قضايا وآراء

برهان الإيمان ودحض الإلحاد

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

من الأسئلة التي يثيرها الشباب في عصر الفضاءات المفتوحة، والذي يرون فيه تغولاً للظالمين والمفسدين دون رادع، وإخفاقاً شاملاً في ميادين الحياة، بينما لا يستمعون إلى تفسيرات دينية مقنعة ومتناسقة.. أسئلة تتعلق بأصل الإيمان: هل الله موجود؟ ما الدليل العلمي المقنع على وجوده؟

المؤمن يرى كل ما في هذا الكون هادياً إلى الله تعالى، لكن ذات الآيات التي يطمئن بها قلب المؤمن سيجادل فيها الملحد، ولن يرى فيها ضرورةً منطقيةً تقود إلى إثبات وجود الإله.

إن محاولة حسم قضية الإيمان بذات الطريقة التي تحسم بها مسألة رياضية هي محاولة فاشلة، أي أن علينا ألا نتوقع أن يجتمع علماء العالم يوماً ما ثم يخرجون بتوصية بأنه قد ثبت وجود الله! وفي أي مستوىً علمي سيظل هناك مؤمنون وجاحدون.

الله تعالى ذاته لم يشأ أن تكون قضية الإيمان محسومةً بنفس أدوات علوم الطبيعة، فالقرآن يقول: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيةً فظلت أعناقهم لها خاضعين"، أي أن الله تعالى قادر أن يعلن عن وجوده في الطبيعة بذات الطريقة التي يرى كل الناس فيها البحر والجبل والشمس فلا يختلفون عليها، إذاً لماذا لم يفعل؟

الإجابة هي الاختيار والاختبار!

 

قضية الإيمان هي مقياس دقيق للتفاوت الإنساني، والتفاوت لا يتحقق بالظواهر المادية الملموسة

قضية الإيمان هي مقياس دقيق للتفاوت الإنساني، والتفاوت لا يتحقق بالظواهر المادية الملموسة، فكل الناس يؤمنون بأن هذا جبل وأن هذا الصوت موسيقى، لا فرق في ذلك بين قديس وشرير، أما الإيمان فقد تضمن قدراً من الخفاء ليتفاضل فيه الناس، فيعتمد التصديق أو التكذيب به على الاستعداد الأخلاقي.

يقول القرآن: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين"، "والله لا يهدي القوم الكافرين"، "والله لا يهدي القوم الفاسقين"، "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق".

فإذا كان الله لا يهدي الظالم والكافر والفاسق والمفسد والمستكبر، فمن يهدي إذاً؟

هذه الآيات شهادة للدين وليست ضده؛ لأنها تعزز الاختيار الإنساني. فالإيمان لا يهتدي إليه الإنسان دون شروط نفسية مسبقة، وما لم يخلِ الإنسان قلبه من أمراض الظلم والكفر والاستكبار والإفساد فسيظل مشوشاً عن استقبال نفحات الإيمان.

الفرق بين إدراك الظواهر الطبيعية وإدراك الله؛ أن الأولى مسألة ذكاء بينما الثانية مسألة استعداد روحي وأخلاقي.

لا توجد تبعات أخلاقية لاكتشاف الإنسان قانوناً طبيعياً، لكن توجد تبعات أخلاقية لمعرفة أن هناك إلهاً يأمرك بالاستقامة ويقيد هواك ويراقبك ويكتب عليك أعمالك، ويبعثك بعد الموت لمحاسبتك.

لذلك يميل الإنسان الذي يغلّب هواه إلى إنكار أدلة الإيمان، فهو ينطلق من إرادة خفية بالتكذيب والعناد.

وإن كانت كل الأدلة تقود إلى وجود الله عز وجل، إلا أن الإيمان في جوهره ليس عمليةً ذهنيةً مجردةً، بل هي قضية معايشة، والمعايشة مرحلة متقدمة على الإدراك الذهني. العقل يدرك الحقائق من خارجها، لكن الإيمان يمتزج بهذه الحقائق ويخلطها بكينونة صاحبه فلا تحتمل التكذيب. الإدراك أن تعلم أن هناك بستاناً في الحيّ المجاور، لكن المعايشة أن تدخل هذا البستان وتتفيأ ظلاله وتغتسل من ماء جداوله.

هذا هو حال المؤمن والملحد، فالملحد يجادل المؤمن جدالاً نظرياً إن كان الله موجوداً أم لا، لكن المؤمن العارف بالله حقاً الذي تذوّق قربه ومعيّته؛ يسخر في داخله من مجادلة هذا المكذِّب، لأنه عايش حالة الإيمان وتذوقها وأيقن بها، حتى صار مستعداً أن يموت وينفق كل ما يملك في سبيل ذلك.

