كتب

نهاية الحداثة اليهودية.. كتاب عن الفرق بين الأديان والاحتلال

 كتاب يؤكد أن فكرة الحداثة تنهار مع بداية الاستعمار، فـ"لا حداثة مع استعمار" ـ عربي21
كتاب يؤكد أن فكرة الحداثة تنهار مع بداية الاستعمار، فـ"لا حداثة مع استعمار" ـ عربي21

الكتاب: نهاية الحداثة اليهودية: تاريخ انعطاف محافظ
المؤلف: إنزو ترافيرسو
الناشر: دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ـ دبي 2020

ظل الملف اليهودي في العالم محفوفا بترسانة من الغموض والمخاوف، ليس لأنه يتعلق بتاريخ واحد من الأديان السماوية، وإنما بسبب صراعات تاريخية لازالت تلقي بظلالها على التاريخ والواقع والمستقبل. ولذلك فإن أي دراسة علمية للمسألة اليهودية تصطدم دوما علاوة عن الشروط المنهجية لأي بحث علمي، بمخاوف من قوانين دولية غامضة وقابلة لتأويلات متعددة وأحيانا متناقضة.

الكتاب الذي بين أيدينا، والذي تصدى الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، لعرضه اليوم، هو واحد من هذا الصنف من الكتب، الذي يسعى لقراءة حقبة مهمة في تاريخ الوجود اليهودي في العالم، لجهة إسهامهم في الحداثة الكونية التي انطلقت من أوروبا قبل أن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من ريادة العالم المتقدم.

 

عصر الأنوار ومقدمات الحداثة

صدر عن دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ـ دبي، كتاب "نهاية الحداثة اليهودية: تاريخ انعطاف محافظ" (ط1، 2020)، للمفكر الفرنسي إنزو ترافيرسو، ذو الأصل الإيطالي، نقله إلى العربية وقدم له، محمد الجرطي. 

الكتاب صدر أولا باللغة الفرنسية في باريس عام 2013، عن دار نشر Editions La Découverte، تحت عنوان "La Fin de la  Modernité Juive: Histoire d’un Tournant Conservateur"، وهو يقع في 296 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من مقدمة المترجم، ومدخل، وسبعة فصول، وخاتمة. 
 
يتطرق هذا الكتاب إلى الحداثة اليهودية التي امتدت من عصر الأنوار إلى الحرب العالمية الثانية، وكانت أوروبا مركزها الأساسي، الذي لعب فيه المثقفون اليهود خلال قرنين من الزمن دوراً ثقافياً وحضارياً مهماً بسبب نزوعهم إلى مظاهر الحداثة الاجتماعية. غير أن هذه الحداثة استنفدت مسارها بعد منتصف القرن العشرين لأسباب سياسية وثقافية، إذ إن أوروبا لم تعد مركز الفعل الثقافي اليهودي، بل أصبحت الولايات المتحدة وإسرائيل مركزه. (ص 11)

 

تشير "كلمة (الحداثة) إلى مرحلة من التاريخ اليهودي الذي يتشابه بطريقة معقدة مع التاريخ العام، خصوصاً تاريخ أوروبا"

 



يفسر إنزو ترافيرسو، في هذا الكتاب، أسباب هذا التحول، بالقول: "توقفت معاداة السامية عن تشكيل الثقافات القومية، ليحلّ محلها رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبياislamophobie )، الشكل المهيمن للعنصرية في بداية هذا القرن الواحد والعشرين، أو لشكل جديد من معاداة اليهودية (اليهودوفوبياJudéophobie) الذي ولّده الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. بعد أن تحوّلت إلى (دين مدني) لديمقراطياتنا الليبرالية، فإن ذكرى المحرقة جعلت من الشعب القديم المنبوذ أقلية محمية، وريثة تاريخ يعي الغرب الديمقراطي من خلاله فضائله الأخلاقية. وبشكل موازٍ، فإن السمات البارزة والمميزة للشتات اليهودي ـ التجوال، والكياسة، والنصية، والحصانة الدولية ـ قد امتدت إلى العالم المعولم، لإخضاع الأقلية التي جسّدت هذه السمات. إن إسرائيل، بالمقابل، هي التي أعادت اختراع (القضية اليهودية)، ضد اتجاه معاكس لتيار التاريخ اليهودي نفسه، في شكل دولي وقومي" (ص 20).

في هذا الكتاب تشير "كلمة (الحداثة) إلى مرحلة من التاريخ اليهودي الذي يتشابه بطريقة معقدة مع التاريخ العام، خصوصاً تاريخ أوروبا"، (ص 27). في تصور المؤرخ دان داينر، تشمل الحداثة اليهودية قرنين من الزمن، من سنة 1750 إلى سنة 1950، بين بداية التحرر (النقاش حول "الإصلاح" و"الإحياء" اليهود) وما بعد الإبادة. (ص 28).

