أفكَار

مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.. الجزائر ومقاومة التطبيع (2من2)

الجزائريون موحدون في الانحياز لفلسطين ورفض التطبيع مع الاحتلال  (فيسبوك)
الجزائريون موحدون في الانحياز لفلسطين ورفض التطبيع مع الاحتلال (فيسبوك)

بينما لم تهدأ ردود فعل النخب والشعوب العربية الرافضة لاتفاق التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي، أعلنت البحرين أمس الجمعة أنها اتخذت ذات الخطوة الإماراتية لجهة تطبيع علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي.. وهو ما أسهم في تزايد الأصوات الرافضة للتطبيع عربيا وإسلاميا ودوليا، من خلال تجديد الانحياز لحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه والعودة إلى دياره، واعتبار أن أي خطوة عربية رسمية باتجاه التطبيع مع الاحتلال إنما هي خذلان وخيانة للشعب الفلسطيني أولا، ولقضية إسلامية وإنسانية.

يواصل الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار في الجزء الثاني والأخير، من تقريره عن موقف النخب الجزائرية من خطوات التطبيع التي اتخذتها بعض أنظمة الخليج العربي، استطلاع الرأي عن تداعيات خطوات التطبيع العربي الرسمي مع الاحتلال على مستقبل القضية الفلسطينية.

حاضر فلسطين / ماضي الجزائر

يرجع الشاعر رابح ظريف بالذاكرة إلى لقاء كرة القدم الشهير الذي لعب فيه المنتخب الوطني الجزائري ضد شقيقه الفلسطيني بالجزائر، ليفسر سر هذه العلاقة المتينة بين الجزائريين وقضية العرب المركزية فلسطين، يقول رابح ظريف: "حينها وعلى غير عادة جماهير الكرة في كل العالم.. شجع الجمهور الجزائري الفريق الفلسطيني، إنّ هذه الحادثة تشكل حالة استثنائية غير عادية تماما.. ففلسطين بالنسبة للجزائر ليست مجرّد جغرافيا.. إنها التاريخ.. حاضرُ فلسطين اليوم هو ماضينا وتاريخنا القديم الذي تشكّل من آلام آبائنا وأجدادنا.. لا زلنا نعيشُ ونحنّ إلى بطولات بن مهيدي وبوضياف وديدوش.. نعيشها في الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة.. ولأننا شعب جرّب ظلم الاستعمار والاحتلال فإنّه من الطبيعيّ أنْ نحسّ اكثر من أي شعب آخر بمعاناة الإخوة والأشقاء الفلسطينيين، وأعتقد أنّ الذي جمع كل الجزائريين على موقفٍ واحد موحد من فلسطين هو هذا الرصيد التاريخي والروحيّ الذي ورثناه عن الثورة التحريرية ومختلف المقاومات الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي". 

 



ويذهب الشاعر رابح ظريف أبعد من ذلك وهو يتحدث لـ "عربي21"، حين يشدد أن فلسطين تحولت في العقدين الأخيرين من قضية إلى ورقة سياسية تتاجر بها بعض الحكومات وكثير من المنظمات السياسيّة العابرة للحدود والجغرافيا.. إلا أن الجزائر شعبا وحكومة فقط من صنعا الاستثناء.. فلم يحدث في تاريخ الدبلوماسية الجزائرية سواء الموقف الرسمي للحكومات المتعاقبة أو المواقف الشعبية ومواقف الطبقة السياسية أن وظّفت القضية الفلسطينية لأغراض سياسيّة أو مصالح خاصّة، لذلك يعتز الفرد الجزائري دائما بالمواقف المعادية للتطبيع مع هذا الكيان.. وأعتقدُ جازما أننا جميعا سنكون في صف فلسطين.. وحتى ولو بقي فلسطينيّ واحد يقاوم إسرائيل فسنكون آخر من يدعمه..

