قضايا وآراء

جامعة العار (2)

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
لم يكن إسقاط المشروع الفلسطيني في الجامعة العربية رصاصة الرحمة التي صوبتها الجامعة تجاه نفسها، بل كان بمثابة المسمار الأخير الذي دقته في نعشها.

فلقد سبق لها ان أطلقت رصاصات كثيرة في صدرها، أصابتها بموت سريري، وضعوها بعدها في غرفة الإنعاش، ويلجأون لإفاقتها كلما استلزم الأمر، وحسبما يأمرهم سيدهم في البيت الأبيض، كما حدث إبان عهد الرئيس الأمريكي "جورج بوش"، في أعقاب غزو الكويت من قِبل "صدام حسين". إذ اجتمعت جميع الدول العربية، بين ليلة وضحاها، على قلب رجل واحد، وهو ما لم يكن يحدث من ذي قبل، ولا من بعد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما غزا الاحتلال الصهيوني لبنان عامي 1982 و2006، أو في عدوانه المتكرر على قطاع غزة وقصفه المستمر له. وقد كانت غزة أيضا على موعد العدوان الصهيوني عشية اجتماع الجامعة المخزي هذا!!

لم يرجف للجامعة جفن إزاء المجازر الوحشية التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين، بل أغمضت عينيها تماماً عن بناء المغتصبات (المستوطنات) على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحصار الظالم لقطاع عزة وتجويع أهله، وصمّت آذانها تماماً عن تهويد القدس، ولم يتحرك لها ضمير لبناء الأنفاق تحت المسجد الأقصى، ما يعرض سلامته للخطر، ولم يقشعر بدنها وهي ترى طائرات الاحتلال تخترق الأجواء السورية وتأخذ سماءها سياحة، منذ اندلاع الثورة السورية، وآخرها استهداف مواقع بمنطقة حلب، ولم تهتز من أزيز طائراته التي تخترق الأجواء اللبنانية، ولا التي استهدفت مواقع على الحدود العراقية!

عجزت الجامعة عن منع الغزو الأمريكي للعراق أو التصدي له، وضاع العراق أمام أعين الجامعة، ولا شك أن ذلك كان أقوى الرصاصات التي أصابتها في مقتل..

وغابت الجامعة عن تقسيم السودان، ولم تبذل أي جهد أو تقدم أي مسعي جدي للحيلولة دون تفاقم الأزمة السودانية وتقسيم البلد العربي الواحد إلى بلدين متصارعين..

ولم تنبس الجامعة ببنت شفة عن المجازر الوحشية التي يرتكبها النظام السوري وحليفاه الإيراني والروسي في سوريا، ولا على سياسة الأرض المحروقة التي انتهجتها موسكو في احتلالها لسوريا..

واختفت الجامعة تماماً عن المشهد "اليمني"، فالذي يقود قاطرته هو مَن غزا اليمن ودمره وارتكب فيه المذابح الوحشية، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "أسوأ كارثة إنسانية"، وهو يعمل الآن على تقسيمه..

ولم تقترب الجامعة من قريب أو من بعيد من حصار دولة عربية عضو فيها (قطر)، من قِبل خمسة دول عربية أعضاء في نفس الجامعة..

ولعل ما يحدث في "اليمن" وحصار "قطر" هما من "الفانتازيات" أو المساخر العربية التي ارتكبت في حق الأمة، بغطاء الجامعة العربية. ففي الوقت الذي تمرر فيه الجامعة خيانة الإمارات والبحرين، بتطبيعهما مع الكيان الصهيوني دون أي عقاب أو حتى ملامة، نجدها تغض الطرف عن غزو السعودية والإمارات لدولة عضو في الجامعة العربية، وحصار دولة عربية أخرى بسياج عربية!!

