كتاب عربي 21

جريمة النقد

شريف أيمن
1300x600
1300x600
ظهرت مفاهيم العروبة والقومية أواخر القرن التاسع عشر كنزعة معادية للرابطة الإسلامية والخلافة التي كانت حينها في نَزْعِها الأخير. والرابطة الإسلامية تستند إلى تاريخ عميق وثقافة مشتركة وحضارة فاعلة وجغرافيا متصلة، فكان لا بد من نزع هذه الرابطة برابطة قريبة لها كتمهيد لنزع ما يسمح بائتلاف هذه الشعوب مرة أخرى، فكانت العروبة التي تَشرف بأن لغتها لغة القرآن؛ هي اختيار الراغبين في هزيمة وإذلال شعوب الأمة، ومنها بدأت أولى محطات تفكيك هذه المنطقة، فماذا بقي بعد قرن وبضعة عقود من هذا السعي الدؤوب؟

بقيت الجامعة الإسلامية هي الميثاق الغليظ الذي يجمع أرجاء شعوب المنطقة العربية، ثم حدث تطور جديد على الشعوب العربية بدخول حركات تنافس على السلطة؛ تقول إن أفكارها مستمدة من الإسلام، فجرى صدام حاد بين الحركة السياسية الإسلامية ونُظم الحكم، وبلغ مداه عقب استيلاء الضباط على الحكم في نُظم ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

وعمليات تسليم السلطة هنا لا يمكن أن تمر دون تساؤلات كثيرة عن طبيعة التفاهمات التي تجعل المحتل يقبل الخروج، ولكن لهذه المسألة مقام آخر.

اتجهت نُظم الضباط إلى العروبة كإطار جامع للشعوب بدلا من الدين، إذ اعتُبِرت المفاهيم الدينية خاصة بالحركة السياسية الإسلامية. ولو كنا أمام نُظم سياسية وطنية، وتحكم بامتدادها الثقافي والفكري، لوجدناها تزاحم الحركات السياسية الإسلامية في أنشطتها وأفكارها، ولامتلأت المساجد بالدعاة إلى الله لا بالدعاة إلى السياسة، سواء كانوا مؤيدين للنظام السياسي أو معارضين له، لكننا لم نكن أمام نُظم تستمد ثقافتها من تاريخها، أو تحكم بالعقل والمصلحة الوطنية، بل كنا أمام نُظم زرعت الاستبداد والقُبح في كل نَفَس حكمت فيه أرضا عربية أو غير عربية، فكان القِطاف موافِقا للبَذْر.

انتكست قِيم العروبة مع هزيمة 1967، وبدأ الذين كبروا في ظل الاستبداد والقيم الجديدة، يبحثون عن ملاذ آخر، فكان الدين هو بيت العائدين وهادي الحائرين. وما هي إلا سنوات وأصبحنا أمام ما سُمي بفترة الصحوة الإسلامية. كانت مصر هي أرض مشروع العروبة، وهي أرض الهزيمة، وهي أرض الحركات السياسية الإسلامية كذلك.

نشأت في السبعينيات ثلاثة توجهات عقب وقُبيل تخرّج المجموعات الأولى من مجموعات الصحوة من الجامعات المصرية، فكانت هناك مجموعة الإخوان المسلمين، ومجموعة السلفيين في الإسكندرية، ومجموعة الجماعة الإسلامية في الصعيد.

وهنا لا بد من الانتباه لأمر ذي بال، فعملية "الإحياء/ الصحوة.. إلخ" ارتكزت هنا على الشباب فقط، بل شباب الجامعات الذين فارقوا مرحلة المراهقة قريبا. والشباب يمتاز بالحماسة، لكنه منقوص الأدوات ومفتقر إلى خبرة التجربة. ثم هذا الشباب أصبح ملء السمع والبصر في مقتبل عمره، وما أخطر الاشتهار على استقامة النفس والسلوك لمن عاش عمره يُهذّب نفسه، فكيف بمن لم يبدأ التهذيب؟

جرى ما جرى من تشعبات في الحركة السياسية الإسلامية في الأفكار والممارسات، وجرى ما جرى من إصرار النُّظم السياسية على تضييق المجال الديني على المستوى الرسمي أو الأهلي، وكانت أي انتخابات نزيهة تأتي بمرشح الحركة السياسية الإسلامية في المقعد الانتخابي المُتنافَس عليه، الأمر الذي زاد نهم إسلاميي ما بعد الانفتاح السياسي إلى المنافسة على السلطة، وزاد قناعة النُّظم المستبدة بخطورة هذه الحركات وأفكارها.

