قضايا وآراء

"فن" التلاعُب بالجماهير!

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
أسلفنا في مقالنا السابق الحديث عن خطل التعويل على الجماهير، وكيف أنها تُضِلُّ من يُعوِّلُ عليها، لأسباب شتى؛ فتحرف حركته. لكن لعلَّ أهم هذه الأسباب هو سهولة التلاعُب بها، مع حُرمة ذلك على المؤمن، ومن ثم "عجزه" المادي الأصيل لا عن صد الشحن الغوغائي ضده بنفس الطريقة فحسب، بل "عجزه" الأكبر عن التلاعُب بالجماهير لمصلحته، ولو تسنَّت له الفرصة؛ بسبب الميثاق الأخلاقي للحركة الإسلاميَّة(1). 

إنه "عجز" يصدُر عن موقف أخلاقي تقتضيه طبيعة الرسالة المحمَّديَّة الخاتمة، على صاحبها أتم الصلوات والتسليمات. فإن المركزي والمحوري والجوهري في الرسالة الخاتمة ليس هو الانتصار في موقف سياسي، ولا حتى الحفاظ على النظام السياسي (ولو كانت الخلافة الراشدة نفسها!)؛ وإنما هو صيانة الميثاق الأخلاقي الذي ضحَّى ثلاثة من الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - بحيواتهم، ناهيك عن النظام السياسي؛ في سبيل صيانته على الهيئة التي ارتضاها رب العزة سبحانه، والتزمه حضرة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وما ذلك إلا لأن هذا الميثاق الأخلاقي هو وحده الضامن لإمكان استعادة الهيئة الاجتماعيَّة، وتوليد النظام السياسي؛ الذي يرضاه الله.

وإذا كان التلاعُب بالجماهير مُحرَّمٌ علينا ابتداء، فإن إدراك ماهيته وطبيعته وكيفياته أمر جوهري، لا لنُعيد صياغة رسائلنا الدعويَّة بناء على ذلك؛ فهذا حتما يُفرغها من محتواها، وإنما يلزم علينا إدراك طبيعة هذا التلاعُب بوصفه أحد أمور الجاهليَّة، التي يتعيَّن على من أراد معرفة الإسلام أن يتعرَّف إليها؛ ليتجنَّب الوقوع فيها بشتى السبل، حتى يحين وقت مواجهتها بما يليق بطبيعة هذه الرسالة ودورها.

إن التلاعُب بالجماهير ومخاتلتها "فن"؛ يبدأ من اللغة المستعملَة لمخاطبتها، وينتهي بتغيير طريقة إدراكها للواقع، مرورا بتوظيف مخاوفها وغرائزها لتحقيق أهداف القائم بترشيد الواقع، أو صاحب الرسالة الاتصاليَّة؛ كما يُسمى في الدراسات الحديثة! وهو "فن" قديم قِدَم الحياة الإنسانيَّة نفسها، وإن كانت الأدوات الاتصاليَّة الحديثة (تلفاز، سينما، مذياع، وسائل تواصل اجتماعي.. إلخ) قد جعلت ممارسته على نطاق واسع أيسر كثيرا، كما أدى توظيف الدراسات النفسيَّة وتطويرها؛ إلى المزيد من تغلغُل أدوات التلاعُب داخل النفس، لزيادة عُمق السيطرة عليها. وبعد أن كان كل ما تستلزمه المخاتلة هي مناداة يزيد بن معاوية بإمارة المؤمنين، حتى يصير آل البيت النبوي الطاهر - سلام الله عليهم - هم "الخوارج" في وعي الجماهير المغيَّبة التي تستجيب لإيحاءات اللغة؛ صار بوسع أدوات الاتصال الجماهيريَّة أن تكفُل سيطرة القائم بترشيد الواقع على المتلقين، سيطرة شبه كاملة؛ بشيفرات غير مباشرة تُخاطِب اللاوعي وتوجهه، ضد قناعاته الفطريَّة أحيانا؛ بعد أن تم التلاعُب بعمليَّة الإدراك وصارت رهينة الإشارات التي تُرسلها هذه الأدوات؛ فزادت سرعة استجابتها لها.

