كتب

المقدس والمجتمع.. محاولة لفهم معتقدات الشعوب وخصوصياتها (2من2)

الدورة الـ14 للملتقى العالمي للتصوف الذي تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية شمال المغرب- (الأناضول)
الدورة الـ14 للملتقى العالمي للتصوف الذي تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية شمال المغرب- (الأناضول)

الكتاب: "المقدس والمجتمع"
الكاتب: نور الدين الزاهي
الناشر: إفريقيا الشرق المغرب 2011

يسلط أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية الدكتور أحمد القاسمي، الضوء في الجزء الثاني والأخير من قراءته لكتاب "المقدس والمجتمع" للكاتب المغربي نور الدين الزاهي، على النموذج المغربي في العلاقة بين المقدس والمجتمع في أبعادها الدينية والفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ويقدم مقاربة نادرة ليس فقط لفهم الظاهرة الدينية والطقوسية في المغرب، وإنما تكشف عن طبيعة العلاقة القائمة بين الدين والسياسة..

 

 

 

المتخيل والمقدس ورهانات السياسة

1ـ في المقدّس

يتعلق المحور الثاني من أثر "المقدس والمجتمع" بعلاقة المتخيل الاجتماعي وبالمقدس. وفيه يتساءل الباحث، لرفع الحرج عن نفسه ربما، هل في البحث في المقدس وجعله موضوع درس تطاول عليه المقدس وإبطال له بما أنه يسلّط عليه منطقا مخالفا لمنطقه الدّاخلي؟ ويقدّر أنّ التسليم بهذا الرأي يجعله خارج دائرة المفكر فيه. ثم يحاول تعريفه فيواجه في ذلك ما واجهه في تعريف المتخيّل من عنت للطافة الفروق بين الدلالات المختلفة ولكون ما يصح منها في ثقافة ما قد لا يبدو دقيقا في ثقافة أخرى.

والمقدّس لصيق بالحضارات كما نعلم لا تخلو منه مجموعة بشرية. ولكنه يجد في منجز عالم الاجتماع الفرنسي دور كهايم لتعريفه ما يسعفه. فيحدد قدسية المقدس بكونها ما يجعلها تتعارض بشكل مطلق مع المدنس. فلكل منهما منظومة منسجمة داخليا بحيث يرتبط الأول بالطاهر والخالص من الشوائب المتعالي عن حياة الأفراد والمفارق للحياة الدنيوية فيما يحيل المدنس على الدنيوي والنجس. لا يلتقي المجالان إذن إلا لينفي أحدهما الآخر لتعارض منظومتيهما. 

ولكن هذا التخريج لا يحلّ المشكلة كليّا لأنه سيقودنا إلى سؤال آخر حول ماهية المدنس، وهو مختلف من جماعة إلى أخرى ومن ديانة إلى أخرى.  بل لعلّ ما يعتبر مدنّسا عند جماعة أو مذهب أو طائفة يكون جوهر المقدس عند أخرى. ولئن كان دوركهايم يربط المقدس بالإلهي فإنّ التعريفات اللاحقة تحوره. فتصادر على أنه ليس الإلهي بل هو أحد تعبيراته أو هو شكل من أشكال الاقتراب منه.

ويكون فهم المقدس أكثر عسرا في الثقافة الإسلامية. فهل أن نقيضه فيها هو المدنس أم الدنيوي؟ وهل كل ما هو دنيوي مدنس والحال أنه يحضر باستمرار داخل فضاء المقدس؟ أليست القداسة مرتبة أعلى من الطهارة (التي تتناقض مع النجاسة)؟ فمنها البركة ومنها الولاية في الطرق الصوفية والشيخ المبارك الذي ينتهك الحجب والقواعد الأخلاقية والتشريعية. ثم يرصد طائفة من دلالاته في الثقافة الإسلامية في شكل موسوعة ثقافية. فالمقدس هو الربّ ومن أسماء الله الحسنى القدوس، وهو الملائكة التي تمثل روحا قدسا والإنسان ينعت في حالات بعينها بالمقدس حين يجمع بين الطهارة الذاتية والروحية. 