لماذا نفترض أن موقف المؤمن هو الصحيح وليس موقف الملحد؟

لأن المؤمن العارف بالله قد دخل مستوىً أعلى من مستوى الملحد، إنه يتذوق طمأنينةً ويقيناً لم يذقهما الملحد، ومن ذاق عرف، والذي يعلم هو حجة على من لا يعلم، فمن لم يعرف ولم يتذوق الإيمان لا يحق له أن ينكر على من تذوقه وعرفه.

"من ثمارهم تعرفونهم" إن الملحد تمزقه رياح عاصفة من الريبة والقلق والإنكار والكراهية، بينما المؤمن، وأعني هنا المؤمن العارف المتذوق حقيقة الإيمان وليس المتدين شكلاً، يعيش حالة طمأنينة ورضى عجيبةً، حتى إنك تجد من المؤمنين من يقضي عمره في السجن، أو يفقد كل أحبابه أو أمواله، أو يصاب بمرض مؤلم، ثم يكون بعد ذلك متبسماً راضياً مقبلاً على الحياة بأمل ويقين، ويشع في الناس سكينةً وسلاماً.

أليست المقارنة بين هذين النمطين من الحياة كافية لنقول إن المؤمن قد وجد ما لم يجده الملحد؟

 

المؤمن وجد نسقاً يتصالح فيه مع نفسه تصالحاً حقيقياً ومع الحياة والوجود، ويواجه ابتلاءات الحياة بقوة وتفاؤل وقد منحه إيمانه سلاماً وطمأنينةً

ربما يجادل بعض الملحدين بأن الطمأنينة التي يشعر بها المؤمن مبنيّة على الأوهام المنسوجة في عقله، لكن الرد على ذلك هو أن هذا المؤمن وجد نسقاً يتصالح فيه مع نفسه تصالحاً حقيقياً ومع الحياة والوجود، ويواجه ابتلاءات الحياة بقوة وتفاؤل وقد منحه إيمانه سلاماً وطمأنينةً، فما هو الوهم في أن يحقق الإنسان سلامه الداخلي؟

إن الثمرة النهائية للوجود الإنساني هي أن يكون قادراً على التناغم مع الحياة والوجود، ولا قيمة لأن يقضي الإنسان حياته ممزقاً بالشك والريبة والكراهية، فكما أن هناك حقيقةً خارجيةً يبحث عنها الإنسان، فإن هناك حقيقةً داخليةً تتمثل في أن يجد الإنسان نفسه. والمؤمن قد وجد نفسه ومنحها السلام، وبقي على الملحد أن يتخلى عن كبره ويجد هذا السلام.

سأل صحفي ريشتارد دوكينز، أحد أئمة الإلحاد في العالم: ماذا لو اكتشفت بعد الموت أن هناك إلهاً، بماذا ستجيبه؟

قال دوكينز إنه سيجيب الإله: لماذا تجشمت كل هذا العناء لإخفاء نفسك؟

إن دوكينز يريد آية في السماء تظل عنقه لها خاضعةً، يريد أن يرى الله جهرةً كما يرى الجبل والبحر!

الإجابة على سؤاله هو أن خفاء الإله من شدة ظهوره، فآثاره تتخلل كل مسارب الحياة، حتى لا نكاد نتخيل شكل الحياة بدون آثاره.

نحن نعرف الأشياء بأضدادها، كيف نعرف أن هذا اللون أزرق؟ لأنه ليس أخضر ولا أحمر ولا أبيض!

تعالوا بنا نتخيل أنه لا يوجد في الوجود سوى اللون الأزرق بدرجة واحدة؟ كيف سنميزه؟ في تلك الحال لن نعرف أصلاً كلمة "اللون" ولن تكون لها قيمة، لأنه لا يوجد ضد اللون الوحيد الذي يسبغ كل شيء من حولنا، فسيكون مستحيلاً أن نميز ذلك اللون ونعرف حدوده.

ماذا لو كان النهار سرمداً ولا يوجد ليل، وشدة الضوء ثابتة لا تتضاءل، ولا يوجد ظلال ولا غيوم؟! هل كنا سنفهم معنى كلمة "النور" أو نقدر على تخيلها؟ سيكون النور محيطاً بنا من كل جانب لكننا عاجزون عن رؤيته وفهمه، لأننا لم نر ضده، لم نر الظلام أبداً فكيف سنحدد النور ونميزه؟!

لو جاء زائر من خارج الأرض وقال لنا إن هناك نوراً ينتشر في كل مكان، فسيقول أحدنا له: ما هذا النور وأين هو؟ إنني لا أراه! لماذا يتجشم النور هذا العناء لإخفاء نفسه؟

لذلك سمى الله تعالى نفسه "نور السماوات والأرض". إنه يتجلى في كل ذرة وفي كل حركة وسكنة في هذا الوجود.

قيل إن شدة القرب حجاب، والله تعالى يتجلى في كل ظواهر الحياة من حولنا، فلا توجد مناطق خارج ملك الله وآثاره ليميز الناس بين معنى وجود الله ومعنى غيابه، لذلك طال إلف الناس بآيات الله فانطفأ تفاعلهم معها: "طال عليهم الأمد فقست قلوبهم".