وثمة مثال عظيم الدلالة أورده ابن المقفَّع، في ترجمته لكليلة ودمنة؛ يكشِفُ كيف يُمكن التلاعُب بإدراك الإنسان ومنطقه الفطري، حتى ينقلِب رأسا على عَقِب؛ وذلك كبديل عن المواجهة المباشِرة مع الفطرة، التي ستؤدي حتما لهزيمة المحارِب لها هزيمة مُنكرة. فبدلا من المواجهة المباشرة مع منطق فطري لا تُمكن هزيمته؛ يتم التلاعُب نفسيّا بالجماهير حتى تعتنِق وهْمَا يُخالِف كل منطِق وتدحضه كل فطرة. وهو في هذا "الاعتناق" اللاعقلاني يُبرهِنُ على أن القناعات التي تُبنى على العاطفة والغريزة تصير أقوى من كل منطق، حتى إنها تُنحّي كل فطرة مجبولة وتُهمش كل فكرة معقولة.

ينقل ابن المقفَّع أنه كان في أرض البراهمة مدينة كبيرة آهلة، وكان في تلك المدينة فأر مُملَّك على جميع فئران المدينة وما حولها. وكان لهذا الملك- الفأر وزراء يشاورهم في أموره؛ فيُحضرهم جميعا ويستشيرهم فيما يُصلِح رعيته. وقد اجتمعوا يوما، وانتهى بهم الكلام إلى بحثهم عن سبيل ليُزيلوا عنهم ما قد توارثوه من أسلافهم من الفزع والخوف من القطط، عدوهم الفطري المجبول. لكن ما حيلتهم وما يتوارَث من الآباء والأسلاف، في الأصلاب والجنس، ويتأدى من الآباء إلى الأولاد، كما يؤكد ابن المقفع، لا يقدِر مَلَكٌ من الملائكة، دع الناس، على تغييره.

وقد تمخَّض هذا الاجتماع عن مشورة من أعقل وزراء الملك- الفأر، حتى يُحضِرَ إلى حضرته جميع الفئران في مدينته ونواحيها؛ فيأمرهم أن يتخذ كل منهم، في البيت الذي يأوي فيه؛ ثُقبا يسع جميع الفئران، ويُعد فيه زادا لكفايتهم عشرة أيام. فإذا فعلوا هذا؛ قاموا بأجمعهم إلى دار بعض الموسرين، ممن يكون له في داره قط واحد، ثم يدخلون بأجمعهم إلى خزانة المتاع، ولا يعرِضون للمأكول؛ وإنما يقصِدون إلى الفساد في الكسوة والفُرُش، على ألا يُسرفوا في الفساد.

فإذا رأى صاحب المنزل ذلك الفساد؛ قال: لعلَّ هذا القط لا يكفي! فيزيد آخر. فإذا فعل ذلك؛ أكثروا من الفساد، وبالغوا فيه؛ فيُميز صاحب المنزل، ويقول: إن الفساد يزيد بكثرة القطط، ولكني أجرب بالتخلُّص من واحد منها. فإذا فعل ذلك، ونقص قط من الدار؛ أنقصت الفئران فسادها قليلا. فإذا تخلَّص من القط الثاني؛ أنقصت من الفساد أكثر. فإذا تخلَّص من ثالثٍ؛ خرجوا من المنزل إلى غيره، وفعلوا فيه مثلما فعلوا في البيت الأول. ولا تزال تدور من منزل إلى منزل، إلى أن يتبيَّن للناس أن الذي يلحقهم من عِظَم الضرر إنما هو من وجود القطط، فإنهم إذا تبينوا ذلك؛ لم يقتصروا على قتل القطط التي في البيوت فحسب؛ لكنَّهم يطلبون القطط البريَّة فيقتلونها هي الأخرى!

ففعل الملك وسائر رعيَّته الفئران ما أشار به الوزير الماكِر، فما مضت ستَّة أشهر حتى هلك كل قط في المدينة ونواحيها. ومضى ذلك الجيل من الناس، ونشأ بعدهم قرن آخر على بغض القطط (لاحظ تغيُّر العقيدة الموروثة!)؛ فكانوا متى ظهر لهم أدنى فساد من الفأر، أو حدث للناس أو البهائم مرض؛ يقولون: يوشَك أن يكون عبر بهذه المدينة قط! فبهذا النحو تخلَّص الفئران من فزع القطط، واطمأنوا منهم. وقد تم لهم ذلك بالالتفاف حول الفطرة، ومخاتلتها تلاعُبا بالمخاوف والغرائز؛ بدلا من المخاطرة بمواجهة خاسرة معها.

