كتب

هل تتنافى تعاليم الإسلام مع الفكر الفلسفي؟ كتاب يجيب

كتاب يشرح معالم الفكر الفلسفي في الإسلام- (عربي21)
كتاب يشرح معالم الفكر الفلسفي في الإسلام- (عربي21)

الكتاب: "في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه"
المؤلف: د. إبراهيم مدكور
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019


أثار المستشرقون الأوروبيون في القرن التاسع عشر موجة عنيفة من الشكوك تجاه الفلسفة، والفكر الفلسفي عند المسلمين، وكثرت وتواترت أقوالهم ونصوصهم التي تسلب من المسلمين ملكة الإبداع والابتكار الفلسفي، والارتقاء بالبحث العقلي الحر، وتضعهم في مرتبة أدنى من ذلك، وتصورهم على أنهم أميل إلى الشعر والخطابة من الفلسفة والمنطق، وأقرب إلى إدراك الجزئيات من الكليات، وأن لا طاقة لهم بالاستدلال والبرهان، ولا عهد لهم بالقوانين والنظريات، والفلسفة التي ظهرت في ساحتهم ما هي في نظرهم إلا اقتباس وتقليد واتِّباع مُشوَّه ومنقوص ومضطرب عن الفلسفة اليونانية القديمة.

هذه هي الصورة التي ورثها المسلمون المعاصرون عن الموقف الغالب عند المستشرقين الأوروبيين، تجاه الفلسفة والفكر الفلسفي عند المسلمين، صورة يتجلى فيها بوضوح مدى التحيُّز والتحامل والإسقاط والتشويه المفرط، فما كان على هؤلاء المسلمين إلا أن يقفوا في وجه هذه الصورة النمطية المتحاملة والمرعبة، ويبرهنوا على خلافها بتأكيد حقيقة وأصالة الفلسفة الإسلامية.

وفي هذا النطاق جاء كتاب الدكتور إبراهيم مدكور، وإلى هذه المهمة ينتمي في أطروحته الفكرية، وبها تتحدد فلسفته وحكمته، والإشكالية الأساسية التي ينطلق منها، ويقررها الدكتور مدكور بقوله: "وضعت الفلسفة الإسلامية موضع الشك زمناً، فأنكرها قوم وسلَّم بها آخرون، وكانت موجة الشك فيها طاغية طوال القرن التاسع عشر، فظن في تحامل ظاهر أن تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث الحر والنظر الطليق، وأنها تبعاً لهذا لم تأخذ بيد العلم، ولم تنهض بالفلسفة، ولم تنتج إلا استبداداً ليس له مدى، في حين أن المسيحية كانت مهد الحرية، ومنبت النظم النيابية، وقد صانت ذخائر الفنون والآداب، وبعثت العلوم بعثاً قويًّا، ومهدت للفلسفة الحديثة وغذتها".

ولا يمكن فهم فلسفة الدكتور مدكور بعيداً عن هذا النص، الذي افتتح به الفصل الأول، وشرح فيه رؤيته وأطروحته في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها.

وحين تتبع الدكتور مدكور تطور اتجاهات النظر تجاه الفلسفة الإسلامية ما بين القرن التاسع عشر الذي طغت فيه موجة الشك وما بعده، وجد أن هناك تطوراً حدث في القرن العشرين، حيث أخذ الباحثون يتعرفون على الدراسات الإسلامية أكثر من ذي قبل، ويدركون ما لهذه الدراسات من طابع خاص ومُميَّز، وكلما ازدادت معرفتهم بها، وقربهم منها استطاعوا الحكم عليها بوضوح وإنصاف.

 

كتاب رائد في الفلسفة الإسلامية


لذلك، يعد كتاب "في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه" للدكتور إبراهيم مدكور الصادر لأول مرة عام 1947، أحد أهم المؤلفات الرائدة خلال النصف الأول من القرن العشرين، في حقل الفلسفة الإسلامية وتاريخها، رسم المؤلف فيه منهجاً لدراسة الفلسفة الإسلامية ثم طبقه تطبيقاً كاملاً على ثلاث من نظرياتها الكبرى، هي: نظرية السعادة، ونظرية النبوة، والنفس وخلودها. 