عشق الحرية ورفض الظلم

ويرجع سمير بوعزيز، رئيس أكاديمية الشباب الجزائري، سبب رفض الجزائريين للتطبيع إلى طبيعة وعقيدة الشعب الجزائري التواق للحرية ورفض الاحتلال والقيود، فقد تعرضت الجزائر عبر مر الزمن لهجمات ونكبات كان آخرها الاستعمار الذي قامت به فرنسا الاستدمارية نيابة عن الغرب، والتي شنت فيه حرب إبادة شاملة استهدفت الأرض والإنسان والحضارة وكل ما يرمز إلى وجود الدولة بكل مقوماتها وامتداداتها، بنفس عقلية الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، هذا ما يجعلنا نتعلق أكثر بالقضية لإدراكنا أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد احتلال ناهب للخيرات والثروات، وإنما هو تحدي لوعد الله وللأمة الإسلامية ومحاولة للقضاء على هوية الأمة، والجزائري وفي لتاريخه العريق وانتمائه الإسلامي العربي الحضاري لذلك لن يرضى بأي تطبيع مهما كان الأمر.

ويؤكد سمير بوعزيز في حديثه لـ "عربي21"، أن التطبيع خيانة لشرف الانسان الجزائري ولأهله ولدينه ولأمته، ثم أن الخيانة بالنسبة له ليست وجهة نظر ولا يمكن أن تكون كذلك، وعليه فهو يستبعد تماما إمكانية أن يأتي يوم وتربط فيه الجزائر علاقات بدولة الكيان، ذلك "على الرغم من وجود بعض الأصوات النشاز ووكلاء الاستعمار الذين يعيشون بين ظهرانينا، وبالرغم من الضغوط الرهيبة الممارسة على بلادنا وعلى الرغم من اختلاق الأزمات على حدودنا الملتهبة إلا أن موقفنا سيبقى رافضاً لكل ما من شأنه إضعاف القضية الأساسية وإضعاف الشعب الفلسطيني، فالعقيدة الدبلوماسية للجزائر ترتكز بالأساس على الوفاء بالتزاماتها اتجاه أشقائنا وحلفائنا، وتقف بشهامة إلى جانب  كفاح الشعوب وقضايا التحرر الوطني، مستمدة عنفوانها من بيان أول نوفمبر الذي لم يغفل الجانب الدبلوماسي كوسيلة من وسائل الكفاح والتحرر، وتستمد مرجعيتها التاريخية من شخصية الدولة الجزائرية الحديثة التي بسطت سيادتها ونفوذها وفرضت هيبتها على امتداد تواصل البحر الأبيض المتوسط ولقرون".

 



ويخلص الأستاذ سمير بوعزيز إلى التوضيح أن الشعب الذي قام بثورة كثورة نوفمبر المجيدة وقاوم الغزاة الصليبين الهمجيين ،هو شعب مصمم على الحياة من أجل الدفاع عن عقيدته ووطنه وقضايا أمته، وهو سيحاصر بلا شك كل مظاهر الخيانة والشر والتطبيع ويعمل بدون هوادة من أجل الدفاع عن شرف الأمة وقضاياها خاصة أرض فلسطين كاملة وعاصمتها القدس الشريف،وباعتقاد ثابت لأنه خلق من أجل رسالة وهدف وليس من أجل نزوة ووجوده ليس عبث. عكس بعض الدول التي تعقد الاتفاقيات لسلام مزعوم وهي لم تقم بثورة ولا تعرف معناها ولا تعرف معنى الحرية بالأساس".

من جهته، يرى الكاتب والأديب الجزائري الطاهر يحياوي، أن الجزائر بلد له رصيد تاريخي طويل تمخض عن ثورة عالمية، كان لها دور كبير في تحرير الانسان من العبودية والاستعمار، لذلك فمن الطبيعي ان تظل الجزائر ذات قيم انسانية وان تكون من الدول المقدسة للحرية كقيمة انسانية عبر العالم كله، فموقف الجزائر ليس موقفا سياسيا بالدرجة الأولى بل هو موقف مبدئي وهو موقف سليم بكل المقاييس الانسانية والسياسية، فلا يمكن لأمة دفعت الملايين من أبنائها من أجل الحرية أن تتنكر لمبدإ الحرية، خاصة وأن هناك في فلسطين شعبا يهان ويذل ويتعرض للقوة الجهنمية ولسلب حقوقه الإنسانية وحقوقه الشرعية والتاريخية وتداس إنسانيته وتنزع منه مقدساته بالقوة.

 

يقول الأديب الطاهر يحياوي في حديثه لـ "عربي21": "ان الشعب الجزائري تعرض للظلم وذاق مرارة الاستعمار ولذلك فهو يرفض الظلم والاستبداد، بغض النظر عن الروابط الروحية والتاريخية بين الشعبين الجزائري والفلسطيني، إنه ضد الاستعمار أينما كان وفي أي زمان"، غير أن تخاذل الجامعة العربية في نصرة الحق الفلسطيني كما صار واضحا، من شأنه أن تدفع الجزائر وأحرار الأمة إلى البحث عن بديل عن هذه الجامعة، وإلى تحالفات أخرى تخرج المنطقة من مأزقها الحالي.
 
