يجزم مقربون من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأن السنة المقبلة هي سنة مصر بامتياز، حيث ستكون الدولة العربية الوحيدة ذات العلاقات الاستراتيجية شبه التحالفية مع كل من روسيا فلاديمير بوتين وأمريكا دونالد ترامب. يقولون بكل ثقة إن مصر ستتعافى اقتصاديا، إضافة إلى تعافيها استراتيجيا. فهناك فورة قومية وطنية مصرية مرجعيتها الجيش، رهانها على علاقة مميزة بين بوتين وترامب.
والثقة عائدة إلى الاعتقاد بأن القيادة المصرية أحسنت الاستثمار في التحالفات الاستراتيجية الصحيحة وعلى رأسها مع روسيا. كثر في مصر يحتفون بفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية كأنهم ناخبون أمريكيون. السبب الأساسي هو الكراهية للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون التي يتهمونها بتبني «الإخوان المسلمين» ودفعهم إلى السلطة كما فعل الرئيس الحالي باراك أوباما، في رأيهم. إنما للعلاقة بين ترامب وبوتين – على الصعيد الشخصي وأثناء التلميحات الانتخابية – أثر حتمي، كما يعتقدون على السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط والخليج. وهم مقتنعون بأن المستفيد الأول سيكون مصر، لذلك قرّروا أن البراغماتية القومية تتطلب دعم روسيا في سورية بغض النظر عن اتهامها من جانب دول أوروبية أساسية بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين السوريين.
بكل ارتياح وبلا تردد، تتملص الطبقة المقربة من السلطة في مصر من أية مسؤولية أخلاقية نحو المدنيين السوريين وتقول: هذا ليس من شأني. فلقد اتخذت هذه الطبقة القرار بأن محاربة «الإخوان المسلمين» أولوية قاطعة، لذلك فإنها تدعم روسيا في سورية وحليفتها إيران والميليشيات التي تطلقها طهران في الحرب لمصلحة بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة. وكما تغض مصر النظر عن التجاوزات الروسية والإيرانية في سورية، كذلك تفعل ألمانيا التي تعتبر نفسها عرّاب العلاقة الغربية – الروسية والغربية – الإيرانية.
ولأنها لعبت دورا مهما في إبرام الاتفاق النووي مع إيران، تحرص الطبقة السياسية والنخبوية الألمانية على صيانة إيران من المحاسبة على أفعالها في سورية خوفا على الاتفاق النووي ولحمايته من أي اهتزاز. فمصر في المنطقة العربية تشبه ألمانيا في البقعة الأوروبية من ناحية الإعفاء التلقائي لإيران من محاسبتها في سورية. الفارق أن ألمانيا تلعب دورا قياديا في التأثير في العلاقة الأمريكية - الروسية من منطلق استراتيجي، فيما مصر تتموضع على أوتار العلاقة الأمريكية – الروسية وفقا لنغم قررت أنه في مصلحتها تلقائيا.
أثناء مؤتمر عقدته مؤسسة «كوربر – ستيفتونغ» في برلين هذا الأسبوع وفي مناظرة حملت عنوان «هل أدى الاتفاق النووي إلى جعل الشرق الأوسط أقل استقرارا؟»، أتى التصويت قبل المناظرة ليسجّل 80 في المئة من الأصوات معارضة ومجرد 20 في المئة موافقة على أن الصفقة مع طهران ساهمت في تدهور الاستقرار في الشرق الأوسط.
بعد المناظرة، تحوّلت النسبة إلى 60 معارضة و40 موافقة على أن إيران أصبحت أكثر استقواء وقدرة على التدخل العسكري في البلاد العربية بسبب الاتفاق النووي. المهم في هذا هو تلقائية صيانة الاتفاق النووي ورفض النظر في أفعال إيران في العراق وسورية ولبنان واليمن. اللافت أن لدى الاستماع إلى ما تقوم به إيران من تدخل عسكري في سورية مباشرة وعبر ميليشيات شكّلتها لهذا الهدف، تضاعف عدد الموافقين إنما بقيت نسبة المعارضين 60 في المئة. وهذا يثبت عمق الإصرار على إعفاء إيران من المحاسبة في سورية حرصا على الاتفاق النووي.
