مقالات مختارة

بداية أفول المشروع الديمقراطي الغربي

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

من المتوقع عودة السجال الفكري مجددا حول قضايا الحكم والسياسة في عالم اليوم في إثر انتشار وباء كوفيد ـ 19 وما تركه من صدمة غير مسبوقة في كافة أنحاء العالم كافة.

ومن المؤكد أن المشروع السياسي الغربي سيكون أحد المتضررين من هذا السجال، بعد أن سجلت الدول الأوروبية «الديمقراطية» إصابات تفوق أكثر البلدان الأخرى، وهي أزمة حقيقية لأنها ترتبط بالحياة والموت. ويشعر الغربيون بضعف أدائهم مقارنة بأداء الدول «غير الديمقراطية» خصوصا الصين وإيران وكوريا الشمالية التي تصنف ضمن «الأنظمة الشمولية». وسيزيد من حدة السجال وجود قادة مثل الرئيس الأمريكي الحالي الذي يتوقع خوضه الانتخابات الرئاسية المقبلة برغم أدائه الفاشل تماما. كما أن بريطانيا سجلت أعلى معدلات الوفاة في أوروبا، وهي «أعرق الديمقراطيات» في العالم. الوباء فرض سجالا أيديولوجيا خطيرا ولم تنحصر آثاره وتبعاته على الجوانب الصحية والعلمية. ويتوقع أن يتطرق السجال لجوانب عديدة منها: هل الديمقراطية هي النظام الأمثل لهذا العالم؟

كيف يمكن صوغ نظام سياسي يحكم الدول ويضمن عدم وصول أشخاص غير أكفاء إلى رأس الحكم؟ ما هي جوانب العجز في المشروع الديمقراطي؟ ما مدى إنسانية هذا النظام في ضوء انتشار الوباء وكذلك دوره في إذكاء الحروب وتفننه في صناعة أدوات الموت؟ ما تبرير السياسة الغربية التي تروج الصفة «الديمقراطية» لنظام يحتل أراضي الآخرين ولا يلتزم بالقرارات الدولية؟ ما موقع الأخلاق في المشروع الديمقراطي؟ وما دوره في مجال ترويج مبدأ حكم القانون والعمل الدولي المشترك؟

ثلاثة أمثلة صارخة من الأداء السياسي للحكومات، تتحدى الفكر والضمير الإنسانيين ويتوقع أن تحظى باهتمام النخبة المثقفة والسياسية الغربية اذا استطاعت الخروج من وهم العظمة والتفوق الأيديولوجي والعنصري على بقية البشر: الولايات المتحدة وبريطانيا و «إسرائيل». هنا ستكون «الديمقراطية» محور السجال الهادف لتقييم التجربة البشرية على مدى ثلاثة أرباع القرن، أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. أولها الولايات المتحدة الأمريكية التي كادت (في عهد أوباما) تخرج من قيود تاريخها المعاصر وتقلص الفجوة النفسية والشعور السلبي تجاهها من شعوب، ولكن سرعان ما انتكست تجربتها ليس بفوز رئيسها الحالي فحسب، بل باحتمال ترشحه من قبل الحزب الجمهوري لدورة رئاسية ثانية هذا الأسبوع. ومهما حاولت أمريكا فلن تستطيع تسويق مشروعها السياسي لأحد في ظل رئاسة دونالد ترامب الذي أصبح يمثل نقطة سوداء في تاريخ الحكم السياسي البشري المعاصر. فاذا كان من المؤاخذات التي سجلت على الديمقراطية الغربية سابقا صعود أدولف هتلر إلى الحكم الألماني في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن ترامب يمثل تحديا أكبر للضمير الإنساني. فلم يترك موبقة إلا ارتكبها. فأمريكا التي طالما حلمت باستمرار موقعها القيادي في العالم، تسارعت خطاها نحو «العمل الأحادي».

وخلال السنوات الأربع الماضية سحب ترامب بلاده من المؤسسات الدولية المهمة مستغلا مشاعر مواطنيه بشعار «أمريكا أولا». فقد أعلنت أمريكا انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) متهمة إياها بأنها تعادي «إسرائيل» كما انسحبت من «معاهدة باريس للمناخ» وأخرج ترامب واشنطن من «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي» التي وقعتها 11 دولة عام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادي باستثناء الصين.

وسحب ترامب بلاده من الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع ست دول كبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، وألمانيا)، ومن مجلس حقوق الإنسان. كما أطلق مفاوضات جديدة بشأن اتفاق التبادل الحر لدول أمريكا الشمالية (نافتا) التي تشمل منذ عام 1994 الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. وجمد عضوية أمريكا في منظمة الصحة العالمية برغم انتشار الوباء في العالم والحاجة لجهة تدير المشهد. وأصبح من أشد منتقدي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وشن مؤخرا غضبه على «المحكمة الجنائية الدولية» بعد أن قررت فتح ملف «إسرائيل» في تعاملها مع الفلسطينيين. كما أن مواقفه وتصريحاته خلال أزمة كورونا أثارت تقززا واسعا لدى العالم. وأخيرا أصبحت أمريكا بلدا يعيش أزمة عنصرية خطيرة فشل ترامب في التعاطي معها بالحكمة والعقل، وأصبح يتباهى بإرسال القوات الخاصة لقمع التظاهرات ضد عنصرية أجهزة الأمن والشرطة. ومن المؤكد أن الأيديولوجية السياسية التي تسمح بوصول رئيس كهذا إلى البيت الأبيض لا يمكن الوثوق بها. فقد فشلت هذه الأيديولوجيا في ضمان مستوى لائق من المؤهلات لمن يتطلع للوصول إلى مواقع الحكم في هذه البلدان. وربما مرت لحظات شجعت بعض المفكرين لإصدار مقولات اعتبرت المشروع الديمقراطي ذروة تطور التجربة البشرية، كما فعل فرانسيس فوكوياما قبل حوالي 30 عاما.

