كتاب عربي 21

لماذا تعثر الاندماج التاريخي للإسلاميين في تونس؟

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
لا شك في أن الديمقراطية أفضل من الاستبداد، لكن الذين يظنون بأن مجرد الانتقال إلى نظام ديمقراطي سيترتب عنه قيام جنة عرضها السماوات والأرض؛ هم واهمون. تحقيق التنمية وضمان الاستقرار في ظل الديمقراطية أصعب وأعقد بكثير من توفرهما في الحد الأدنى تحت سقف دكتاتورية متوسطة الشدة والعنف.

تعتبر تونس مثالا على ذلك. فالبلد ينعم بالحريات، وتلك نعمة لا يفهم قيمتها إلا من طحنه نظام مستبد. لكن بعد مرور حوالي عشر سنوات على التجربة أصبح من الضروري تعديل عقارب الساعة، وإخضاع التجربة للنقد والتقييم. لا يعني ذلك العودة إلى الصفر، والكفر بالديمقراطية وتمجيد الماضي البغيض، لكن الإقرار بأن النخبة التونسية عموما لم تنجح في استثمار مرحلة البناء الديمقراطي، ووجدت نفسها تخوض مع الخائضين دون وعي وبلا مشروع واضح متدرج، له أهداف ووسائل ومراحل. من مظاهر ذلك عودة روح الإقصاء إلى الساحة التونسية بقوة وشدة.

رغم أن حركة النهضة أدركت نسبيا الخصوصية التونسية في وقت متأخر، واندمجت فعليا في الواقع المحلي بجميع تفاصيله، وأعلنت تبنيها النظام الديمقراطي، إلا أنها لا تزال تواجه صعوبات شتى تقف في وجه تأقلمها مع البيئة المحلية. هناك صراع دائم ومتواصل بينها وبين بقية القوى السياسية والاجتماعية والثقافية. فلم يتم الاعتراف بها كجزء من الجسم التونسي، غم حصولها على التأشيرة القانونية، ورغم خوضها مختلف الانتخابات، ومشاركتها في جميع الحكومات التي توالت بعد الثورة. هناك تشكيك متواصل في أصالتها، والبعض لا يتردد حتى في الطعن في وطنية مناضليها وفي انتمائهم إلى تونس.

لا شك في أن هذا الخطاب عشوائي وإقصائي، تختلط فيه الأيديولوجيا مع النقمة السياسية، لكن الإشكال يكمن في قدرة هذا الخطاب على البقاء والتأثير. فالساحة التونسية لم تتمكن من تجاوز مخاطر ومطبات الاستقطاب الثنائي: إسلاميون/ علمانيون، رغم الدرجة العالية من الاندماج وخلط الأوراق. هناك "عقدة جينية" لم تتخلص منها الثقافة السياسية السائدة، وبقيت مؤثرة داخل أوساط النخبة وخارجها.

حاول الدكتور احميدة النيفر تعديل هذه الصورة الثابتة عن الإسلاميين التي استقرت طويلا ولا تزال؛ في عقول ومخيال الجزء الأكبر من النخبة، فذكر في حديث أجرته معه مجلة جون أفريك أن الحركة الإسلامية "حزب محافظ لكن على الطريقة التونسية، وفي ذلك تكمن كل المشكلة". المشكلة عند النيفر أن الإسلاميين التونسيين ولدوا إخوانا، وتأثروا إلى حد واسع بالتيار المحافظ المحلي، لكنهم في الآن نفسه تفاعلوا مع الحداثة بقدر ما. معضلتهم تكمن من وجهة نظره في عجزهم عن تحقيق توليفة بين هذه الروافد والتوجهات، مما أوقعهم في ما يسميه بـ"الالتباس التاريخي" الذي جعلهم غير قادرين على تحقيق اختراقات عميقة وجدية، حتى عندما انخرطوا في الدولة وأصبحوا جزءا منها، ظنا منهم أنه عبر الدولة يمكن أن يغيروا ويطبقوا ما يعتقدونه.

لقد تحول الإسلاميون في تونس إلى هاجس لدى جميع الأطراف الأخرى.. يخافون من الإسلاميين، ويضطرون للتعامل معهم من موقع الاضطرار، وليس من موقع الاختيار. بعد أن يتم التعاون معهم يعود الخوف منهم بقوة، ويكثر الجدل حول توصيف تلك العلاقة: هل هي تحالف؟ أم تنسيق؟ أم تقاطع؟ أم حالة من حالات الصراع الصامت؟

أكثر من ذلك، أصبحت مشاركة حركة النهضة في أي حكومة مهما كانت أوصافها وبرامجها وقيادتها؛ هدفا في حد ذاته. تحرص الحركة على أن تبقى في الدولة أي في الحكومة مهما كان الثمن، لأن قادتها يخشون (رغم كونهم يعيشون في ظل انتقال ديمقراطي) من الانقلاب عليهم، وحرمانهم من المكاسب التي حصلوا عليها، والعمل على إعادتهم إلى السجون والمنافي.

فعقدة الخوف لا تزال تهيمن على الإسلاميين إلى درجة جعلت البقاء في الحكم وسيلة من أجل المحافظة على كيان الحركة الإسلامية، حتى لو أدت هذه الاستراتيجية إلى تحقيق نتائج متناقضة مع الأهداف التي من أجلها بُنيت هذه الحركة وقامت عليها.

لم تتحقق المصالحة الحقيقية التاريخية التي راهن عليها قادة حركة النهضة وانخرطت فيها جزئيا أطراف وطنية محلية وأجنبية. يعود ذلك حسب البعض إلى أسباب وعوامل سياسية، إلا أن الجذور الحقيقية لهذا التنافر التاريخي تعود بالأساس إلى تعطل العملية الثقافية القادرة وحدها على تحقيق الاندماج الفعلي للإسلاميين في البيئة التونسية.
التعليقات (1)
ناصحوا امتهم
الأحد، 19-07-2020 10:25 م
انت رجل مسجون داخل صندوق التشوّهات التي احدثها الاحتلال الأوربي الحديث(الفرنسي في حالتك) لأرض وانسان الأمة العربية المسلمة. كل تفكيرك ومقالاتك هي سجينة البنى الفكرية واللسانية والذوقية والسياسية التي فرضها المحتل الغربي في أقطار وطننا الكبير ثم عمقها اعوانه من النخب التي سلمها السلطة حين أدرك أن احتلاله المباشر أصبح اكثر كلفة واقل نفعا من الإدارة عن بعد. يا رجل؛ حاول ولو لمرة أن تفكر من خارج القالب الغربي وستدرك ان الحضارة الغربية المهيمنة اليوم بالقوة على بقية الانسانية ليست سوى أحد الأنماط الحضارية التي عرفتها البشرية ولن تكون النمط الاخير. وقتها ستدرك من هو في قطركم تؤنس في حاجة للاندماج التاريخي؟ أهو النخب التي صنعها المحتل ثم سلمها كل السلط السياسية والتعليمية والثقافية والاقتصادية منذ 60 سنة لتفرض نمط المحتل بأدوات جهاز الحكم؛ أم أهل الهوية الحضارية العربية المسلمة التي هي مشروع كامن لنمط حضاري كوني أكثر عدلا و رحمة من النمط الحضاري الغربي القاهر لبقية الإنسانية.