مقالات مختارة

محاولة لفهم ما طرأ على العقل الخليجي من تغيير

سيد قاسم المصري
1300x600
1300x600

ما الذي حدث لقضية العرب الأولى وللقدس ومسجدها الأقصى "الذي باركنا حوله" كما قال الله تعالى في سورة الإسراء، مما يعني  أن البركة تمتد للأرض التي حوله، ما الذي حدث لمسرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه وأول قبلة في الإسلام وثالث الحرمين الشريفين؟


ما الذي جعل دولة عربية غنية بمواردها وغير مضطرة ولم تستكره على هذا الأمر تندفع تجاه إسرائيل وتقيم معها علاقات كاملة مقابل لا شيء.. سوى ورقة التوت التي أظهرت أكثر مما أخفت؟ فما إن أعلنت الإمارات أنها اتخذت هذه الخطوة لوقف ضم إسرائيل لثلث الضفة الغربية وغور الأردن، حتى سارع نتنياهو إلى نفي ذلك تماما، قائلا إن ما تعهدت به إسرائيل ليس وقفا بل تأجيلا لهذه الخطة التي لن يتنازل عنها؛ لأنها جزء من أرض إسرائيل ومن مبادئه وخطته التي تعهد بتنفيذها أمام الشعب الإسرائيلي.


إن مصر بموافقتها على إقامة علاقات "رسمية" مع إسرائيل، إنما فعلت ذلك لإنقاذ شبه جزيرة سيناء التي تبلغ مساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل. وكانت سيناء أكثر الأراضي العربية المعرضة للخطر لخلوها من السكان فى ذلك الوقت. وفي هذا الصدد فقد نقل عن موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، أنه قال: "لقد صعدت إلى جبل الزيتون بالقدس يوم 10 يونيو (حزيران) 1967 بعد توقف القتال ونظرت، فوجدت أن الفلسطينيين لم يفروا كما فعل أسلافهم 1948 بل دخلوا بيوتهم وأغلقوا على أنفسهم الأبواب والنوافذ، فعلمت أننا لم نكسب الحرب أو لم نكسب الأرض؛ لأننا أخذناها بسكانها". وهذا يؤكد أن الأرض الخالية من السكان هي أكثر الأراضي المحتلة عرضة للضياع. فما الذى حصلت عليه الإمارات مقابل خطوتها الجريئة؟ لا بد أن هناك اعتبارات مقنعة على الأقل لصناع القرار دفعتهم في هذا الطريق.


***


باعتقادي أن الأمر يعود إلى التغير الكامل الذي طرأ على المفاهيم والأفكار، وهو التغير الذي يمس أساس الأمن القومي الخليجي كما يراه حكام الخليج الآن -والأمن الخليجي هنا يعني في المقام الأول أمن الأنظمة الحاكمة-؛ فمنذ أن قام صدام حسين بغزو الكويت ومحوها كدولة من خريطة العالم، وهروب أميرها وحكومته في جنح الظلام إلى السعودية، وما تلا ذلك من مظاهر تأييد لصدام حسين في عدد من الدول العربية من بينها فلسطين، حتى حدثت مراجعة أساسية عميقة للثوابت وللأخطار التي تهددهم، بل وللقومية العربية نفسها ومبادئها.

 

فقد اقتنع شيوخ الخليج أن الخطر الذي يهدد عروشهم لا يأتيهم من إسرائيل، كما ثبت لهم أن أمنهم لم يتحقق إلا من خلال التدخل الأمريكي الحاسم الذي حشدت له الولايات المتحدة قوة قوامها نصف مليون جندي، مسلحة بأحدث ما على وجه الأرض من أسلحة وتكنولوجيا، وهي التي قامت بطرد الجيش العراقي من الكويت وإعادة أميرها وحكومته إليها. 

أمريكا الحليف الأول لإسرائيل هي المنقذ وهي الضمانة المؤكدة، ومفاتيح أمريكا كلها بيد إسرائيل. ومن ناحية أخرى، فإن القومية العربية لم تعد سندا بل مصدرا للخطر، وقد لمسْت هذه المشاعر بنفسي في أثناء وجودي في السعودية كسفير لمصر في أوائل التسعينيات، حيث سمعت كثيرا من يقول إن الأنظمة العربية التي تعدّ نفسها تقدمية وعروبية، تحرض شعوب الخليج على حكامها وترفع شعار بترول العرب للعرب -وهي تعني العرب من المحيط للخليج. لقد اهتزت القواعد التي تقوم عليها القومية العربية بغزو صدام للكويت، ومطالبته للملك فهد باقتسام الدول الخليجية بينهم (سمعت ذلك بنفسي من الملك فهد في أثناء الأزمة)؛ باعتبار وجودها يشكل خطرا على الأمن القومي العربي، وما نسب لياسر عرفات من أنه قال: ستسطع شمس جديدة على الخليج.

ثم خروج المظاهرات الحاشدة المرحبة بالغزو في بعض العواصم العربية، ومن بينها صنعاء التي هتف فيها المتظاهرون قائلين: "بالكيماوي يا صدام ما تخلي السعودي ينام". يضاف إلى ذلك تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة العربية الذي يرى الخليجيون فيه خطرا مباشرا عليهم.


***

وهكذا نرى أنها كلها أسباب تدور حول الأنظمة والعروش، ولا تنبع من أسباب جيوسياسية ولا يساندها الروابط التاريخية والثقافية والدينية واللغوية. فلا أعتقد أن شعوب الخليج ترضى عن احتلال إسرائيل للقدس، أو عن فرض سيادتها على المسجد الأقصى، أو عن استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية وإذلال شعبها.

وأعلن ترامب أن دولا عربية أخرى اتصلت به وعاتبته أنه لم يدْعها إلى عملية السلام مع إسرائيل مثلما فعل مع الإمارات، وأكد ذلك كوشنر صهر ترامب والمسؤول عن ملف الشرق الأوسط في إدارته، حيث أعلن أن المزيد من الدول العربية ستحذو حذو الإمارات بغضون تسعين يوما.

ونصيحتي للدول الخليجية، أن تتمهل في الهرولة وتحسب حساباتها بدقة وبعمق مع إدخال مشاعر شعوبها ومصالحهم في العملية الحسابية. واتقوا غضب الشعوب "واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون". صدق الله العظيم.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم، حيث توفي بعدها الرسول بحوالي تسعة أيام، وبذلك هي تعدّ آخر وصايا الله -سبحانه وتعالى- للناس من خلال الوحي، وتتضمن تحذيرا قويا يستحق التأمل والتدبر والمراجعة.

 

(عن صحيفة الشروق المصرية)

التعليقات (0)