لكن المؤمن في لحظات التجلي الروحي يشعر بقرب الله ويبتسم من شدة ظهوره، وهو ما شعرت به عجوز نيسابور حين رأت تزاحم الناس على الرَّازيّ، فقالتْ: من هذا؟ فقيل لها: هذا الرَّازي الذي يعرفُ ألف دليل على وجود الله فقالتْ: لو لم يكن في قلبه ألفُ شكٍّ ما احتاج إلى ألفِ دليل!

نعم إن هناك حجباً كثيفة تحول بين الناس وبين معرفة الله، لكن هذه الحجب من داخل أنفسهم وليست حجباً في الكون الخارجي: "وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه".

 

المؤمن في لحظات التجلي الروحي يشعر بقرب الله ويبتسم من شدة ظهوره، وهو ما شعرت به عجوز نيسابور حين رأت تزاحم الناس على الرَّازيّ، فقالتْ: من هذا؟ فقيل لها: هذا الرَّازي الذي يعرفُ ألف دليل على وجود الله فقالتْ: لو لم يكن في قلبه ألفُ شكٍّ ما احتاج إلى ألفِ دليل!

إن الظلم والإفساد والاستكبار وجحود النعمة، وأكل أموال الناس بالباطل، واتباع الهوى وإيثار اللذة.. هي حُجُب داخل نفوسنا تشوش استشعار الله الحق: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق".

المؤمن قادر على استشعار الله بقدر تهيؤه النفسي لذلك، ومثل ذلك كمثل موجات المذياع التي تنتثر في الهواء لكننا لا نستطيع التقاطها إلا بضبط المؤشر، فإذا ضبط الإنسان جهاز استقباله الروحي فإنه يلتقط نفحات الله الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد.

وإن من غنى الله وعزته وكبريائه أنه يحجب نفسه عن الذين تلوثت قلوبهم بالكبر والإفساد، ولو كان الله يتسول إيمان الناس لهداهم إليه، لكنه أغلى الحق وكرّمه فلا يهدي إليه إلا المتقين.. "هدىً للمتقين".

يضرب أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، الذي تحول إلى الإسلام بعد تدبر القرآن، مثلاً جميلاً للعلاقة بين الإنسان والخالق، وأن الله لا يتجلى للإنسان إلا بقدر القابلية النفسية.

يقول جيفري لانغ وهو يعظ ابنته: "عندي في البيت سمكة وكلب وابنة".. مهما عطفت على السمكة فإنها لن تلتقط من حبي إلا نزراً يسيراً، لأنها كائن بدائي غير مهيأ لمشاركة مشاعر الإنسان، أما الكلب فهو أكثر رقياً، فسيلتقط من مشاعر حب صاحبه الإنسان قدراً أكبر، أما الحب الذي تلتقطه الابنة من أبيها فهو أكبر كثيراً من حب السمكة والكلب، لأنها كائن إنساني ناضج ومهيأ لاستقبال المشاعر وتمثلها.

إن العلة مع السمكة لم تكن في غياب عطف صاحبها، بل في محدودية إدراكها، وحين توسع إدراك الابنة فإنها صارت قادرةً على استقبال مشاعر الحب العظيمة من أبيها.

هذا هو الحال بين الإنسان وخالقه، ولله المثل الأعلى، فإن الناس عاجزون عن معرفة الله بسبب محدودية إدراكهم، وكلما نمّى الإنسان في نفسه صفات الكرم والإحسان والرحمة والحب؛ كلما التقط مزيداً من نفحات الكرم والإحسان والرحمة والحب الإلهي فشعر بقربه. أما الإنسان قاسي القلب فهو لن يكون قادراً على معرفة الله؛ لأن حالته القلبية تصد نفحات الله "إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ".

يقول القرآن: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"، فحين يكون الإنسان محسناً في حياته فسيلتقط نفحات الإحسان الكونية.

هذا هو الطريق إلى الله.. اقتربْ من العدل ومن الرحمة ومن الإحسان وستقترب من الله، فالله ليس شخصاً كما يصوره المشركون ويريدون رؤية تنزله في الغمام، بل إن الطريق إليه تكون بتمثل صفاته وأخلاقه.

إنك لا تحتاج إلى فلسفات معقدة من أجل الوصول إلى الله، فقط أخلِ قلبك من حظوظ نفسك وتجرد للحق الثقيل، وأسكن العواصف المضطربة المائجة، وعندها سترى هيبة الله وجلاله تحل فيك ونوره يشرق، فيملأ نفسك ويفيض به قلبك، وستعلم أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأن خفاءه لم يكن إلا من شدة سطوع ظهوره.

"وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال"..

twitter.com/aburtema

التعليقات (0)