وعلى النحو نفسه يخترق الفضاء، كما هو الحال بالنسبة إلى بيت المقدس أو الحرمين الشريفين أو يخترق الزمن كما هو الحال بالنسبة إلى الأشهر الحرم أو ليلة القدر. وللدنيوي فيه موقع فتتخذ الطبيعة، ما لم يدخل عليها ما يدنسها، مكانا للعبادة وبها يُتطهر من النجس اغتسالا بالماء أو تيمما بالتراب. وعليه فهي مقدسة بالجوهر مدنسة بالعرض والأصل في الوجود التقديس. 

ليس المقدس إذن مضادا بالكل للدنيوي في الثقافة الإسلامية.. وليس مرادفا للحلال ولا مضادا للحرام بالمطلق. أضف إلى أنّ المسافة بين الحلال والحرام تتضمن مراتب كالواجب والمُباح والمندوب والمكروه. والغزالي يقول: "اعلم أنّ الحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض. والحلال كله طيب لكن بعضه أطيب من بعض وأصفى منه" وكثيرا ما تحصل بين هذين الحدين شبهة.

2 ـ من المقدس إلى الطقوس

أمام هذه المتاهة من التعريفات تحدث قناعة لدى الباحث مدارها على أنّ البحث في مجال المقدس لا يمكن إذن أن يكون أمرا نظريا مجردا وأن الأسلم لفهم تصور مجموعة ما للمقدس دراسة مسار التقديس الذي تتوخّاه. وبدل طرح السؤال ما علاقة مجتمع ما بالمقدس يجب طرح السؤال حول الكيفية التي يعاش بها هذا المقدس ويُمارس. فينزل ضمن أبعاده الاجتماعية ولا يكون ذلك إلا عبر القيام بعمل تطبيقي يدرس هذا المسار ويستدعي التاريخ الواقعي. فيفتح نافذة على منطقة التقاطع بين المقدس والطقوسي. 

ضمن هذا الأفق تضحي دراسته بحثا في تمثل الكائن الإنساني للأشياء المحيطة به، للكائنات السماوية من نجوم وكواكب وجبال وللزمن، بما فيه من دورات وفصول، فلا يكون سهما ينطلق نحو الأمام دائما بل يتخذ شكلا دائريا عودا على بدء وللأشخاص، من أنبياء وصلحاء ومشايخ وللأساطير والحكايات، بما في ذلك القصص الديني، شرحا لانبثاق الوجود ونشأة الخلق. وتضحي الطقوس والشعائر، بما هي أشكال للعبادات وصيغ لتنظيم الإنسان لعلاقته مع العالم، تكرارا لأعمال سابقة. فالأعياد ترتبط بفصول معينة والصلاة تقام بشكل دوري يوميا أو أسبوعيا وكذا الأمر بالنسبة إلى القرابين والأضاحي. وتمثل الممارسة الطقوسية أبرز أشكال تجلي المقدس. فتشكل انخراطا، جماعيا عامة، انطلاقا منه يعبر الكائن من الدنيوي إلى القدسي. ويتحقق ذلك من خلال الانتقال إلى مجال الفعل والممارسة. وتضحي معيشا جسديا يتجاوز العلاقات العلية ـ العقلانية ويمتّن الصلة بالمقدس.

3 ـ الطقوسي في المغرب أنموذجا

يمثل الطقس بنية رمزية يتجلى عبرها المقدس ويتجسد في أفعال، ومن هنا مدخل علم الاجتماع لدراسته. فيجد الباحثون في السلوك الطقوسي ضربا من اللعب الجماعي يتجلي عبر:

ـ الرقص المقنع الذي يحقق التماهي حد فقدان الإحساس بالجسد ويؤشر على مغادرة الدنيوي للحلول في حضرة السماوي.

ـ العبور الذي مثّل احتفالا بانتقال فرد من مرحلة إلى أخرى أو من جماعة إلى أخرى.

ـ التضحية التي تتولى عقد صلة للإنسان مع العالم المقدس.

