مقالات مختارة

دين العامة ودين النخبة

توفيق السيف
1300x600
1300x600

أحتمل أنَّ عامة الناس يتقبلون التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، أي بين الوحي الذي وعد الله بحفظه، وبين التفاسير والاجتهادات التي أنتجها البشر، في سياق دراستهم للوحي واستنباط مغازيه.


تحدثت في مقال الأسبوع الماضي، عن التمييز الشائع بين الدين والمسلمين، في الأمور التي تستدعي النقد أو العيب، الذي يتجلَّى في القول بأنَّ «التقصير من المسلمين ولا يتحمله الإسلام».

 

والمفهوم أنَّ هذا التمييز محصور في الأفعال التي يراها بعض الناس معيبة. المؤكد أنَّ بعضكم قد صادف مواقف ينقلها أصحابها، بقصد الإشارة لهذا التمييز. ومن ذلك مثلاً قول أحدهم إنَّه أتى دائرة حكومية، فقدَّم رشوة لموظفة هناك كي تعجل بإنجاز معاملته، هذه الرشوة تتضمَّن مبلغاً من المال ولوح شوكولاتة، فأخذت الموظفة النقود وأعادت الشوكولاتة، لأنَّها كانت صائمة في هذا اليوم. والمراد أنَّها تصوم وترتشي في الوقت نفسه.

 

ونقل آخر أنَّ أحد موظفيه لا يترك الصوم المستحب في الأسبوع الأول من شهر ذي الحجة. لكنَّه يمضي معظم وقت الدوام نائماً.

 

ونقل ثالث صورة لمصلين افترشوا شارعاً رئيسياً في عاصمة أوروبية، كي يصلوا الجمعة، فعطلوا حركة الناس والسيارات.

 

وأعلم أنَّ معظم القراء رأوا أو سمعوا قصصاً كهذه، وبعضها صحيح والآخر مختلق. لكننا نعلم بصورة إجمالية أنَّه ثمة بين المسلمين من يصلّي ويرتشي، وثمة من يعطل الناس كي لا تفوته صلاة الجماعة، إلى غير ذلك من أفعال تشير للتفارق بين روح الدين وما يمارسه بعض الناس من شعائر.

 

ولو حدث أنْ ذكرت قصة كهذه لأحدهم، فسوف يرد عليك فوراً بأنَّ العيب في المسلمين وليس في الإسلام!

 

- حسناً.. هل قولهم هذا صحيح أم خطأ؟

 

إذا كان صحيحاً، فهل ينطبق أيضاً على ما نراه من تأخر وفوضى واحتراب وفقر في بلاد المسلمين، شرقها وغربها؟ أي أنَّ المسؤولية فيها أيضاً تقع على عاتق المسلمين، والإسلام بريء.

 

وإذا كان خطأ، فهل يعني أن العيب في الإسلام والمسلمين معاً، أي أن الدين يتحمل وزر أتباعه، إن أساؤوا العمل؟

 

غرضي من عرض السؤالين، هو حث القارئ على التفكير معي في مآلات الأفكار. ولكي نفكّر بجد، نحتاج للتوقف لحظات، كي نراجع الأفكار والأقوال التي تجري بين الناس مجرى المسلمات، من بينها الفكرة التي نحن بصددها.

حقيقة الأمر أنَّ الدين ربما يتحمل جانباً من المسؤولية عن أحوال أتباعه وممارساتهم، الحسنة والسيئة. ولهذا نشيد بالدين الحنيف، إذا فعل أتباعه ما يستحق التبجيل والإشادة. ونعلم أن مبدأ العدالة يقرر أنَّ من له الغنم (أي المديح والتبجيل) فعليه الغرم أيضاً.


لكن مهلاً.. أي دين نعني، هل هو الدين الذي نزل من السماء، أم الدين الذي فهمه الناس ومارسوه؟
دعنا نذهب مع الرأي الشائع الذي ينزه الوحي السماوي، ويحصر النقاش في الدين الأرضي، أي الدين الذي تلقَّاه البشر وفهموه وطبقوه. فالواضح أنَّ لدينا - في هذا المستوى - صنفين: دين النخبة من فقهاء ومفسرين وعلماء. ويتلوه دين عامة الناس. فهل نقول إنَّ دين النخبة والعامة منزه أيضاً عن العيب، وأنَّ الخطأ يقع على الفقهاء والعامة؟ أم نقول إنَّ الفقهاء منزهون أيضاً، وأنَّ العيب يقع على العامة وحدهم؟

 

أفترض أنَّ النهايات المنطقية لكل من السؤالين قد اتضحت الآن. ولنا عودة للنقاش قريباً إن شاء الله.

 

(الشرق الأوسط)
0
التعليقات (0)