درس المؤلف هذه النظريات أولاً في بيئتها وظروفها الخاصة، وشرحها على لسان القائلين بها، ثم ربطها بما سبقها من أشباه ونظائر، وبين ما لها من أثر في الفلسفات اللاحقة. وفي الكتاب (الثاني) أضاف المؤلف قضيتين، هما: الألوهية، وحرية الإرادة، بالإضافة إلى دراسته لتاريخ الفلسفة الإسلامية وخصائصها، وموقف المستشرقين منها، والدفاع عنها ضد منتقديها من الشرق والغرب.

الملاحظ أن الدكتور مدكور تحدث عن هذه النظريات الخمس دون أن يشرح رؤيته في ترتيبها ومنزلتها في الفلسفة الإسلامية، في حين أن من يتوقف أمام هذه النظريات، يلتفت إلى ضرورة الكشف عن التراتب بينها، وذلك لتفاوتها الواضح من حيث الأهمية والاعتبار في الفلسفة الإسلامية، والقدر الذي من الصعب الاختلاف عليه هو أن نظرية الألوهية تأتي في مقدمة تراتب هذه النظريات من حيث الأهمية، فنظرية الألوهية بما أشار إليه الدكتور مدكور نفسه، عند حديثه عن خصائص الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبر أن "الفلسفة الإسلامية دينية في موضوعاتها، تبدأ بالواحد، وتحلل فكرة الألوهية تحليلاً شاملاً دقيقاً لم تسبق إليه.. وعن الواحد صدر كل شيء، فهو المبدع والخالق".

ثم يقول في صفحة (19): "نعم هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول. فهي تُعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته، التي كانت مثار جدل طويل بين المتكلمين، وتحاول أن تُوفِّق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تُبيِّن للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس، وثبتت أمام الخصوم".

ويرى مدكور أنه بالرغم من هذا الطابع الديني، لم تهمل الفلسفة الإسلامية المشكلات الفلسفية الكبرى، فعرضت لنظرية الوجود عرضاً موسعاً، وأدلت برأيها في الزمان والمكان والمادة والحياة، وبحثت نظرية المعرفة بحثاً مستفيضاً، ففرقت بين النفس والعقل، الفطري والمكتسب، الصواب والخطأ، الظن واليقين، وفصلت القول في نظرية الفضيلة والسعادة، فقسمت الفضائل ونوعتها، وانتهت إلى فضيلة الفضائل التي هي تأمل دائم ونظر مستمر، واستوعبت أيضاً أقسام الفلسفة المألوفة من حكمة نظرية وعملية.

 

الفارابي أول من صاغ الفلسفة الإسلامية

وحسب رأي مدكور فإن الفارابي هو "أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل، ووضع أصولها ومبادئها، نحن لا ننكر أن الكندي تنبَّه قبله إلى دراسة أفلاطون وأرسطو وعرض لبعض نظرياتهما بالشرح والاختصار، لكننَا لا نجد لديه مذهباً فلسفيًّا كاملاً بكل معاني الكلمة، بل هي نظرات متفرقة، ومتعلقة بموضوعات مختلفة لا رابط بينها. أما الفارابي فقد لَمَّ هذا الشعث، وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات".

وقد عني الفارابي بموضوع السعادة علماً وعملاً، فخصه بكتابين من كتبه شرح فيهما مختلف آرائه الصوفية، وهذان الكتابان هما: "تحصيل السعادة"، و"التنبيه على السعادة"، يقول الفارابي: "الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق، ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن... والأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن".

فالروح القدسية إذن واصلة، ترى المغيب، وتسمع الخفي، وتجاوز عالم الحس إلى عالم المشاهدة الحقيقية والبهجة الدائمة. هذه هي نظرية الاتصال التي قال بها الفارابي واعتنقها الفلاسفة اللاحقون، وقد لعبت دوراً هاماً بوجه خاص لدى فلاسفة الأندلس، وهي كما نرى، ضرب من التصوف النظري القائم على البحث والدراسة، يقربنا إلى الله ونعيمه.

