قضايا وآراء

المهزومون نفسيا والقابلية للاستعمار

يحيى سعد
1300x600
1300x600
في لحظات الإحساس بالهزيمة، يتفاوت الأفراد في مدى التحمل والصمود أمام تلك الموجات العاتية من محاولات البطش والقهر والإذلال.

فمن الناس من يبقى شامخا شموخ الجبال، ثابتا على قيمه ومبادئه مهما أثخنته الجراح وطالته يد الظلم والبغي، لا ينهزم من داخله أبدا مهما عصفت به الريح، يظل مؤمنا بعدالة قضيته مدافعا عن حقوقه، باحثا عن نقطة ضوء في آخر النفق المظلم، متطلعا لبزوغ فجر جديد يأتي في أعقاب ليل بهيم، عازما على استعادة حقه المسلوب، مستأنفا تجميع الأسباب المُفرّقة وترقيع الثياب المُمَزقة، طارقا كل سبل الإعداد لجولة أخرى من الصراع مع قوى الشر التي عطلت مسيرته، باحثا عن النصر المفقود أو الموت المنشود.

ومن الناس من تتغلغل الهزيمة إلى داخله، فتنشب أظافرها في حنايا نفسه، فيخر كالصريع بائعا قضيته، متنكرا لمبادئه، مفتونا بقوة خصمه، موليا دبره لساحة جهاده وميادين معاركه. وقد لا يكتفي بذلك، بل يهرول في اتهام نفسه وتبرئة ساحة خصمه، فيُسوِّق له بضاعته، ويتزلف رضاه ومحبته.

إن الهزيمة الحقيقية هي هزيمة النفس لا البدن، هزيمة المعنويات لا الماديات، هزيمة المبادئ والأفكار لا المعارك والأمصار.

تلك حقيقة يؤكدها القرآن الكريم، في قوله تعالى مخاطبا المؤمنين بعد ما أصابهم من القتل والجراح في غزوة أحد: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".

نعم؛ بعد ما أصاب المسلمين في تلك الغزوة وقتل منهم سبعون مقاتلا، أي ما يقارب عشرة في المئة من إجمالي عدد أفراد الجيش حينئذ، يخاطبهم الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات قائلا: "لا تهنوا"، "لا تحزنوا"، "أنتم الأعلون".

ولقد تجسدت القوة النفسية العظيمة، والإرادة القوية التي لا يتطرق إليها ضعف، والوفاء الثابت الذي لا يعدو عليه تلون ولا غدر، في ما فعله الصحابي الجليل أنس بن النضر - رضي الله عنه – يوم أُحد؛ عندما صاح في المسلمين وهم مثخنون بالجراح، وقد خارت قواهم النفسية بعد أن شاع فيهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قد قتل قائلا لهم: ما أقعدكم بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه"!

بل ولقد سجل التاريخ الحديث لنا أمثلة حية على تلك العزائم التي لا تلين ولا تقهر، فها هو المجاهد عمر المختار - رحمه الله – يخاطب المحتل الإيطالي في عِزةٍ وشموخ قائلا: "نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت".

لكن التاريخ الحديث أيضا سجل لنا كيف انهارت عزائم كثير من المنتسبين لهذه الأمة عقب انفراط عقدها وذهاب ريحها وتفكك دولها. فبعدما سقطت الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي، شرع هؤلاء يروجون لتقاليد الثقافة الغربية في مختلف نواحي الحياة، حتى لو اصطدمت في بعض الأحيان مع القيم والتعاليم الإسلامية. ولم يكتفوا بذلك، بل هاجموا مجرد التمسك بتلك التعاليم والقيم، واعتبروا ذلك نوعا من الرجعية والتخلف.

