورة وعلى رأسهم كريم بلقاسم، وأسماها بالأميرة سُليمى.

وأصبحت الأميرة الجديدة من أقرب الناس لقلب الملك إدريس السنوسي، كما حظيت بحب خاص من قبل الليبيين وإلى حد الساعة لأنها تذكرهم بملكهم الزاهد، كما أنها تذكرهم بالثورة الجزائرية وأيام العز الثوري والنخوة العربية.

وتجلى تعاطف الليبيين مع الأميرة الجزائرية في الحملة الإعلامية والشعبية والدولية التي تلت اعتقال معمر القذافي لها بعد انقلاب الفاتح من أيلول (سبتمبر) 1969، والذي توج بإطلاق سراحها وانتقالها إلى مصر حيث مقر منفى الملك السابق. لتعتزل الأميرة سليمى النشاط العلني بعد زواجها من الدكتور هشام أحمد رضوان واستقرارها بالقاهرة رفقة أسرتها إلى حد الساعة. (105). 

وفي آخر فصوله، تضمن الكتاب مجموعة من الصور التي تُوثّق بعض الأحداث البارزة في العلاقات اللّيبية الجزائرية، فضلا عن صور لعدد من المثقفين والشخصيات السياسية والاجتماعية اللّيبية التي ساهمت في دعم صفوف المجاهدين في سبيل تحرير الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي الوحشي.   

ما بال فلسطين...؟

الاحتضان الشعبي والرسمي للثورة الجزائرية في ليبيا ودول الطوق الأخرى مع الجزائر (المغرب وتونس خاصة) كان له دور رئيس في صمود تلك الثورة العربية العظيمة، وفي استمراريتها بزخم متصاعد، ورغم أن مقدرات تلك الدول كانت ضعيفة وفي أولى خطوات التأسيس إلا أنها كانت مُسخرة لخدمة القضية الجزائرية المقدسة حينها، كما كانت الحدود مفتوحة للإمداد بالأسلحة بل وبالرجال في الكثير من الأحيان، وهو ما توج بالنصر المؤزر على إحدى أعتى قوى الاحتلال في العصر الحديث.

ولكن ما الذي تغير مع القضية الفلسطينية حتى غدا دعمها الأدبي قبل المادي جريرة يحاسب عليها صاحبها في عدد من الدول العربية الرئيسية خاصة القريبة من فلسطين، فهل الشعوب غير الشعوب؟ أم الأنظمة الحاكمة غير حاكمة؟ أم الاستعمار غير الاستعمار؟

أسئلة يفرضها هذا الكتاب الذي يؤرخ لواحدة من أهم ثورات التحرير في القرن المنصرم، وهي الثورة الجزائرية، التي لم يتم الكشف حتى الآن عن كثير من أسرارها.. 

التعليقات (1)
حامد
السبت، 26-09-2020 07:50 م
كل يوم يكشف أحداثاً من التاريخ لم يكن يعلمها أحد، كنا نظن أن القذافي وطني وقائد وووو، واتضح بمرور الوقت أنه لص مثل جميع حكام العرب الذين جلسوا على كرسي الرئاسة ولم يفارقوه وقتلوا كل من ينازعهم على الكرسي، بداية من عبد الناصر إلى سيسي الذي كنا نظنه وطنيا بصحيح واتضح في الآخر أنه شيخ منصر

خبر عاجل