* * *

واليوم، يُفرِّق الأكاديميون بين مفاهيم "الإعلان" و"الإعلام" و"الدعاية"، باعتبار الأول جهودا اتصالية مدفوعة الأجر لترويج سلع وخدمات وأفكار، أما الإعلام فيعرِّفونه بأنه تعبير "موضوعي"، وليس "ذاتيّا"؛ لتزويد الجمهور بالأخبار "الصحيحة" والمعلومات "الكاملة" والحقائق "الثابتة"، التي تساعد "الرأي العام" على تكوين حكمٍ صائب في واقعةٍ ما. ويعتبرون الدعاية محاولة للتأثير في نفوس الجماهير للتحكم في سلوكها، وإغرائها للتصرف بطريقة معينة قد تخالف قناعاتها أحيانا. لكنَّ هذه التُرهات الأكاديمية مُضَلِلة أكثر منها كاشفة، وقد كشف عدد كبير من الدراسات النقديَّة الغربيَّة ضلال هذا التقسيم؛ الذي يعتبر النوعين الأولين من الاتصال لا تشوبهما شائبة (وبالتالي نتائجهما)، في حين قُسِّم الثالث (الدعاية) إلى ثلاثة ألوان: أبيض خيِّر، ورمادي وأسود؛ "شريران" بدرجات متفاوتة.

وقد أدى تراكم هذه الأوهام النظريَّة إلى افتراض خُرافي خلاصته أن الإعلام ما هو إلا نشاط يقتصر على الحكومات الصالحة، التي تهدف لتنوير مواطنيها؛ لا سوقهم كالنعاج في فاشيَّة توافِقُ أهواء الملأ. وصوَّر لنا الإعلان بوصفه أداة "موضوعية" صادقة تستخدمها المؤسسات الهادفة للربح بشكل "مشروع"، للتعريف بأنشطتها وسلعها؛ لا "خلق" الطلب عليها بالتلاعُب بغرائز الجماهير ومخاوفهم. في حين اقتصر الشر في هذه التعريفات النظريَّة على النوع الثالث، الذي يُفتَرَض (نظريّا فحسب) ألا تضطلع به سوى الدول والحكومات "المعادية"؛ في سعيها لتشويه الإنجازات الوطنية المحلية!

وقد استبطن بنو جلدتنا هذا الهُراء للأسف، وبنوا عليه رسائلهم الاتصاليَّة، حتى "الدعويَّة" منها؛ التي يتم توجيهها من خلال هذه الأدوات، توهُّما منهم أنها وسائل "ماديَّة" محايدة، لا قلب لها ولا غاية؛ ومن ثم يمكن أن تُعزز "الدعوة" التي حمَّلوا أنفسهم عبئها (بغض النظر عن رأينا في مفردات الدعوة نفسها)!

ولعلَّ الدليل الأهم على ذوبان الحدود والفروق بين الأنواع الثلاثة من الخطاب الجماهيري؛ هو أنهم جميعا يستعمِلون ذات الأدوات، بمرونة كبيرة؛ وبغير فروق واضحة في الممارسة. وكثيرا ما يتم وسم "المحتوى الإعلاني المدفوع" بهذه السمة، لئلا يخلِط الجمهور بينه وبين غيره من المحتوى "الموضوعي" الموهوم، الذي يُفترَض خلوه من نيَّة التأثير والنزوع إلى التلاعُب!

وقد صار من المسلَّم به في الدراسات الحديثة أن "المقتطفات" أو "القصص" الإخباريَّة المختارة، التي تنشرها هذه الأدوات، والمفترض سذاجة "حياديتها"؛ تصوغ سرديَّة تخدم ممول الأداة وصاحب الحق في توجيهها بداهة، فهي كالقذائف الموجَّهة في قصف صاروخي غائي؛ لها ترتيب معيَّن وهدف معيَّن يسوق المتلقي إلى نتيجة بعينها، مهما موَّه المرسِل الكلام الصريح عن غايته النهائيَّة!

كان هذا موجزا لطريقة عمل أهم آليَّات التلاعُب بالجماهير، وتشويه وعيها؛ فإلى الملتقى.
__________
(1) سنُفيض في أمره في مقال لاحق، لكن يُمكن إجماله في مقولة الإمام علي - عليه السلام - حين قيل له إن معاوية يتألف الناس بالمال، وحاول المحيطون به حمله على مثل ذلك؛ فقال: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله لا يراني الله مُتخذ المضلين عضدا.
التعليقات (0)