نعم، لم يُعرف عن الجامعة العربية يوماً فاعليتها في أية قضية عربية، ولم يكن لها موقف حازم تجاه اعتراف ترامب بالقدس الموحدة عاصمة أبدية للكيان الصهيونى، ثم نقل السفارة الأمريكية إليها، ولا بضم الجولان السوري للكيان الصهيوني، ولم تحل أي خلافات بينية بين الدول العربية، بل كانت تزيد من تأججها، وتشعل وتيرة الصراعات العربية. ولكم في حصار قطر منذ ثلاثة أعوام مثالاً صارخاً، طبقا لسياسة المحاور التي تسيطر عليها، وعلو أو غلبة محور على آخر، خاصة بعد أن أصبح محور "الثورات المضادة" هو الغالب، وأصبحت السعودية والإمارات، بما تملكان من مال، هما المسيطرتين عليها، وتتحكمان في قراراتها.

وطبقاً لمقولة "على قدر نقودك يكون نفوذك"، تغيرت المعايير وقلبت الموازين، وانحرفت البوصلة عن الثوابت التاريخية للجامعة، فمُحيت كلمة العدو الصهيوني من قاموسها، حتى بتنا نترحم على بيانات الشجب والإدانة التي كانت تصدر عنها، عقب كل عدوان صهيوني، والتي كانت مثار سخريتنا وتهكمنا عليها!

وعلى الرغم من عدم فاعلية الجامعة العربية في أي من القضايا الحيوية التي تهم الأمة، إلا انها ظلت (نظرياً) عنواناً جامعاً للدول العربية، وتعبيراً حياً عن الضمير العربي، والتي كانت القضية الفلسطينية أقوى دعائمها وأهم ثوابتها ومبادئها، منذ ان أنشئت الجامعة، تزامنا مع المأساة الفلسطينية، فكانت فلسطين بمثابة الدعامة الأولى لتماسكها، وإليها يرجع الفضل لاستمرارها سنوات على قيد الحياة، قبل أن يغتالها الصهاينة العرب الجدد الذين استولوا عليها..

كانت الجامعة العربية بشكل عام، قبل الغزو السعودي الإماراتي، بوصلة للقضايا الأساسية التي تحظى باجماع عربي، وفي مقدمتها رفض الاحتلال الصهيوني أو التطبيع معه، وتثبيت مبدأ مقاطعة الكيان على كافة الأصعدة، ولو نظرياً، رغم المواقف السلبية تجاه الاحتلال الصهيوني التي تعبر عن العجز العربي. أما اليوم فقد أصبحت عنواناً للعهر العربي، والأجدر بها أن تُسمى جامعة الدول العبرية!!

لم تكن الجامعة العربية جامعة للشعوب العربية، بل كانت جامعة لأنظمة الحكومات العربية، لهذا لم تكن يوماً شوكة في ظهر أعداء الأمة على مدار تاريخها الطويل، الممتد على مدى 75 عاماً، أىي منذ إنشائها في آذار/ مارس عام 1945، على أعين الاحتلال البريطاني، وبأيدى وزير خارجية بريطانيا "أنتوني إيدن"، الذي ألقي كلمة في مجلس العموم البريطاني في شباط/ فبراير 1943 قال فيها: "إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب؛ ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية"، بعد أن غمز لهم في عام 1941، في خطاب شهير، يدعوهم فيه إلى هذا الهدف السامي، ومساعدة حكومة جلالته على تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلاد العربية..

أراد "إيدن" أن يقدم رشوة إلى البلاد العربية أثناء الحرب العالمية الثانية، لتقف بجانب الحلفاء في المعارك الدائرة مع دول المحور، بإقامة كيان قومي خاص بالدول العربية بعيداً عن كيانهم الإسلامي الكبير، مُستخدماً أو مُستغلاً غريزة العرقيات والإثنيات لدى الشعوب، لشرذمة الأمة الإسلامية وإضعافها، مع تقديم وعود براقة بالاستقلال التام وحق تقرير المصير، وسرعان ما تبخرت بمجرد انتصار بريطانيا وحلفائها في الحرب.

وشتان بين نظرة عطف إيدن ونظرة عطف بلفور، رغم صدورهما من عين بريطانية واحدة، ولكنهما في المحصلة يخدمان ذات الهدف من التعاطف، فنظرة عطف بلفور أقامت وطنا قوميا لليهود وأنشأ الكيان الصهيوني، بينما نظرة عطف "إيدن" فصلت العرب عن هويتهم الإسلامية، وأقامت جداراً عازلاً بينهم وبين الأمة الإسلامية، فضاعت القضية الفلسطينية (القضية الأم للأمة الإسلامية) في أروقتهما، بينما هي في الأساس قضية إسلامية بحتة، وليست قضية عربية فحسب، لما تحمله من مقدسات إسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى ودلالته لدى المسلمين..