فقد رأينا كيف تبنى المنهزمون نفسيا ثقافة المستعمر، فمنهم من أخذ يؤلف الكتب أو يكتب المقالات التي تروج للفكرة العلمانية، التي نبتت في بيئة غير بيئتنا لتعبر عن مشكلات في واقع غير واقعنا، تلك الفكرة التي تدعو لفصل الدين عن الدولة. ومثال ذلك ما كتبه علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، فخالف به إجماع علماء المسلمين القدامى والمحدثين، وكاد كتابه أن يفتن غيره من المهزومين، لولا أن هيئة كبار علماء الأزهر في ذلك الوقت أدانت ذلك الكتاب ورفضته. وتصدى له أيضا بعض المفكرين، كمحمد ضياء الدين الريس في كتابه "النظريات السياسية الإسلامية"، الذي فند فيه أقوال علي عبد الرازق ودحض شبهه.

حينما كانت الشيوعية والاشتراكية رائجة في بلادها في وقت من الأوقات، فتنت بها طائفة من السياسيين والمثقفين في بلدنا، فتبنوا تلك الأفكار في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية. ومن العجيب أن ترى أحزابا ما زالت تسمى بالأحزاب الشيوعية في معظم البلدان العربية قائمة حتى وقتنا الحالي، رغم تلاشي تلك الأفكار في موطنها الأصلي.

وحينما أطلت الرأسمالية برأسها، هرول إلى تبنيها والدفاع عنها الكثيرون ممن كانوا بالأمس يدافعون عن الاشتراكية.

وليت هؤلاء كانوا يبحثون عن المشترك الحضاري من تلك النظريات والأفكار المتراكمة عبر العصور، فيستفيدون بما يتناسب مع هوية وقيم مجتمعاتنا الإسلامية، لكنهم كانوا يسعون لاستيراد ثقافة المنتصر لمجرد إحساسهم بالدونية تجاهه.

وفي السنوات الأخيرة حينما ثارت الشعوب العربية في ما عرف بـ"الربيع العربي" وهبت تبحث عن ذاتها الحضارية، وتنفض عن نفسها غبار القهر والإذلال، وتتطلع إلى الحرية والعيش الكريم، تصدى لها المهزومون نفسيا أيضا من وكلاء الاستعمار في بلادنا، مستخدمين في ذلك بقية ممن لم تتخلص نفوسهم من ثقافة التبعية والقابلية للاستعمار.

لقد صدق المفكر الجزائري مالك بن نبي - رحمه الله - عندما عبر عن حالة القابيلية للاستعمار في نفوس أبناء البلاد المستعمَرة، فكان يرى أن المحتل الذي يحتل أرضا ويسيطر على ترابها، يتحول مع مرور الزمن إلى غازٍ محتل لفرد غير قابل للاستعمار، وحين يصل إلى هذه الحالة يعمل المستعمر على إيجاد نموذج تابع له من الحياة والفكر والحركة، حتى إذا ما تمت السيطرة المعنوية والمادية على فرد في موطن ما، يصبح هذا الفرد قابلا بالحدود التي يرسمها له الاستعمار فيفكر داخلها، ولا يخرج عليها، ويرسم شخصيته طبقا لحدودها، بل ويكافح حتى لا تزول تلك الحدود التي أقنعه بها المستعمر، وحينها نكون هنا أمام فرد يعاني من "القابلية للاستعمار".

إن هذه الحالة من القابلية للاستعمار والتبعية له فكريا وثقافيا واقتصاديا، إنما هي أثر من آثار فقدان الثقة بالنفس، وغياب الذات الحضارية، التي غالبا ما ترتبط بمراحل الهزيمة والانحسار الحضاري، سواء كانت تلك الهزيمة بفعل عدو خارجي، أو بفعل مستبد داخلي يعاني من حالة الهزيمة النفسية وفقدان الذات الحضارية، وغالبا ما يكون هؤلاء المستبدون عملاء مخلصين للمستعمرين.

إن الطريق لاستعادة ذاتنا الحضارية وإرادتنا الحقيقية لا يمر عبر تلك النفوس المهزومة والعقول المأزومة.
التعليقات (0)