الحب الجزائري الفسطيني

ويقر الكاتب والإعلامي الفلسطيني أنور الخطيب بأن الذين يطبعون الآن مع إسرائيل هي الحكومات وليست الشعوب، والجزائر، حكومة وشعبا، لم تطبّع، ولا أعتقد أنها ستطبّع في المستقبل القريب، وقد يستمر هذا الموقف إلى أن تقوم الساعة، وقد تأتي حكومة تشذ عن التوجه العام للجزائريين، ولن يحدث هذا بسهولة لأن الشعب الجزائري سيكون لها بالمرصاد، وستسعى إلى قمعه، وقد يناضل مائة سنة كما فعل مع الاستعمار الفرنسي، لكنني، وفي زمن مفعم بالمفاجآت، ومع تبدّل الأجيال وتغيّر اهتماماتهم وإيقاع حياتهم وتطلعاتهم وثقافاتهم، والتي ستفرز قيادات وحكومات مختلفة التوجهات، قد يحدث أي شيء، قد يحدث التطبيع، وقد يزداد الشعب عناداً، ولا أدري إن كانت الثورة أصبحت في الجينات، ولا أدري إن كانت جينات الثورة تنتقل عبر الأجيال، لأن الجزائري بشكل عام ومن حيث المبدأ إنسان ثوري وعنيد أمام الظلم وحاد في اتخاذ مواقفه وصارم في قناعاته ومبادئه، فقد عانى من الاستعمار الاستيطاني الإجرامي أكثر من مائة عام، وقدم ملايين الشهداء، وانتصر أخيرا. 

 



أما بالنسبة للحكومات، فيترك أنور الخطيب مسافة للمفاجأة، موضحا أن مبادئ بومدين العظيم غيرتها الحكومات المتعاقبة، ونأمل ألا تتغير أكثر بحيث تتلاشى، فالسياسي كائن إنتهازي ولا تعلم متى يعقد صفقة ويبيع كل شيء. 

إلا أن الانسان الجزائري، كما يخلص أنور الخطيب، وهو فلسطيني مقيم بالجزائر، في حديثه لـ "عربي21"، هو كما عرفته إنسان مبدئي بشكل عام، ومنحاز دائما للحق وضد الظلم، فهو لا يحتمل فكرة الاستعمار لأنها حاولت تشويهه وسلبه إنسانيته، ولا يحتمل سماع تاريخ الاستعمار إلا من جهة المقاومة، بمعنى أن الجزائري يرفض الخنوع والخضوع، والتطبيع بالنسبة إليه هو عودة لوجه الاستعمار القبيح، وبعث المعاناة بكل أنواعها وأبعادها، وتثور دماؤه حتى حين يرى الفلسطينيين يتصالحون مع العدو الإسرائيلي، فهو إنسان محافظ ويعتز بدينه ومقدساته، وقد حارب الجزائري في فلسطين وقدم شهداء كثيرين، ولا أعتقد أنه يستطيع الدخول بسهولة إلى منظومة التطبيع، والفلسطيني يقدّر للجزائري منذ ما قبل النكبة، مواقفه الشجاعة والتاريخية، ويرى فيه الآن الداعم والمؤازر، والشعب الفلسطيني معجب جدا بالشعب الجزائري لأنه النموذج والمثال في النضال والاستقلال، وعلى الصعيد الشخصي عرفت الجزائري عن قرب: إنسان لا يعرف المداهنة ولا المجاملة وصادق في مشاعره وانفعالاته ومواقفه، ويعشق فلسطين والفلسطينيين.

كراهية الإستعمار بكل أشكاله

ويفسر الدكتور لخضر بولطيف، أستاذ التاريخ والحضارة الاسلامية بجامعة المسيلة، هذا التميز الجزائري، بأن الجزائر التي انتزعت استقلالها ببذل الغالي والنفيس، وتقديم التضحيات الجسام من أرواح أبنائها، قد قامت سياستها الخارجية، منذ تحررها من نير الاحتلال الفرنسي الغاشم، على مبدأ مناصرة حركات التحرر في العالم، حتى أنها أضحت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قبلة الثوار والأحرار. كما أن الجزائر التي عانى شعبها كثيرا من ويلات احتلال استيطاني مرير، ألفت نفسها، ومنذ السنوات الأولى لاستقلالها، معنية بمد يدها إلى جميع الشعوب التي لا تزال ترزح تحت وطأة الاحتلال، وكان في صدارة تلك الشعوب التي تبنت الجزائر قضيتها، وانحازت إلى نصرتها، شعب فلسطين، الذي اغتصبت أرضه من قبل كيان صهيوني بغيض. 

