مقالات مختارة

الوجود الحضاري العثماني بالجزائر

ناصر حمدادوش
1300x600
1300x600

عادةً ما يتمّ اختزال التاريخ في الجانب السّياسي والعسكري، في الحروب والمعارك والصّراعات والخلافات والدّماء والخيانات والأشخاص، ومع أنّه نسبيٌّ وليس كلَّه سلبيّا، إلاّ أنّ الأغلب منه يمثّل تاريخًا أسودَ، والذي لم تسلم منه أيُّ دولةٍ أو حضارةٍ أو أيُّ فترةٍ من تاريخ الإنسانية، وهي صفحة تاريخية مرتبطة بالإنسان كإنسان، مهما كان دينُه أو جنسُه أو عِرقُه أو ثقافته، لأنّه مرتبطٌ بالحُكم وبمقتضيات السّياسة وأحكامها، وقد تنبّأت الملائكة مسبقًا بهذا الجانب الدّموي للإنسان قبل وجوده، عندما قال ربُّنا سبحانه وتعالى: “وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء..” (البقرة: 30)، إلاّ أنّ التاريخ لا يمكن إغراقه في مستنقع الدّماء، ولا في دهاليز السّياسة، ولا يمكن اختزاله في انحرافات بعض السّاسة.

ارتبط الوجود العثماني بالجزائر بالرّابطة الدّينية وبعقيدة الخلافة الإسلامية، وهي التصوّر السّياسي للإسلام ككيانٍ موحّدٍ للأمّة، والذي يقوم على ثلاثة أركان: مركزية الحكم والعدل والجهاد، ولذلك وجدنا أنّ من الأركان التي ثبّتت هذا الوجود العثماني وشرعنته: العلماء والأولياء، وهو ما أصبغ الشّرعية الدّينية على هذا الوجود، وعبّأ الشّعب للجهاد والبيعة لهؤلاء السّلاطين مهما كان عِرقُهم، ومن ذلك رأي العلماء في إلحاق الجزائر بالخلافة العثمانية، وإرسال السّلطان خير الدّين سنة 1518م وفدًا منهم إلى الخليفة العثماني، يرأسه الشيخ أحمد بن القاضي الزّواوي، وكان أحدَ أكبر العلماء والأمراء في القبائل البربرية الكبرى في جبل كوكو.


ومن أهمّ الانتقادات اللاّذعة لهذا الوجود العثماني بالجزائر: اتهامُه بإهمال الثقافة والعلوم والاهتمام بالغزو والغنائم والضّرائب، فيقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: “وأمّا الحالة العلمية في ذلك العهد فهي الصّفحة المغسولة من ذلك التاريخ، بل هي الصّفحة السّوداء من تاريخ الجزائر العلمي، فما رأت الجزائر عهدًا من عهودها أجدب من العهد التركي في العلم، ولا أزهد من حكوماته فيه، ويعلّل كثيرٌ من النّاس ذلك بأنّ من خصائص الشّعب التركي أنه شعبُ حربٍ لا علم، وقد يكون هذا التعليل قريبًا من الحقّ..” (آثار الإبراهيمي، ج 5، ص 117)، وهو ما جعل البعض يعتبر هذا الوجود سياسيًّا واقتصاديًّا أكثر منه وجودًا حضاريًّا.


 إلاّ أنّ الدكتور مولود قاسم ينقل في كتابه: (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية قبل 1830م، ج 2، ص 326) عن المؤرّخ الأمريكي “سبنسر” صورةً أخرى عن الحقيقة الجزائرية، فيقول: (إنّ الوثائق الرّسمية الفرنسية والعثمانية بالدرجة الأولى، تُضاف إليها تقاريرُ الزّائرين الآخرين تعطينا صورةً مختلفةً للجزائر عمّا يُقال عنها اليوم، فكلٌّ من شهادات المسيحيين والمسلمين تتفق على إعطاء الدولة الجزائرية علامات مرتفعة (وشهادات عليا) على ما عرفته من الانضباط والاستقرار واحترام القانون والارتباط الاجتماعي والمستوى الثقافي الذي بلغته..).


ويقول الشّيخ أحمد توفيق المدني في كتابه (هذه هي الجزائر، ص 73) وهو ينقل صورةً مؤكِّدةً لذلك، عن ذلك التنافس في الخير بين الأتراك والجزائريين في الأوقاف والتعليم والثقافة: “ولقد كان الجزائريون طيلة مدّة الجمهورية الجزائرية العثمانية يتبارون أتراكًا وعربانًا في أعمال الخير، ووقْف الأوقاف الطائلة على المساجد والمدارس والمنشآت العامّة، وكانت دُور العلم عامرة، وحلقات الدروس غاصّة بالطلاّب في كلّ مساجد المدن الكبرى، أمّا التعليم الابتدائي فقد كان يُلقّن في ثلاثة آلاف كُتّاب أو مدرسة ابتدائية..”.