فاض الكيل بالمجتمعات، فانفجروا ضد النظم المستبدة التي ورثت الاستعمار بوجوه وطنية، وكان الطبيعي أن يأتي الإسلاميون إلى السلطة إذا قرروا المنافسة عليها، وليتهم ما فعلوا.

كان إسلاميّو مصر بوابة الاختيارات الخاطئة، وربما كانت أعوام ما قبل الانتفاضة المصرية عام 2011 تُنذر بعدم حكمة أصحاب القرار داخل الجماعة الأكبر والأهم في التاريخ السياسي الحديث. وللأسف انجرفت القواعد الطيبة والمخلصة خلف قيادتهم بكل حماس، وللأسف أيضا لم يكن كل الاتّباع عن قناعة.

انتهت تجربة الإسلاميين في مصر بمأساة لأفرادهم، وأخرى لبلدهم، وأخرى لمشروع التغيير في المنطقة، ودخلنا في مرحلة جديدة من التفكك والتيه العربي والإسلامي، وأصبح قرار ما يقرب من مليار مسلم مشلولا بفعل قوى جديدة برزت في عواصم القرار العربي والإسلامي، وأصبحت الدول التي تملك مقومات القيادة؛ رهنا للقيادات الجديدة، ولم يعد مسموحا لأي كان أن يعبر عن معارضته للقيادات الجديدة التي تحكم بالمال فقط، ولعل كواليس القمة الإسلامية بماليزيا أواخر العام الماضي تكشف حجم تدخلات القيادة الجديدة للمنطقة.

طوال قرن وبضعة عقود، مرت المنطقة بمراحل عديدة، على مستوى محاولات التحرر والاستقلال، ثم مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى هزيمة 1967، ثم مرحلة الدوران في الفلك الأمريكي بكل تفاعلاتها منذ السبعينيات وحتى اليوم، ثم مرحلة الثورة، ثم مرحلة انتكاسة الثورات وتراجعها.. كل تلك المراحل الهامة والمفصلية في تاريخ الأمم والشعوب والحضارات مرت دون نقد حقيقي لأي مرحلة، بل يصير الناقد (المخلص) خائنا لوطنه أو لدينه أو لأفكاره، بحسب الجهة التي يتم نقدها، وأصبح النقد في عهد ما بعد الانتفاضات يستوجب القتل بالرصاص في الشوارع أو تقطيع الأوصال بالمنشار وإذابة الجسد.

أكثر ما يُحزن أن الجهات الشعبية تأبى النقد والمراجعة مثلما يرفضها المستبدون، وهذه أمارة سوء، فلا صلاح للمستقبل دون الاعتبار بالماضي وتدقيق ممارسات الحاضر، خاصة أن الماضي القريب والحاضر المشهود يخبران بالكثير والكثير من مواطن الزلل وآيات الانحراف، لكن أهل المعارضة يشابهون أهل الحكم في اعتبار النقد جريمة تستوجب نزع الانتماء عن الناقد.

twitter.com/Sharifayman86
1
التعليقات (1)
أحمد النسناس
الأربعاء، 03-06-2020 11:44 ص
قال جابر بن عبد الله: قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»... وفي حديث عبد الله بن عمرو: " إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا "، وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة"..... لا الحركات الإسلامية التي تحولت لحزبية مقيتة وبيزنس ستراجع ولا الأنظمة ستراجع والأدهى أن المتقالين هنا وهناك كل يدعي أنه الحق وأن قتلاه في الجنة وقتلى الطرف الآخر في النار.