أفكَار

جامعة الزيتونة بين الارتهان للسياسي وأمل ردّ الاعتبار 1من2

قراءة موسعة في واقع وآفاق جامعة الزيتونة في تونس  (صفحة جامعة الزيتونة)
قراءة موسعة في واقع وآفاق جامعة الزيتونة في تونس (صفحة جامعة الزيتونة)

"جامعة الزيتونة"، هي أول جامعة أُنشئت في العالم الإسلامي، وهي من أقدم الجامعات في العالم، فقد انتظمت دروسها منذ 737 م (120هـ)، بجامع الزيتونة بمدينة تونس لتكون منبرا إشعاع ثقافي وديني في العالم العربي.

 



من الوجوه اللامعة لجامعة الزيتونة، التي تجاوز إشعاعها تونس إلى مختلف الأقطار العربية، الطاهر الحداد، و ابن خلدون، والفقيه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة وسالم بوحاجب ومحمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر ومحمد العزيز جعيط والمصلح الزعيم عبد العزيز الثعالبي وشاعر تونس أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد صاحب كتاب (امرأتنا في الشريعة والمجتمع).

ولأن التعليم هو أحد تجليات الإرادة السياسية، فإن جامعة الزيتونة، منذ استقلال تونس عام 1956، مثلت الواجهة العلمية للقيادة السياسية الجديدة، التي تزعمها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والذي تمكن من تطويعها لتكون الذراع العلمية للتوجه التنويري والتحديثي الذي جاء به.

ومثله فعل خلفه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، عندما صعد إلى حكم البلاد خريف العام 1987، حين أعاد تقسيم جامعة الزيتونة وترتيب أقسامها لتكون جزءا من سياسات عامة يستطيع توجيهها والتحكم في مآلاتها.. 

الإعلامي والصحفي التونسي الحسين بن عمر، يقلب في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، تاريخ جامعة الزيتونة وما آلت إليه في عهد الثورة..  

ركيزة رابعة

يثير موضوع إصلاح التعليم بجامعة الزيتونة الكثير من الجدل والحساسية لسببين رئيسيين: السبب الأوّل مردّه الرمزيّة الدّينيّة للجامعة، بوصفها إحدى الركائز الأربعة في البلاد التي تهتمّ بالشأن الديني، إلى جانب دار الإفتاء والمجلس الإسلامي الأعلى ووزارة الشؤون الدينية. والسبب الثاني لكونها شكّلت منذ الاستقلال حلبة صراع المشروع المجتمعي بين السلطة الحاكمة وطيف مجتمعي واسع لا يزال يرى في "مشروع إصلاح التعليم بتونس"، الذي كان أعدّه الفرنسي جون دوبياس (Jean Debiesse) في كانون ثاني (يناير) 1958، والذي أوصى من جملة ما أوصى به بإلغاء التعليم الثّانوي الزّيتوني، سوى حلقة أولى في مسار محاصرة الدور الحضاري الكبير الذي كان يلعبه "الجامع الأعظم".

وبصعود الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى رأس السلطة، ومحاولة منه لتخفيف الصّدمات المتتالية التي كالها نظام بورقيبة للهويّة الإسلاميّة، جاء بيان 7 تشرين ثاني (نوفمبر) 1987 مُحمّلا بعبارات "الحنين إلى الأصل" وواعدا بردّ الاعتبار للهوية العربية الإسلامية، فكان القانون عدد 83 لسنة 1987، المؤرّخ في 31 كانون أول (ديسمبر) 1987 والذي قضى بتقسيم "الكليّة الزيتونيّة للشّريعة وأصول الدين" إلى ثلاث مؤسسات: معهد الشّريعة ومعهد أصول الدين ومعهد الإرشاد الديني، ومنحها الشخصية المدنية والاستقلال المالي، مع وضعها تحت إشراف مباشر لوزارة التربية والتعليم والبحث العلمي. إلا أنّ ذلك لم يدُم طويلا، حيث تمّ تقليص معاهد الكليّة الزيتونيّة إلى معهدين وأُلحق الثالث بوزارة الشّؤون الدينيّة.

رأى أساتذة الكلية الزيتونيّة في جملة هذه التغييرات استهدافا للمكانة الاعتبارية لمؤسستهم العريقة، خاصّة بعد أن تمّ تخصيص معهد الحضارة الإسلاميّة للطّلبة الوافدين الأجانب، وتمّ تقليص زمن تدريس مادة التّربية الإسلاميّة بالمعاهد الثانوية، وانتزعت مادة "التربية الوطنيّة" لصالح طلبة الحقوق زمن وزارة الراحل محمّد الشّرفي (1989 ـ 1994). 