 



ويضيف الدكتور لخضر بولطيف في حديثه لـ"عربي 21": إن الجزائر وقد اختارت منذ البدء أن تصطف إلى جوار الدول المناهضة للامبريالية العالمية، كان موقفها واضحا بإزاء القضية الفلسطينية، حينما أعلنت على لسان قيادتها السياسية العليا أنها مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، وهو الموقف الذي تكرس في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988، بإعلان قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس، من مدينة الجزائر العاصمة. 

وحول سر هذا التشبث الجزائري العميق بقيم الحرية، يقول الدكتور بولطيف: إن التاريخ رافد رئيس من روافد شخصية الإنسان، وإن العارف بتاريخ الجزائر عبر العصور، وما عاناه إنسان هذا الصقع من الأرض من استهداف لغزوات عسكرية متتالية، واحتلالات استيطانية رامت اقتلاعه من أرضه، ومحو ذكره من الوجود، سيدرك من غير كثير عناء، سر هذا التشبث المستميت لدى الجزائري بالحرية، واستعصائه عن الخضوع. وإنه مهما تأتى للاحتلال أن يخضد شوكة هذا الشعب المجاهد، أو يلجئه بعض الوقت للاستكانة، فإنه سرعان ما ينبعث من جديد أكثر عزما، وأشد ضراوة، لاسترداد حريته، وطرد المحتل خارج أرضه. ولقد أثبتت الوقائع والأحداث فشل كل السياسات التي انتهجها محتل الأمس الفرنسي بالتواطؤ مع بعض عملائه في الداخل، للعب على وتر المصالحة بين البلدين، وترميم الذاكرة التاريخية، بما يسمح بطي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة من التواصل والتعايش. فإذا كان بغض الجزائري لمحتل الأمس لا يزال متجذرا في وجدانه، فما بالك بمحتل لا يزال قابعا فوق أرض لها قدسيتها ورمزيتها، ولا يزال يتفنن في اضطهاد شعب أعزل، تربطنا به أواصر اللغة والدين والتاريخ.

فلسطين عرض وشرف كل جزائري

ولا يتوقع الدكتور بولطيف أن تخضع الجزائر لجميع أنواع الإكراهات من أجل القبول بالتطبيع، ذلك أن حرص الدولة الجزائرية ـ كما يقول ـ على صون سيادتها، ورفضها المساومة على مواقفها المبدئية، وإن اعتزاز الشعب الجزائري بانتمائه الحضاري، ووفائه لروابط الأخوة والدم، ومهما تكن الضغوط الممارسة، وهي قد مورست، ولا تزال تمارس بأساليب شتى، ومهما يكن من بعض المواقف الشاذة كمصافحة الرئيس المخلوع لرئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك خلال مراسيم تشييع جنازة العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني في شهر آب (أغسطس) من العام 1999، والتي عدت بمثابة ورطة ديبلوماسية، تم التملّص منها، والاعتذار عنها، أو من بعض الأصوات النشاز، التي تصدر بين الفينة والأخرى، عن أفراد لا يمثلون سوى أنفسهم أو زُمرا محدودة من الوصوليين الانتهازيين، فإن الموقف الشعبي كما الرسمي من التطبيع، من الصعب أن نتخيل أو أن نفترض تحوّله من خانة الرفض والصدود إلى خانة القبول والترحيب. لا يمكن لأي سلطة مهما تكن حساباتها أو الإكراهات التي قد تحيط بها، أن تجازف بالانخراط في مسعى التطبيع، لأنها تعلم ببساطة أن بقاءها إنما هو رهن التفاف شعب، قد يغض الطرف عن أي مظلمة إلا أن يُمس في عرضه أو شرفه أو كرامته، وفلسطين القدس والأقصى هي عرض وشرف وكرامة كل جزائري حر أبي.

 

إقرأ أيضا: مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.. الجزائر ومقاومة التطبيع (1من2)

التعليقات (0)