 

إذا كان الفارابي وابن سينا هما بطلا المدرسة الفلسفية في المشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في المغرب، وبما أن البحث العلمي في المشرق أسبق منه في المغرب، فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم

 



أما عن ابن سينا فيقول المؤلف في صفحة (45): "إذا كان في فلاسفة الإسلام من يصح أن نسميه تلميذ الفارابي وخليفته الأعظم، فهو بلا جدال ابن سينا... وإذا كان ابن رشد هو شارح أرسطو غير منازع في الفلسفة المدرسية، فإن ابن سينا هو شارح الفارابي الماهر في الفلسفة الإسلامية".

وفي صفحة (46) يقول: "اعتنق ابن سينا مختلف أفكار الفارابي الصوفية وتولاها بالشرح والدرس في رسائل متعددة، نخص بالذكر منها "كتاب الإشارات والتنبيهات"، ويقع في نحو خمسين صفحة تعد من أحسن ما خلفته المدرسة الفلسفية الإسلامية في هذا الباب، فقد أخذ ابن سينا أفكار الفارابي وفصل القول فيها وعرضها عرضاً مسهباً مرتباً. فهو يحدثنا عن "التجريد" و"البهجة والسعادة" و"مقامات العارفين" و"أسرار الآيات"، ويشرح نظرية الاتصال شرحاً مستفيضاً".

مقامات العارفين

يصف ابن سينا كأستاذه، المراحل التي تقود المرء إلى السعادة، ويتكلم عن الزهد والعبادة، ثم عن العرفان الذي هو السعادة الحقة: "فالمعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على نفل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف". وليست السعادة مجرد لذة جسمية، بل هي غبطة روحية وسمو معنوي، واتصال بالعالم العلوي، هي عشق وشوق مستمران، وما العشق الحقيقي إلا الابتهاج بتصور حضرة الحق، وما الشوق إلا الرغبة الدائمة في كمال هذا الابتهاج".

فهو يرى أن غاية السعادة ليست إلا مجرد اتصال بين العبد وربه، يحظى فيه الإنسان بضرب من الإشراق، وهذا الإشراق وذلك النور لا يصدران عن الله مباشرة، بل بواسطة العقل الفعال".

ويرى المؤلف أنه إذا كان الفارابي وابن سينا هما بطلا المدرسة الفلسفية في المشرق، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد هم أعلامها في المغرب، وبما أن البحث العلمي في المشرق أسبق منه في المغرب، فإن أهل الأندلس مدينون لإخوانهم المشارقة بكثير من آرائهم ونظرياتهم، لذلك لم يكن بدعاً أن تقتفي المدرسة الفلسفية الأسبانية أثر المدرسة الشرقية، وأن نرى ابن باجة وابن طفيل مثلاً يتبعان خطا الفارابي وابن سينا، وقد وضع ابن باجة الحجر الأساسي في بناء المدرسة الفلسفية الأسبانية، وسار على نهجه ابن طفيل، وكتاب ابن باجة "تدبير المتوحد" قائم على إثبات أن الإنسان يستطيع الاتصال بالعقل الفعال بواسطة العلم وتنمية القوى الإنسانية، والفضائل والأعمال الخلقية جميعاً ترمي إلى سيادة النفس العاقلة واستيلائها على النفس الحيوانية، وبالجملة يجب على المرء أن يسعى جهده إلى الاتصال بالعالم العلوي، مشتركاً مع المجتمع أو منعزلاً عنه، فإن كان المجتمع صالحاً قاسمه في مختلف شئونه، وإن كان طالحاً لازم الخلوة والإنفراد.

أما ابن طفيل فيرى، أن سعادة الإنسان وشقاءه راجعان إلى قربه من ربه أو بعده عنه، ووسيلة القرب والصعود إلى عالم النور والملائكة إنما هي النظر والتأمل.