يفيد الباحث من هذه المقاربة النظرية لدراسة "الموسم" في المغرب أي تلك الاحتفالات الدورية التي تقام حول ضريح. ويجد فيها طبيعة شمولية مركبة. فيبدأ الاستعداد له بتجهيز الضريح ثم يأخذ المريدون في التوافد المبكر قصد الفوز بمكان قريب من قبر الشيخ. ويحضر في اليوم الأول ممثلو السلطة والهدف المعلن هو تنظيم وصول الطوائف والحرص على راحتهم ثم يصل عامل المدينة حاملا "هدية الملك". وبعد مغادرة ممثلي "صاحب الجلالة" ينطلق الموسم فعليا وتبدأ الألعاب الطقوسية. فتتوزع بين زيارة المرضى وأصحاب العاهات للأضرحة أو "الشوافات" اللواتي يعالجن ببركة الشيخ وينطلق الذكر الصوفي. ومن هذه الألعاب الفروسية والعروض السحرية وتقمص الحيوانات (الأسود واللبؤات أو الجمال والنوق) والعروض المبهرة كالتهام قطع الزجاج وغرس الإبر في الجسد وضع قطع الصبار الشائك على الجسد العاري.

 

تعهد للموسم عديد الوظائف الاجتماعية. فعلى هامشه ترفع الشكاوي والتظلمات وتحل النزاعات القبلية وضمن فضاء الأضرحة تقام مراسم الزواج والختان وتنصب الخيام في كامل أرجاء الحرم وتتخذ فضاء للأنشطة التعبدية والعلاجية والجنسية ولـ "تجارة البركة" ولكنّ هدفها الأكبر يتمثل في"جني ثمار البركة وتخزينها للموسم المقبل".

 



ينقل عن عبد الرحمان بن زيدان في أثره إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس تفسير ضرب أتباع بن حمدوش (الطريقة الحمدوشية) الرؤوس حتى تدمى "ولا سلف لهم في ذلك الفعل الشنيع والعمل الشنيع غير ما يقال أنّ بعض أتباع المترجم (أحمد بن حمدوش) من العوام لم يحضر وفاته متبوعة المترجم، فلما أتى من سفره وعلم لوفاته صار يضرب برأسه مع الجدران وبالأحجار أسفا على فقدان شيخه، وتحسرا على عدم حضوره لوفاته، واغتنام صالح دعواته. فاتخذ الأخلاط من أصحابه ذلك عادة، ولم يعلموا أنّ صاحب ذلك الفعل المحرم إجماعا ليس محلا للقدوة سواء قلنا أنه صدر عنه بحال اعتراه، لأن صاحب الحال يسلم له حاله ولا يتقيد يفعله لأنه فاقد للتكليف".

وتعهد للموسم عديد الوظائف الاجتماعية. فعلى هامشه ترفع الشكاوي والتظلمات وتحل النزاعات القبلية وضمن فضاء الأضرحة تقام مراسم الزواج والختان وتنصب الخيام في كامل أرجاء الحرم وتتخذ فضاء للأنشطة التعبدية والعلاجية والجنسية ولـ "تجارة البركة" ولكنّ هدفها الأكبر يتمثل في"جني ثمار البركة وتخزينها للموسم المقبل". فهي حج للفقراء ممن لم يستطيعوا سبيلا إلى زيارة الحرمين فينهلون من وليهم الصالح البركة ويقدمون الهدايا والأضاحي. وتضحي بركة الشيخ معيشا جسديا يتشبع بها المريدون فيقبلون الضريح ويمسحون عليه براحات الأيادي ويتلمسون الكسوة ثم يمررونها على الوجه والصدر. وتضحي روح الشيخ وبركته مجسَّدين يمسك بهما من محيط الضريح وينقلان إلى روح المريد. هكذا يتحرر الجسد الطقوسي من معطبات الجسد اليومي ويتحوّل إلى جسد طقوسي.