ويقول الدكتور سعد الله في مقدّمة الطّبعة الثٌانية لكتابه: تاريخ الجزائر الثقافي (ص 11): “ذلك أنّ النّاس تعوّدوا على وَصْم العهد العثماني الذي يمثل ثلاثة قرون من تاريخ الجزائر بالفراغ الثقافي والعُقم الفكري، فإذا هم يكتشفون في هذا الكتاب الدليل على حيوية الحياة الثقافية في هذا العهد..”.        

 

ومهما تكن من أقوال هؤلاء العلماء والمؤرّخين المنتقدة لهذا الجانب من الوجود العثماني بالجزائر فهي آراءٌ ومواقفٌ غير ملزمة، وهي لا تقدّم تاريخًا قطعيًّا أو حقيقةً كاملة، فهناك من تأثّر بالرّواية الاستعمارية الفرنسية، وهناك من تأثّر بخلفياته القومية العربية المعادية لتلك الفترة العثمانية، ممّا جعل سيل الكتابات التاريخية في تلك الفترة تصنع تصوّراتٍ ذهنيةٍ وسلبية عن هذا الوجود العثماني.                                                                                                                                  يقول الشيخ عبد الحميد ابن باديس عن هذا التشويه الذي تعرّض له الوجود العثماني في الجزائر: “وهذا نفسُ ما وقع بالجزائر من تشويهِ تاريخها وتصويرها في جميع عصورها – خصوصًا في العصر العثماني- بأقبح الصّور.” (د. عمار طالبي، ابن باديس حياته وآثاره، ج 4، ص 34).


ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله: “وكان شعارُ معظم الجزائريين الذين تأثّروا بالثقافة الفرنسية هو شعار الكتّاب الفرنسيين أنفسهم، الذين اكتفوا برمي العثمانيين بالوحشية الثقافية والاستبداد السّياسي والشّره الاقتصادي..” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج 1، ص 29)، وهو ما رسّخ تلك الصّورة الذهنية السّلبية عن العثمانيين، والتي رسمت خطوطًا حمراء وكأنّها مسلّماتٌ يقينية بتلك الخلفيات الإيديولوجية والتاريخية في لحظاتها الآنية ضدّهم، ممّا أبقى الجدل مستمرًّا حول ذلك التاريخ بحسب زاوية النظر إليه: العِرْقية أو الوطنية أو القومية أو الإيديولوجية أو الحزبية أو المذهبية أو الطائفية أو الحضارية الإسلامية.


وقد ذكر الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه (تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الأول) جوانب كثيرة من مظاهر الحضارة والتاريخ المتنوّع للوجود العثماني بالجزائر، فتحدّث عن علاقة العلماء بالأمراء، وعن الحياة الثقافية، وعن الحياة الدّينية والأدبية والفنية: عن اللغة والأدب وعن التصوّف وعلم الكلام، وعن القراءات والتفسير والفقه، وعن مختلف العلوم والفنون، وعن الجهاد والثورات، وعن المؤسّسات الثقافية كالأوقاف والمساجد والزّوايا والرّباطات، وعن المدارس والمعاهد والمكتبات، وعن التعليم والمناهج ورجالاتهما، وعن المرابطين والطرق الصّوفية.. وغيرها من الجوانب التي رصّعت تاريخ الجزائر بروائع الحضارة الإسلامية في ذلك العهد.

وبالرّغم من المحاولات البائسة لتشويه موقف الشّيخ ابن باديس من الوجود العثماني بالجزائر، إلاّ أننا نجده يفتخر بذلك التاريخ الحضاري المشرق والمتنوّع، فيقول: “ثم جاء الأخ أحمد توفيق المدني بكتابه هذا يبيّن ما كانت عليه الجزائر من القوّة والعمران قبل الاحتلال، وما أصابها من التخريب والتقتيل أيام الاحتلال وبُعيْد الاحتلال، ناقلاً له من كتب ووثائق فرنسية لا غبار عليها..”، ويقول: “هذا إلى بيان ما كانت تتمتّع به من حرّيةٍ في دينها وقضائها ولغتها وتعليمها..” (ابن باديس: حياته وآثاره، ج4، ص 35).
إنّ هذا الوجود العثماني متكاملٌ وملامسٌ لكلّ جوانب الحضارة، وليس مختزلاً في مجرد الوجود السّياسي والعسكري، كما أنه لا يُقتصر على تاريخ مدينة الجزائر كعاصمةٍ دون غيرها من أطراف البلاد.


يقول الدكتور ناصر الدين سعيدوني سنة 1984م في مقدّمة كتابه: الجزائر في التاريخ 4 العهد العثماني، (ص 11، 12): “إنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي للجزائر خلال العهد العثماني يعكس بصدق واقع البلاد الجزائرية، وما كانت تمتاز به الأمّة الجزائرية من كيان متميّز، وما كانت تتّصف به حكومة الدّايات من مقوّمات السّيادة وشروط الاستقلال على امتداد التراب الوطني الجزائري بحدوده الحالية”، ويقول: “هذا العهد الذي نعتبره حلقة الوَصل بين واقعنا الحالي وتراثنا الحضاري، كما نرى فيه المعبر الزّمني الذي حقّق أثناءه الشّعبُ الجزائري انسجامه وتكامله في إطاره الجغرافي، وبُعده الحضاري، وأصالته العربية والإسلامية”.

 

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل