أفكَار

اليسار الفلسطيني: الجذور الفكرية والواقع والتحديات (1 من 2)

الإنقسام والاحتلال همّشا اليسار الفلسطيني (عربي21)
الإنقسام والاحتلال همّشا اليسار الفلسطيني (عربي21)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البولشيفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..


اليوم يتناول الكاتب والباحث في الشأن الفلسطيني الدكتور وسام الفقعاوي في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21": مستقبل اليسار الفلسطيني، في ضوء مسألتين إثنتين: المنطلقات الفكرية والأيديولوجية، ثم تحديات الاحتلال ومشاغل الفلسطينيين اليومية. 

اليسار على الهامش


طرح عنوان هذه المساهمة بسؤال المستقبل ينطلق بالأساس من واقع اليسار الفلسطيني المعاش راهنًا والذي ليس معزولًا بالطبع عن سياق تجربته التي أسست لواقعه القائم، وهو واقع لم يعد يخفى على أحد، لجهة طبيعة وواقع الأزمة التي عصفت بقوة بقوى وأحزاب اليسار، وجعلت دوره هامشيًا، في التركيبة السياسية الفلسطينية، خاصة في ظل استمرار حالة الصراع والانقسام بين طرفي اليمين في الساحة الفلسطينية (فتح وحماس)، مترافقًا مع تغول المشروع الصهيوني وأهدافه التصفوية التي كثفتها صفقة ترامب J نتنياهو (الأمريكية =الصهيونية)، في مقابل تراجع عام في قدرة المواجهة الفلسطينية لها. هذا التراجع الذي أُسس له من خلال ضرب الأفكار التوحيدية للشعب الفلسطيني، بالخروج عن مشروع التحرير، وتآكل عوامل الوحدة والصمود الداخلي إلى أبعد مدى، ومصادرة وتجاوز الحقوق الاجتماعية والديمقراطية.. 

بمعنى أنه وسط هذا المشهد الفلسطيني القاتم، ثمة مساحة واسعة ودور كبير موضوعي ينتظر من يقوم بتعبئته والاضطلاع به، لكن هذا الدور رهن بعامل ذاتي مؤهل وقادر ومقرر اجتماعيًا وتاريخيًا، ولا يمكن أن يكون هذا الدور من دون امتلاك نقطة الوضوح التي تبدأ مع نقد الذات الذي يبدأ والحال هذا من سؤال: "من نحن؟ وأين نحن؟".
 
في الإجابة عن سؤال المستقبل يجب أن تُطرح الأسئلة التي قد تبدو قاسية أو صعبة على البعض، وقد تكون هي كذلك، خاصة وأن الأسئلة من هذا النوع لا تحتمل الإجابات المريحة، لكن أيضًا قد تكون إجابتها سهلة إن توفرت نقطة البدء؛ ألا وهي نقطة الوضوح مع الذات التي تحتاج لأعلى درجات النزاهة الفكرية والأخلاقية، أي تجاوز محاولات "تطهير" الذات إلى مواجهتها بالحقيقة، وأي حقيقة أوضح من حقيقة ما وصله واقع اليسار اليوم والذي يشكل ملامح مستقبله مبكرًا إن لم يعطَ للسؤال؛ حق الإجابة.
 
أقسى ما يمكن أن يقع فيه اليسار الفلسطيني، بعضه أو كله، وأقصد هنا أحزابه الرئيسة في الحالة الفلسطينية (الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب)، ـ كما يعرفون هم أنفسهم بأنهم يسار، وهذا ما قد لا ينطبق على بعضهم وإن لغا لغوًا يساريًا، لكن جوهره ومضمونه وممارسته ليس كذلك ـ هو أن يستسهل الإجابة، أو يقدم إجابة عمومية؛ بأن يعزو أزمة اليسار وأحزابه في فلسطين إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وارتباط تعبير "اليسار" بأنظمة شمولية، والدعاية الأمريكية في هذا الاتجاه، وعدم قدرة اليسار على الربط ما بين الصراع الطبقي وصراعات أخرى مبنية على الهوية، وصعود حركات الإسلام السياسي، واتفاق أوسلو، والاستمرار على خط هذا الاتجاه في البحث عن الإجابة المريحة والعمومية، لقضية تحتاج لإجابات صحيحة ودقيقة وواضحة ومحددة، لا يعني سوى أن المسار المنطقي هو "نهاية محزنة، بل مفجعة لليسار"، وهذا ما لا نتمناه بالمطلق!

هل من أزمة؟ وما طبيعتها؟

المسلّمة المنهجية التي نذهب إليها أن اليسار يعيش أزمة بالفعل، وهذه الأزمة ذات طابع شامل وتاريخي، وهي نتاج أو حصيلة أسبابها التراكمية، وتعود في الأصل إلى عدم قدرة اليسار في أن يؤدي الوظيفة المطلوبة منه وطنيًا واجتماعيًا، وعليه اختلف الباحثون والمهتمون باليسار ودوره ووظيفته الوطنية والاجتماعية، فيما إذا كانت الأزمة تعود إلى طبيعة نشأة اليسار أم هي أزمة بنيوية؟ أم ترجع إلى الأيديولوجيا التي يتكئ عليها اليسار؟ أم إلى الممارسة؟ أم إلى الإثنتين معًا؟ 

تعددت الكتابات والآراء بناءً على الخلفيّة التي استند إليها الدارسون للأزمة وطبيعة تشخيصهم لها في ضوء واقع اليسار، وكان "هاجس" الجميع هو الوقوف على أسباب الأزمة؛ لتوفير مقومات النهوض واستعادة الدور، وإن تغلّفت بعض الكتابات "بالندب" على واقع الحال الذي وصله اليسار، من دون أن تضع حلًا، يتجاوز "اللطم" على الخدود، أو الوقوف على الأطلال، دون إغفال أن هناك من تناول نقاش المسألة من مواقع الهروب من "السفينة الغارقة"، وصولًا إلى الطلب بالدعاء للميّت، على طريقة أنه يُسأل الآن، دون أن يذهب السؤال: لماذا وعلى ماذا يُسأل؟!
 
في سياق البحث عن الإجابة، يذهب البعض إلى أن تأسيس ونشأة أحزاب اليسار الفلسطيني ارتبطت أساسًا بالمسألة الوطنية والصراع مع الاستعمار، وعليه لم يكن الأساس في نشأتها المسألة الاقتصادية والاجتماعية، حيث إن أزمتها جاءت متجذّرة في تكوينها ولم يكن مصدرها التغيّرات السياسية المرحلية فحسب، وهي ليست نتيجة لا لتسليم اليسار الفلسطيني بواقع أوسلو، ولا لانهيار الاتحاد السوفييتي، ولا لصعود الإسلام السياسي، ولا لغيرها من الأسباب التي تصطّف بروتينية طوابير الصباح كلما رغبنا بتحليل تراجع أو أفول اليسار. 

لم يتكون اليسار الفلسطيني من باطن الصراعات الداخلية للمجتمع الفلسطيني، إنما في مواجهة استهداف استعماري لوجود هذا المجتمع بكليته؛ نشوء يغيب منه التحليل والصراع الاجتماعيين كشرط أساسي للفكر وللتنظيم اليساري، وهذا نشوء غير تقليدي ومأزوم بحدّ ذاته، تطلّب ولا زال يتطلّب اجتهادًا استثنائيًا لتشكيل قراءة اجتماعية للصراع وطرح تصوّر يساري للمسألة الوطنية، يتقدّم على ضيق الطروحات القائمة (1).