ولكن هذا الرجل نفسه غيّر موقفه بعد عشر سنوات من إطلاق تلك المقولة بعد أن اتضحت حقيقة المشروع الأمريكي وانسلاخه من الإنسانية. كما فشلت التجربة في حفظ السلم العالمي، فها هي أمريكا تدعم التحالف السعودي ـ الإماراتي على اليمن، ويعلن ترامب علنا أنه يمارس سياسة ابتزاز علنية من أجل سحب مئات المليارات من حكام هذا التحالف، ويتباهى أمام ناخبيه بذلك، ويصفق ناخبوه الذين عاشوا حالة النشوة آنذاك من ذلك «الرجل الحديدي»، لكن هؤلاء الناخبين سرعان ما وجدوا أنفسهم مهددين بالموت من الوباء؛ لأن رئيسهم تعاطى معه بسذاجة وسطحية واستهزاء جعل أمريكا من أكثر بلدان العالم إصابة بالوباء.
أما المثال الآخر، فيتمثل بالتجربة البريطانية الحالية. فالبريطانيون يتساءلون: لماذا أصبحت بلدهم الأكثر تضررا بالوباء من بين دول أوروبا؟ لماذا يحكم هذا البلد العريق بنخبة سياسية غير كفؤة؟

هل هناك حقا أيديولوجيا سياسية قادرة على توفير الأمن والحماية من الموت بشكل فاعل؟ لماذا عجزت نخبة الحكم عن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي سبقتها في التعاطي مع الوباء؟ لماذا تأخرت الحكومة في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع وفاة عشرات الآلاف وإصابة مئات الآلاف برغم وجود تجارب فاعلة في الشرق خففت من الخسائر البشرية الهائلة؟ ما جدوى الديمقراطية اذا فشلت أمام أزمة حقيقية، جعلت المواطن يعيش بين الحياة والموت كل يوم؟ كيف أصبح المشروع الأيديولوجي يترنح بين الشعور بضرورة العمل الجماعي المشترك ضمن الاتحاد الأوروبي والتوجه للنمط الأمريكي المؤسس على «العمل الأحادي» الذي لا يعترف بمحيطه الإنساني؟ كيف اصبح الإعلام وأجهزة الأمن والاستخبارات هي التي تحدد مسار البلد، وأصبحت توجه «الناخب» نحو ما تراه من خيارات؟ إن النظام الذي يسحق سياسيا مخضرما ذا نزعة إنسانية فريدة مثل جيريمي كوربين، ويرفع شخصا كرئيس الوزراء الحالي الى رأس الدولة لهو تأكيد لضرورة إعادة النظر في المنظومة الديمقراطية في نسختها المعمول بها حاليا.

هذه المنظومة التي تتيح للحكم أن يستخدم أموال الناخبين لدعم العدوان على اليمن والتحالف مع أشخاص مثل محمد بن زايد ومحمد بن سلمان لزعزعة أمن المنطقة وشعوبها، وتدريب خبراء التعذيب في بلد كالبحرين، كما لم تستطع توفير الأمن الصحي للمواطنين الذين يعيشون تحت سلطتها، يجب أن تخضع للتمحيص والفحص. الأمر المؤكد أن هناك تجهيلا وتوجيها للمواطن العادي الذي أصبح خاضعا للتأثير المباشر لـ «الدولة العميقة» وليس مستقلا في قراره.

أما المثال الأخير، فيتمثل بـ «إسرائيل». هذا الكيان الذي يروجه الغربيون بأنه «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» مثال صارخ لظلم النظام السياسي الغربي «الديمقراطي» الذي تبلور بعد الحرب. كيف استطاعت «الديمقراطية الغربية» ارتكاب المجازر بحق اليهود على نطاق واسع ثم أفلتت من العقوبة؟ كيف استطاعت بالسلاح، إجبار جهات أخرى بريئة من الجرم، على دفع فاتورة ما ارتكبته بحق اليهود؟

وبعد سبعين عاما ما يزال الفلسطينيون يناضلون من أجل استرجاع أرضهم المحتلة، وبدلا من دعمهم تتواصل جهود «الديمقراطية الغربية» للضغط على الأنظمة العربية للاعتراف بالكيان الغاصب والتخلي عن فلسطين أرضا وشعبا. هذه الحقائق تدفع للسؤال عن حقيقة جوهر المشروع الديمقراطي؟

هل عملية «الانتخاب» هي الديمقراطية حتى لو جاءت بما لا ينسجم مع الإنسانية والحق والمنطق السويّ؟ ما قيمة هذه الديمقراطية إذا كانت في أوقات الشدة، كما هو الحال اليوم، غير قادرة على حماية الإنسان من الوباء أو من الاحتلال والاستبداد والظلم؟ ما معنى أن يكون «المشروع الديمقراطي» متحالفا مع أشد الأنظمة قمعا واستبدادا ونهبا؟

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)