أما ابن رشد فلم ينح هذا النحو الخيالي الفرضي، بل درس مشكلة الاتصال بالعقل الفعال دراسة علمية منظمة، مبيناً أن هذا الاتصال في ذاته لا يتنافى مع أصول علم النفس المعروفة، وهو يرى أن الطفل يولد وفيه استعداد لتقبل المعلومات العامة، فإذا ما أخذ في الدراسة والتعلم تحول هذا الاستعداد إلى عقل بالفعل، ولا يزال هذا العقل ينمو ويرقى حتى يتصل بالعقول المفارقة ويستمد منها الفيض والإلهام، وهذا هو الكمال الأسمى الذي نطمح إليه جميعاً، والطريق الموصلة إليه هي تنمية المعلومات وترقية المدارك الإنسانية، فالعلم وحده سبيل السعادة والاتصال بعالم العقول والأرواح، أما ما يذهب إليه المتصوفة من أن الإنسان يستطيع الصعود إلى هذه المرتبة دون علم ولا بحث، فإدعاء باطل وقول هراء.

من ناحية أخرى، كانت آراء المستشرقين ومقالاتهم حاضرة في أغلب موضوعات الكتاب، وبالذات في الجزء الأول منه، وذلك باعتبار أن هؤلاء المستشرقين هم الذين تعرَّفوا إلى النصوص الفلسفية الإسلامية وحقَّقوها ونشروها بلغاتهم، واعتنوا بها شرحاً وتعليقاً وضبطاً وتدقيقاً.

وهذا ما يفسر الموقف الإيجابي للدكتور مدكور من هؤلاء المستشرقين والثناء عليهم، والاعتراف لهم بالفضل، مع ذلك فإن مدكور ما كان يريد أن يبقى هذا الحال ويستمر كما هو عليه، ومن هنا جاءت دعوته وتأكيده ضرورة العناية بإحياء التراث الإسلامي والفلسفي خاصة، على أن ينهض بهذه المهمة المسلمون أنفسهم، حتى لا يبقى ويستمر الاعتماد على كتابات ومؤلفات المستشرقين.

وحين تحدَّث مدكور عن الواقع الذي كان عليه وقت صدور كتابه، وتغيُّر هذا الواقع فيما بعد يقول: "لا شك في أن الكشف عن المخطوطات هو الخطوة الأولى في سبيل إحياء التراث الإسلامي، وقد اتَّجه إليه المستشرقون منذ أخريات القرن الماضي، وسرنا على نهجهم في القرن الحالي، وكشفوا وكشفنا معهم عن ذخائر لها وزنها، فلدينا الآن ثروة يعتد بها من مؤلفات كبار فلاسفة الإسلام".

"وقد كنا بالأمس لا نكاد نعثر على مؤلف واحد بالعربية لبعضهم، وتغيَّرت أحكامنا عليهم أحياناً في ضوء هذا الكشف المتلاحق، فأخرج منذ عشرين عاماً 25 رسالة من رسائل الكندي، التي وقفنا على كثير من آرائه الميتافيزيقية والسيكولوجية، وعلى شيء من نظرياته الجغرافية والفلكية.

وتوالى في العشرين سنة الأخيرة، نشر بعض مؤلفات الفارابي في الفلسفة والمنطق والسياسة والموسيقى، الواحد تلو الآخر، ونخصّ بالذكر منها كتاب "الحروف"، وهو أكبر مؤلفات الفارابي الفلسفية التي وصلت إلينا. واكتملت مراجعنا عن ابن سينا بإخراج موسوعته الفلسفية الكبرى بأقسامها الأربعة، ونعني بها كتاب "الشفاء" الذي قضينا في تحقيقه ونشره نحو ربع قرن أو يزيد، ولم يكن حظ فلاسفة المغرب بأقل من حظ فلاسفة المشرق، فقد أخرج في الخمسين سنة الأخيرة قدر غير قليل من مؤلفات ابن باجة وابن رشد".

خلاف الكثيرين كان مدكور يبدأ حديثه من الفارابي وليس من الكندي، وظل يقدمه ويفاضله عليه، وبقي يلفت النظر لفلسفته وآرائه، كاشفاً عن تأثيره في الآخرين الذين أخذوا عنه، وتابعوه في فلسفته وآرائه.

التعليقات (0)

خبر عاجل