هذا الحرص واضح أيضا في الأحاديث مع صنّاع القرار في برلين، ليس فقط على الصعيد الثنائي في العلاقات مع طهران وإنما أيضا على صعيد الأولويات في الحديث بين المسؤولين السياسيين الألمان وبين فريق الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
الأولوية القاطعة هي لحوار «مينسك» مع روسيا في شأن أوكرانيا، والذي تريد الديبلوماسية الألمانية إبعاده عن مسألة سورية. فهي ترى أن من الضروري الفصل تماما بين الحديثين مع روسيا، ذلك المتعلق بأوكرانيا وذاك المتعلق بسورية. وهذا ما تريد إقناع إدارة ترامب به كمسألة أساسية.
لا توافق الدبلوماسية الألمانية على أن مبدأ الفصل بين أوكرانيا وسورية في المحادثات مع روسيا سيؤدي إلى النتيجة التي أسفر عنها مبدأ الفصل بين الملف النووي والملف الإقليمي في المفاوضات مع إيران، والذي أدّى إلى استقواء إيران إقليميا. يقول مسؤولون ألمان أنهم سيصرّون على التزام روسيا بالمبادئ والأعراف الدولية وسيتحدّون تجاوزاتها في سورية إنما بمعزل عن المفاوضات مع موسكو في شأن أوكرانيا، صيانة لعملية «مينسك» التي تشكّل أولوية قاطعة للديبلوماسية الألمانية. وهذا ما ستعمل هذه الديبلوماسية على صوغه كأساس للمواقف المشتركة مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
ليس هناك أي مؤشر إلى تفكير عربي – خليجي بالذات – في كيفية المساهمة في التأثير في السياسات التي تُصاغ عشية تسلم دونالد ترامب الرئاسة. لا مؤشر إلى استراتيجيات تأثير في السياسات الأمريكية ولا في السياسات الأوروبية كتلك التي في ألمانيا مثلا، والتي سيكون لها وزن مميّز لدى الإدارة المقبلة في واشنطن. روسيا في صلب تلك السياسات وكذلك إيران، والحاجة كبيرة إلى حيوية تفكير في الوزارات العربية.
مصر تعتقد أن الرياح تهب في مصلحتها. الطبقة السياسية والنخبوية تعتقد أن مصلحتها تقتضي تهذيب العلاقة الاستراتيجية مع روسيا. فهي في رأيها حليف مهم في محاربة «الإخوان المسلمين» وهذا في اعتقادها أهم ركيزة لها. رحيل باراك أوباما بالنسبة إلى هذه الطبقة هو بمثابة خلع عدو أعاق مسيرتها.
دونالد ترامب، كما تعتقد، هو عنوان علاقة أمريكية – مصرية استراتيجية ستؤدي إلى صعود مصر في موازين القوى الإقليمية. هذا ما يلمسه بوضوح زائر القاهرة هذه الأيام. وعلى رغم التمنيات بتعافي مصر اقتصاديا وإقليميا، يصعب الاطمئنان على مصر وهي غارقة في موجة القومية القاطعة بانفصال عن واقعية أوضاعها الداخلية وأحلامها الإقليمية.
القيادة المصرية أوضحت دعمها للجيش النظامي في سورية، وقررت أن مصلحتها تقتضي أن تكون القطب الرابع في المحور الذي يضم روسيا وإيران وميليشياتها والنظام في دمشق. قد لا تكون مصر القطب الرابع عسكريا، لكنها بالتأكيد تقول علنا أنها القطب الرابع سياسيا واستراتيجيا. وهذا تطور في غاية الأهمية.
«الفيل في الغرفة»، كما يقول التعبير الأمريكي إشارة إلى الثقل الحقيقي في الغرف التي تدور فيها الأحاديث في غياب الفيل، أي دونالد ترامب. الكل يترقب الرسالة التي سيبعثها عبر الشخصيات التي سيختارها في مناصب مهمة مثل وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي. البعض يعتقد أن هذه الشخصيات ستكون المؤشر إلى سياسات إدارة ترامب. البعض الآخر يؤمن بأن ترامب نفسه هو الذي سيرسم السياسات الأمريكية الدولية، على رغم أنه غير خبير في السياسات الخارجية.
ألمانيا تستعد للتأثير في إدارة ترامب بصورة علمية بناء على صوغ سياسات وعلاقات واستراتيجيات.
وكمصر، تراهن على تحولات في الساحة الدولية تراها في مصلحتها كانتخاب دونالد ترامب، وعلى استقواء رئيس دولة عازمة على فرض نفسها في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وبشراكة إيرانية هو فلاديمير بوتين. إنها مغامرة مصرية.
الحياة اللندنية