نظرتا العطف البريطانية تخدمان نفس المسار وتحققان نفس الهدف، الذي من إجله أصدرت بريطانيا وعدها المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فكما هو معلوم لم يكن تعاطفاً مع اليهود، كما أشاعوا أو إيماناً بقضيتهم؛ وإنما كان تحقيقاً لمصالح بريطانيا العليا والغرب بصفة عامة. لقد زرعوا هذا الجسد السرطاني لتقسيم الأمة الإسلامية، واستخدامه كخنجر مسموم في خاصرة دولة الخلافة؛ كي تقوم تلك الأنظمة العربية، المنسلخة عن محيطها الإسلامي، هي الأخرى بدور كلاب الحراسة في المنطقة، نيابة عنها وعن الغرب، في مقابل الحفاظ على عروش الأنظمة العربية.

ولقد استفاد "ترامب" من نظرتي العطف البريطانية وما نجم عنهما من تلك الأنظمة الحراسية (أو الوظيفية)، لينظر لها هو الآخر بعين أمريكية فجة، فكانت نظرته فاضحة، حقق بها أهدافه ومآربه. وها هي الإمارات والبحرين تنفذان أوامره وتطبعان مع المحتل الصهيوني، في الموعد الذي حدده لهما، قبل الانتخابات الأمريكية، ليحظى بتأييد الصهاينة اليمينيين (الإنجيليين)، ويقدمها كإنجاز في دعايته الانتخابية، خاصة بعد أن أظهرت استطلاعات الرأى تأخره عن منافسه "بايدن"..

وإذا لنا أن نقارن بين نظرتي العطف البريطانية والترامبية، فإننا نجد النظرة الترامبية، أكثر وضوحاً وشفافية، وكاشفة لتلك الدول، بينما كانت النظرة البريطانية أكثر خبثاً وغموضاً، تخفيها من وراء عدسات دبلوماسية خجولة، كي لا تفضح عملاءها. وهذا ما يفتقده "ترامب" عامة ويميزه عن باقي رؤساء أمريكا، فلقد أظهر كل شيء على السطح، وكشف كل ما كان يدور وراء الكواليس، عرضه على المسرح كي يراه العالم كله، فسقطت الأقنعة، وعُريت الأجساد، بعد أن سقطت ورقة التوت الأخيرة التي كانت تداري سوءاتها!!

فحماية العروش ليست بالمجان، ولا بد أن يدفعوا لأمريكا نظير حمايتهم، وقد قالها ترامب للملك سلمان عدة مرات في خطاباته. ولعل أبلغ ما قيل في يوم الاحتفال بتوقيع ما تسمى "اتفاقيات السلام" في البيت الأبيض، ما قاله "ترامب" لوزير خارجية البحرين (الذي أخطأ في اسمه مرتين): "بلغ تحياتي للملك وللأسرة المالكة"، ولم يقل للشعب، وهي تحية لها دلالتها، ولم يقلها "ترامب" اعتباطاً، بل إنها تحمل رسالة، مفادها أن أمريكا هي التي تحميهم من شعوبهم..

ولكن ثمة شيء مشترك بين النظرتين، البريطانية والأمريكية، فهما تحملان وراءهما احتقاراً وازدراءً لحكام تلك الدول العربية الحارسة..

وإذا كانت جامعة العار قد دقت آخر مسمارا في نعشها، فإن أنطمة العار أيضا سوف تدق ذاك المسمار قريباً، حينما يستعيد الشعب العربي ربيع ثوراته، ويتحرر من الاحتلالين المغتصبين: الأنظمة المغتصبة للحكم والصهيوني المغتصب للأرض..

يرونه بعيداً ونراه قريباً بإذن الله.

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (1)
نبيل السهلي
الأربعاء، 23-09-2020 12:46 ص
صدقت اخت اميرة ثورات الربيع العربي فكرة لاتموت برصاصة فاجر وديكتاتور ولابد من فجر الحرية أت.