إن كل تفكير يتعلق بالحداثة اليهودية يستند إلى المواطنية العالمية، وبُعدها المحوري والتأسيسي. (ص 53) لقد "عرفت المواطنية العالمية بالتالي مركزين كبيرين، هما: الثقافة الإيديشية، وأوروبا الوسطى" (ص 56). وبحسب المؤلف، "عبرت (اليهودية) عن ديناميكية ديموغرافية خاصة، واندرجت داخل شبكات اقتصادية عابرة للأوطان، وساهمت في حركة شاسعة من التحولات الثقافية الأوروبية، بل الدولية. شكلت هذه المجموعة من العوامل ما يمكن تسميته، القاعدة البنيوية للمواطنية العالمية اليهودية" (ص 60).

يشير المؤلف إلى أن "القرن التاسع عشر (كان) مرحلة لحركة هجرة شاسعة، فعشرات الملايين من اليهود تركوا مزارعهم، الضيعات اليهودية في أوروبا الوسطى والشرقية ليستقروا في المدن" (ص 62). هذه العملية "رافقتها علمنة أنماط الحياة والاندماج الثقافي" (ص 63). فقد حدثت "انعطافة كبرى في القرن التاسع عشر، إذ أتاح التحرر دخول اليهود في ثقافة الأمم الأوروبية(...) فاحتلوا، على مدى جيلين أوثلاثة أجيال، موقع الصدارة بشكل علمي في المجالات جميعها، من العلوم الطبيعية إلى الإنسانيات، مساهمين أحياناً في خلق حقول معرفية جديدة" (ص 95 ـ 96).

بحسب إنزو ترافيرسو، "لم يجسد اليهود فقط العولمة الرأسمالية، بل كانوا نقادها الأكثر حدة، ملهمين ومرشدين أحياناً معظم الحركات الثورية، والفكرية، والسياسية، في القرنين الأخيرين. في الواقع، جسّد اليهود الحداثة بأبعادها المختلفة، بما أنهم كانوا في الآن نفسه، روادها الأوائل، وممثليها، ونقادها وضحاياها: إذا كان القرن العشرين هو (العصر اليهودي)، فإنه كان أيضاً بمنزلة لحظة أوج معاداة السامية ونقطة ذروتها" (ص 85).

 

أفول معاداة السامية 

 
يربط المؤلف "نهاية الحداثة المفترضة" بتراجع اللاسامية، التي أخذ مكانها ظاهرة "الرهاب من الإسلام"، ويقدم المؤلف بديلاً جديداً لمصطلح "اللاسامية"، هو "كراهية اليهود"، فيقول: "إن أفول معاداة السامية، من جهة أخرى، ولّد كراهية يهودية جديدة، يجسدها ممثلون جدد وتنقلها خطابات جديدة تماماً" (ص 177). 

ويقول: "إن الرواية الأساسية لمعاداة السامية فيما بعد الحرب، السلبية ـ أي النزعة الإنكارية، ـ الهولوكوست كأسطورة، ومؤامرة يهودية جديدة تهدف إلى إشعار الأمم بالذنب" (ص 184). ويرى أن الهولوكوست تحول اليوم "إلى نوع أشبه بالدَين المدني للعالم الغربي، يحميه أحياناً القانون" (ص 185)
يشير إنزو ترافيرسو، إلى أن "الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني (ولد) معاداة سامية (يسارية) يجب إدانتها وإن كانت قليلة للغاية(...) لقد ولّد الصراع أيضاً يهودوفوبيا جديدة، منتشرة في العالم الإسلامي (وبين أقلياته في أوروبا)، تفضي أحياناً إلى أفعال معادية للسامية" (ص 185).

 

بحسب المؤلف، "عبرت (اليهودية) عن ديناميكية ديموغرافية خاصة، واندرجت داخل شبكات اقتصادية عابرة للأوطان، وساهمت في حركة شاسعة من التحولات الثقافية الأوروبية، بل الدولية.

 



يقول المؤلف: "لقد تمت المحافظة على اللبس والغموض بِعلم وتبصر من طرف الناطقين باسم المجتمعات الإسرائيلية الذين يعلنون، بإدعاء تمثيل اليهود في مجملهم، عن دعم غير مشروط للسياسة الإسرائيلية: إن تماهي هذه الجماعات بشكل كامل مع إسرائيل يعزز ويشجع، في نهاية المطاف المعادلة السلبية التي تقود المعادين للسامية إلى تدنيس المعابد وهي ترى فيها تجسيداً لـ (الدولة اليهودية)" (ص 190 ـ 191).

 

فكرة الإسلاموفوبيا
 
بحسب إنزو ترافيرسو، "في أوروبا المعاصرة(...) تلعب الإسلاموفوبيا بالنسبة إلى العنصرية الجديدة الدور الذي كانت تلعبه سابقاً معاداة السامية(...) إن صورة العربي ـ المسلم الذي رسمته كراهية الأجانب المعاصرة لا يختلف كثيراً عن صورة اليهودي التي شيدتها معاداة السامية في بداية القرن العشرين" (ص 199). و"على خلاف اليهودوفوبيا ومعاداة السامية اللتين اُدينتا دوماً وعلناً وتم قمعهما، فإن الإسلاموفوبيا لها صوت وهي موضوع حوار ونقاش، ويبقى إرثها الكولونيالي حياً للغاية في الثقافة الأوروبية"، (ص 202).