احتدم الجدل مجددا حول الهويّة، مع بداية ثورات الربيع الديمقراطي، بتعبيرة الكاتب المغربي محمّد الطلاّبي، في  17 كانون أول (ديسمبر) 2010 من مدينة سيدي بوزيد التونسية، ومع انفلات الظاهرة الدينية المتشدّدة داخل المنطقة العربيّة، وداخل تونس على وجه الخصوص. واستدعت مساقات المعالجات السوسيولوجية والدينية لتنامي هذه الظاهرة الدينية المتشددة في فضاء المدرسة الزيتونية المالكية، ميسم الاعتدال والوسطية، مناقشة أسباب تنحّي الدور الرّمزي والمكانة الاعتبارية العلمية والحضارية لجامعة الزيتونة. 

يستطلع التقرير التالي آراء أساتذة جامعة الزيتونة وخبراء التربية حول الأسباب الذاتية والموضوعية التي حالت دون نجاح الحكومات المتعاقبة منذ 2011 في ردّ الاعتبار لمكانة الجامعة الزيتونية، بما يؤهلها للعب دورها الأكاديمي والحضاري، الذي يحفظ عراقتها العلمية وسمعة مدرستها الوسطية.

 



يشير الدكتور مصدق الجليدي، جامعي وباحث في الحضارة الإسلامية وتجديد الفكر الديني، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ قضية ردّ الاعتبار لجامعة الزيتونة، على أهميتها وأحقيتها، فإنّها تطرح إشكالا مفهوميا في ظلّ وجود واقع جديد بعد الثورة متمثل في وجود هيئة تنسب لنفسها أهلية الحديث باسم جامع الزيتونة وفروعه الجديدة إلى جانب جامعة الزيتونة: فأيهما يمثل الزيتونة والتعليم الزيتوني حقا؟ ! وكيف ستكون العلاقة بينهما (هي علاقة جفوة في الوقت الحاضر)؟ وكيف سيستفيد مشروع عودة التعليم الزيتوني من الطاقات البشرية العلمية والتعليمية الموجودة في جامعة الزيتونة المقاطعة لهذا المشروع؟ ! كل هذا يجب التفكير فيه ومعالجته بالحكمة اللازمة.

من الجامع الأعظم إلى الجامعة

يُرجع الدكتور نور الدّين الجلاصي، أستاذ التعليم العالي بالجامعة الزيتونيّة، في تصريح لـ "عربي21"، وضع جامعة الزّيتونة اليوم في بعض ملامح مآزقه إلى القرارات التي صاحبت السّنوات القليلة الأولى لاستقلال البلاد التّونسيّة، فقبله كان الجامع الأعظم يؤدّي دوره باعتباره مؤسّسة دينيّة وعلميّة وثقافيّة. في فلكها يدور قسط كبير من شأن الدّولة والمجتمع، تعليما وتشريعا وقضاء وإسهاما في تكوين الموظّفين على اختلاف رتبهم وتزويد السّلطة بهم، ومشاركة في إنتاج الأفكار إصلاحا للهيئة الاجتماعيّة، وتوجيها وإرشادا للهيئة السّياسيّة. وبالقيام بهذه المهام، نهض الجامع الأعظم بدوره في حماية الهويّة الدّينيّة لهذه البلاد وصون معالمها.

في ذات السياق، يشير الجلاصي إلى أنّ المسار التّاريخي الذي حفّ بانتقال الزيتونة من الجامع إلى الجامعة وما عرفته من تضييق متواصل طيلة نصف قرن كامل، خلف ارتهانات كبيرة، فقد فقدت هذه المؤسّسة مواردها الماليّة ومؤسّساتها التّدريسيّة، بموجب إلغاء نظام الأوقاف وهو المورد الرّئيس الذي كان يضمن مرتّبات المدرّسين والإنفاق على مبيتات الطّلبة وكثير من حاجياتهم، وتعاهد البناءات بالحفظ والصّيانة.