4 ـ الطقوسي والصراع السياسي المقنّع

يكون الموسم مجالا لفعل الحقل السياسي والسلطة السياسية بالتبعية والديني والسلطة الروحية بالنتيجة. فيجمع بين المتخيل الديني والطوبى السياسية وترفع الحدود بينهما، بين مريد الطريقة والعضو السياسي وبين الولي والأمير المرشد وبين الولاية الصوفية والقيادة السياسية وتخلق وجوها من التناظر بين قطبيهما. ولما كان الملك يستمد شرعيته من شرفه الرفيع ومن إمارته للمسلمين، مثل بروز قطب آخر (الشيخ) يستمد شرعيته من الشرف والبركة ومن استقطاب المريدين ـ المؤمنين إزعاجا لمؤسسة الحكم وكرّس صراعا خفيا بين سلطان السياسة وسلطان البركة. لذلك كان العرش يعمل على احتواء سلطان البركة وعلى إظهار علويته عليه. فالموسم يتم بمباركته ويستهل بهديته الماثلة للعيان، فيما تظلّ هدية الشيخ مؤجلة. 

وبالمقابل تعمل جماعة "العدل والإحسان" ممثلة الإسلام السياسي على السطو على خطاطة الموسم تلك. فتفرغها من بعدها الصوفي والروحي وتشحنها بالدلالة السياسية. فتحوّل التضحية الكاملة من أجل الشيخ وتلقي إشاراته وحفظ كراماته إلى تلق للأوامر من القائد. 

5 ـ المجتمع والمقدس.. وبعد؟

يشتمل أثر "المجتمع والمقدّس" على عرض نظري يستقيه صاحبه من علم الاجتماع الديني ومن مباحث الأنتربولوجيا. ويسعى عبره إلى ضبط ما يشبه منوالا يعتمد لتحليل الظاهرة الدينية وإبراز علاقتها بالمتخيل ويدفع نحو منهج مساعد لفهم السلوك الديني ومختلف تجليات الممارسات الطقوسية. وانطلاقا منه يعمل على تفكيك طقوس الموسم المغربية وإبراز أثر المخيال في تشكيل ممارساتها المستقاة من الثقافة والتاريخ والتجارب السابقة وإبراز رهاناتها السياسية الخفية. فخلف البعد الروحي والسلوك التعبدي يكمن التنافس الحاد بين الفاعلين السياسيين بغاية السطو على هذه الممارسات وجعلها معبرا للسلطة. فالمؤسسة الملكية تحاول أن تحتويها لتجعل بركة الشيخ فرعا من بركة أمير المؤمنين ولتجعل سلطته تجسيدا للسلطة السياسية العليا. أما جماعة العدل والإحسان ذات الخلفية المركبة، فتستلهم روح الطريقة، بكل مستلزماتها من ذكر وشعائر وتعبد، وركن الدعوة الذي ينفتح على المجتمع لنشر أفكارها وكسب المتعاطفين وخصائص التنظيم الجهادي حتى تعبر العضو من الانتماء إلى العمل ضد الدولة لتغيير بنائها نحو خلافة إسلامية. فتسطو على هيكل الممارسة الطقوسية ووعائها لتشحنهما بدلالة جديدة. وتتحول العلاقة بين الشيخ والمريد في الطريقة إلى علاقة بين قائد يأمر وتابع يخضع وينفذ ويكون أداة طيعة تحقق مرامي التنظيم السياسي لنفي الشرعية الدينية والسياسية عن "أحكام الجبر" وعدم الاعتراف بولايتهم للمؤمنين. وهكذا تنتقل من مستوى المعارضة إلى مستوى العصيان.

تجعل هذه النتائج القيمة أطروحة نور الدين الزاهي مهمة. ولكنها لا ترد في الأثر بهذا الوضوح فيحجب غبار المداخل النظرية الكثيرة معالمها ويكون الطريق إليها شاقا وشائكا. فهل يعود ذلك إلى عدم قدرة الباحث على صياغة الفكرة بالوضوح الضروري؟ هل يعود ذلك إلى ضيق هامش الحرية أو حرج الباحث وعدم امتلاكه للجرأة الكافية وهو "يتكلّم" في مجالين من "المسكوت عنها" في عالمنا العربي: الدين والسياسة؟ قد نفسّر ذلك وفق هذه الفرضية أو تلك ولكن مذهبنا يظل محض تقدير، لذلك نترك لقارئ الكتاب أن يحكم بنفسه.

 

إقرأ أيضا: المقدس والمجتمع.. محاولة لفهم معتقدات الشعوب وخصوصياتها 1من2

التعليقات (0)