تتطابق نهاية الحداثة اليهودية أيضاً مع تحول آخر أبرزت حنة أرندت بشكل تام طابعه المحتوم: "تأسيس دولة إسرائيل، التي يتم تقديمها بمنزلة الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الكمال في الحقوق، يحيل إلى ولادة شعب جديد منبوذ ـ الشعب الفلسطيني ـ شعب محروم من الاعتراف السياسي ومن الحقوق. ظهرت الحداثة اليهودية من تقويض لاضطهاد قديم، إنها لا تتناسب مع تحويل المُضطهَدين إلى مضطهِدين، والمظلومين إلى ظالمين" (ص 207 ـ 208).

إذن تنهار فكرة الحداثة مع بداية الاستعمار، فـ"لا حداثة مع استعمار"، فثمة أمر مؤكد، بحسب المؤلف، هو، "إن سلوك الجيش الإسرائيلي خلال الصراع كان يندرج في إطار المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية من دون عرب(...) وبذلك ظهرت إسرائيل على حد تعبير أندرسون، كـ(جمهورية من الدم والعقيدة)، أي ديمقرطية محددة على أسس طائفية وعرقية، مفتوحة أمام كل أنصار الشريعة الموسوية" (ص 220). 

فقد "خلقت الدولة الجديدة بالمقابل شعباً من اللاجئين الفلسطينيين، وعاشوا كمنبوذين حقيقيين بالمعنى الأرندتي للكلمة: كائنات بشرية دون دولة، محرومة من (حق التمتع بالحقوق)." (ص 221). و"هكذا تم التمهيد، داخل حصن يتمتع بامتلاك أسلحة قوية جداً تبعها لاحقاً امتلاك القنبلة الذرية، لبناء "جماعة متخيلة" على أساس التوراة، وتحت شعار الإيكولوجيا، وراية الغرب المحرقة" (ص 223).

يؤكد المؤلف في عدة مواضع من الكتاب، بنوع من السخرية "وضعت إسرائيل نهاية للحداثة اليهودية" (ص 235). 

بحسب إنزو ترافيرسو، تحولت "ذاكرة الهولوكوست إلى نوع أشبه بـ (الدين المدني) للعالم الغربي، نموذج لازم وضروري لتقييم الفضائل الأخلاقية الديمقراطية، واختبار تخضع له الدول التي ترغب في الاندماج في مؤسساته السياسية" (ص 237). 

"في بداية القرن الواحد والعشرين، كانت ذاكرة الهولوكوست هي التي تضطلع بدور الدين المدني الشامل. هذه الذاكرة تقدّس بعض القيم الموروثة من عصر الأنوار، كحقوق الإنسان، والتعددية، والتسامح، واحترام الغيرية، ونبذ العنصرية ومعاداة السامية، وهي جميعها تشكل الأساس الأخلاقي للديمقراطية الليبرالية" (ص 242). و"يمنح الدين المدني للهولوكوست الدولة امتيازات جديدة. إن المصادقة على أيام الذكرى، وتشييد الأنصاب التذكارية، وإنشاء متاحف ومواقع تذكارية تستلزم تدخل المُشرّع" (ص 255). وبحسب المؤلف، لقد تم القضاء على الحداثة اليهودية، "وكان الدين المدني للهولوكوست يشكّل الشاهد على قبرها" (ص 265).

سيلاحظ قارئ هذا الكتاب، في نهاية المطاف أن العلاقة بين الدين والفكر والدين والسياسة ليست خاصية إسلامية فحسب، وإنما هي قضية عامة بكل الأديان، إذ يظل التمييز بين الدين والسياسة أو الدين والفكر، مجرد تمييز منهجي فقط، أما على الأرض، فإن الفعل السياسي لن يكتسب أي قوة على الأرض، ما لم تكن له جذور دينية.. 

كما سيلاحظ قارئ الكتاب مرة أخرى، الفرق بين الأديان وبين التأويلات المقدمة لها على الأرض، إذ كيف يتم الحديث عن دولة يهودية في إسرائيل على أنقاض شعبها الفلسطيني الذي تم تشريده عنوة؟ 

 

*كاتِب وباحِث فلسطيني

التعليقات (1)
براقش
الجمعة، 05-06-2020 06:31 م
إذا كان التحقيق في الهلوكوست حرام و ممنوع، إذا كان التحقيق في تاريخ اليهود هو معاداة السامية و يعد حرام و ممنوع إذن أي بحث علمي جدي غير ممكن بثاتا. هكذا جنت الصهاينة على اليهود
الأكثر قراءة اليوم