 


 
ويضيف الجلاصي بالقول أنّه على عكس وعود السلطة المستجدّة في نوفمبر 1987، فقد صارت الجامعة الزيتونية وبرامجها التّعليميّة أكثر رهينة لتقلّب المزاج السّياسي، الذي بلغ أوجه في التّسعينات وإلى زمن الثّورة في 2011 . فقد تمّ تقليص معاهد الكليّة  إلى معهدين وألحق الثالث بوزارة الشّؤون الدينيّة، وقلّص عدد الطلبة الموجّهين إلى معهد أصول الدّين إلى حدود السّتين طالبا سنويّا، في حين سُخّر معهد الحضارة الإسلاميّة للطّلبة الوافدين الأجانب، وانعكس هذا على عدد المدرّسين فيها حيث " أُغلق" باب الانتداب إليها إلّا من بعض الحالات الاستثنائيّة.

واقتصر دور الزّيتونة على تزويد وزارة الشّؤون الدّينيّة ـ عند إنشائها ـ بالوعّاظ المراقبين للشّأن الديني في البلاد، وعلى تخريج الأساتذة للالتحاق بالتّعليم الإعدادي والثانوي بأعداد تكاد لا تبلغ أصابع اليد الواحدة في السّنة نظرا لتقليص زمن تدريس مادة التّربية الإسلاميّة، وافتكاك مادة التربية الوطنيّة لصالح طلبة الحقوق زمن وزارة الشّرفي، مع تغيير اسم المادة في إطار توجّه فكريّ جعلها في مقابلة المدنيّة. وصاحب ذلك تغيير مستمرّ لبرامجها تدريسها في سبيل تهميشها وتبخيس شأنها عبّر عنه كاتب مصري بقوله:" في تونس يكتسب الطلاب قدرا محدّدا من المعرفة الدّينيّة " الضّروريّة" دون توسّع رأسي أو أفقي، ما يعني أنّ المعرفة الدّينيّة تقع على هامش المعرفة المدنيّة".

من جهته، يرى مصدق الجليدي بخطأ ما قام به بورقيبة والنخبة التي كانت مرافقة له في عملية تسطير الاختيارات التربوية الكبرى للبلاد فجر الاستقلال. ويفسر الجليدي ما اعتبره خطأ بورقيبة بكونه تمّ في وقت بلغت فيه جهود الإصلاح التربوي في الزيتونة أوجها، خاصة مع استحداث الشعبة العصرية على يد الشيخ الطاهر بن عاشور. هذه الشعبة التي استحدثت فيها مواد جديدة لم تكن تدرس من قبل في الزيتونة مثل الرياضيات الحديثة والعلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحية (الفرنسية والانجليزية) وكل هذه المواد ذكرها الشيخ الطاهر بن عاشور وأوصى بتضمينها في التعليم الزيتوني منذ أكثر من قرن، أي منذ سنة 1910، زمن انتهائه من تحرير كتابه الشهير في  إصلاح النظام التربوي الزيتوني: "أليس الصبح بقريب"؟.

مركزية إصلاح التعليم الدّيني

بقدر تأكيده على أن مسألة إصلاح التعليم بالجامعة الزيتونية تمثّل قضية حضارية عمرانية على درجة عالية من الأهمية والخطورة وأنّ ردّ الاعتبار لهذا المعلم الحضاري يمرّ حتما عبر إصلاح هيكلي وعميق للمنظومة التعليمية بالجامعة، فإنّ مصدّق الجليدي يرى أن مؤسسة الزيتونة لم تكن مؤسسة معزولة عن نمط عمراني ومعيشي وثقافي حاف بها ومخترق لها. مضيفا بالقول أنّ الجامعة الزيتونيّة كانت مُلبّية لجملة من الحاجات والوظائف العمرانية التي كان المجتمع يطلبها منها، مثل الإمامة والتعليم والقضاء.

ويتساءل الجليدي عن نوعية الحاجيات والوظائف العمرانية التي يمكن للزيتونة أن تُلبّيها في هذا العصر فائق التعقيد، من النواحي القانونية والإدارية والعلمية والتكنولوجية والتواصلية والطبية والاقتصادية وغيرها. مضيفا أنّ "الأمر إذا تعلق بإصلاح التعليم الديني، فهذا أمر مشروع بل ومطلوب ومُلح في ظلّ تنامي نزعات الجهل والتطرف والإقصاء والعنف، وهذا يتطلّب إعداد العدّة له. ولكن إذا ما تعدّى الأمر ذلك إلى مشروع أكبر وأشمل وهو مشروع تأصيل التعليم، فهذا يقع في مستوى آخر أعلى، يتطلّب طاقات وأفكار وإعداد أكبر وأشمل".

التعليقات (0)