 

يذهب البعض إلى أن تأسيس ونشأة أحزاب اليسار الفلسطيني ارتبطت أساسًا بالمسألة الوطنية والصراع مع الاستعمار، وعليه لم يكن الأساس في نشأتها المسألة الاقتصادية والاجتماعية،

 


 استنادًا لما سبق، فإن أزمة اليسار ارتبطت بالنشأة واستمرت معه، خاصة حينما عجز أو فشل اليسار الفلسطيني وأحزابه، في بلورة وعي مطابق للواقع؛ من خلال استيعاب مجمل مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... الخ، وهذا بدوره انعكس في شعاراته ومبادئه التي لم تُبنَ على حقائق الواقع المعاش، خاصة وأن الشعارات والمبادئ تشتق من الواقع الذي تعمل على إصلاحه أو تغييره، وبالتالي هي نقطة البدء في الممارسة. 

وقد ننتقل من ذلك إلى تخلف المسألة التنظيمية الداخلية، وطغيان المركزية على الديمقراطية، وفقدان تأسيس المسألة التنظيمية على أسس معرفية ـ علمية، مع تغلغل المفاهيم الستالينية، وإفقاد مسألة التجديد مضمونها المنهجي الديمقراطي، وصولًا إلى اختزال اليسار بقيادته، لا بقدرته واتساع قاعدته وحيويته، والأنكى من ذلك كله، سطحية المراجعات النقدية التي جرت لنقاش اليسار واقعًا ودورًا في جانب، وفي الجانب الآخر ما كان منها منهجيًا ـ علميًا ونقديًا، لم يُستفد منها، بل جرى إهمالها، ولم توضع موضع التنفيذ، ليستمر منحنى التراجع، وبالتالي تعمق الأزمة التي بات القول إنها بنيوية، وقد يكون هذا التوصيف أقرب إلى الدقة.

كما أن غياب الرؤية الواضحة تجاه القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أدى إلى بهتان الممارسة النضالية على صعيد المواجهة مع الاحتلال، وكذلك على صعيد الممارسة الديمقراطية والنضال على جبهة القضايا المطلبية للجماهير الشعبية، مما أفقد التناغم الواجب بين البعدين الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي جدليتيهما ومضمونهما المطلوبين، وكذلك الدفع بحالة من التمييع الفكري والسياسي والتنظيمي نحو المزيد من التفكك والتشرذم الداخلي، هذا إلى جانب غياب التثقيف والوعي الثوري وتدني المعنويات والدافعية الذاتية في البنية العامة لأحزاب اليسار، ومن ثم ولادة وانتشار مظاهر "الشللية" والتكتلات الانتهازية ذات الطابع المصلحي والشخصي (2).
 
إن تناول مسألة الأزمة، وبهذا المستوى من الوضوح ـ كما أعتقد ـ يرتبط أساسًا بالسؤال المنهجي الذي بدأنا به: من نحن؟ كي نعرف بالضبط: أين نحن؟ وهذا ليس لأننا نتناول اليسار الفلسطيني من زاوية مجردة، بل ربطًا بالمهمة الوطنية والاجتماعية التي تأسس وجوده بناءً عليها، خاصة في ضوء ما وصلته قضيتنا الوطنية الفلسطينية من تدهور غير مسبوق، كما سوء وكارثية الأوضاع التي يعيشها الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، والتي تُكثر أحزاب اليسار أو بعضها، من وصفها بأنها أوضاع "مفصلّية" و"نوعية" و"استثنائية"، وهذه الأوصاف بالطبع لا تُلقى جزافًا، بل تعبر عن واقع حال؛ تفترض فيمن يطلقها أن يكون واعيًا لمهمته ووظيفته.

 

المراجع:

 

1 ـ مجد كيال: اليسار الفلسطيني: الأزمة جوهرية، الأمل وليد المرحلة، موقع السفير العربي، 15 شباط (فبراير) 2019:
https://assafirarabi.com/ar/24385/2019/02/15/


2 ـ تامر حنا الزعمط: اليسار الفلسطيني والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، رسالة ماجستير منشورة، فلسطين، جامعة بير زيت، 2015. 

التعليقات (0)