تصاعدت المكانة الرمزية للمسجد الأقصى في الصراع مع الصهاينة حتى بات اليوم يشكل عقدة مركزية فيه، إذ إن آخر ثلاث هبات شعبية فلسطينية على مدى ثلاثة عقود من الزمن انطلقت على خلفية محاولة الصهاينة إحداث تغييرات في هوية المسجد ومحيطه، من هبة النفق في 25-27 أيلول/ سبتمبر 1996 التي انطلقت ردا على إعلان نتنياهو افتتاح شبكة أنفاق "الحائط الغربي"، إلى انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000 وحتى انتفاضة القدس في 30 أيلول/ سبتمبر 2015 أو بعدها بأيام أيا كانت النقطة التي تختارها للتأريخ لبدء هذه الانتفاضة.
جاء الصعود التدريجي للمسجد الأقصى كرمز ديني بدافعٍ صهيوني في الأساس، فقد شهد المجتمع الصهيوني تغييرا عميقا في بنيته نحو اليمين ونحو التيار القومي- الديني، فازداد تعلقه بالنبوءات التوراتية والأوامر الدينية والطقوس، وتصاعدت مع ذلك أولوية فكرة بناء المعبد اليهودي "الهيكل" في مكان المسجد الأقصى المبارك وعلى كامل مساحته، ولتحقيق هذا الهدف باتت الحكومات الصهيونية المتعاقبة مع قوى المجتمع الصهيوني المتطرفة تعمل على تغيير هوية ما تحت المسجد، ثم هوية محيطه، وصولا إلى هوية المسجد ذاته، ضمن استراتيجية متدحرجة تتقدم من سقف إلى سقف، مستفيدة من الاتجاه المستمر للمجتمع الصهيوني نحو التشدد الديني. قوبل ذلك برفض فلسطيني شعبي في الأساس لمحاولات العدوان على هوية المسجد، ما جعل المسجد الأقصى دوما يحتل مكانة الذروة التي تنفجر أمامها التراكمات، فتأتي أسباب القهر والعدوان والاستيطان وانغلاق الأفق السياسي لتتراكم، حتى إذا ما جاء العدوان على المسجد الأقصى شكّل لها فتيل الانفجار.
ولو عدنا إلى التاريخ الذي انطلقت منه هذه التحركات الشعبية الثلاث لوجدناه واحدا تقريبا، نهاية شهر أيلول/ سبتمبر، وإذا ما أدركنا أن حركة المتطرفين الصهاينة لتغيير هوية المسجد الأقصى تتخذ من الأعياد اليهودية رافعة لها للاقتحام والمطالبة بتطبيق أجندتها يمسي تفسير ذلك واضحا، فهذه الهبات جميعا تزامنت مع نهاية موسم عيد العرش اليهودي، أطول الأعياد الدينية من حيث المدة.
وإن الدراسة المتأنية لسلوك الجماعات اليهودية المتطرفة وطبيعة تكامل الجهد الحكومي الصهيوني معه، توضح أن العدوان على المسجد الأقصى يتركز في الفترة ما بين شهر 3 وحتى نهاية شهر 9 من كل عام ميلادي مع تفاوت بسيط من عام إلى عام بسبب طبيعة التقويم العبري. إذ يبدأ موسم الدعوة للاقتحامات مع عيد البوريم في شهر آذار/ مارس ثم يتكثف في عيد الفصح في شهر نيسان/ أبريل ويعود للتراجع قليلا حتى شهر أيار/ مايو واحتفالات الصهاينة باحتلالهم للقدس التي تمهد بدورها للموسم الديني التالي وهو ذكرى خراب المعبد الذي يتحرك بين نهاية شهر تموز/ يوليو والأسبوع الثالث من شهر آب/ أغسطس من كل عام ميلادي، ثم تتراجع حدة الاقتحامات قليلا لتصل ذروتها في وسط شهر أيلول/ سبتمبر وحتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر أحيانا من العام الميلادي، بعيد رأس السنة العبرية والعُرُش المتتاليان.
وحتى نركز على ما يقصده هذا المقال وهو فهم آلية العمل، فيمكن الخروج باستنتاجين أساسيين:
الأول: أن العام الميلادي يمكن تقسيمه إلى فترتين: فترة تحضُر فيها الأعياد اليهودية الدينية وتتصاعد فيها حركة العدوان المباشر على المسجد الأقصى، وهي تلك الممتدة بين شهر 3 وحتى شهر 9 من كل عام ميلادي على مدى سبعة أشهر تقريبا، وتلك الممتدة بين نهاية شهر 9 وحتى بداية شهر 3 من العام التالي، ومدتها خمسة أشهر وتشهد تراجعا للجهود المباشرة للعدوان على الأقصى، وتشكل مرحلة هدوء وتحضير لموسم الاقتحامات التالي.
الثاني: أن هناك ثلاث ذروات للعدوان على المسجد بات من الواجب قراءتها وتشخيصها والاستعداد المسبق لها، وهي موسم عيد الفصح اليهودي في شهر نيسان/أبريل، وموسم ذكرى خراب المعبد في شهر آب/ أغسطس، وعيد العرش في شهر أيلول/ سبتمبر من كل عام ميلادي.
أما على مستوى تصاعد وتيرة العدوان من عام لآخر، فيمكن للدارس ملاحظة تعمد جماعات المعبد عموما لبدء الموسم التالي من حيث انتهى الموسم السابق، ففي العام الماضي مثلا انتهت أجندتهم إلى محاولة فرض التقسيم الزماني على الأقصى وإغلاقه تماما في وجه المسلمين خلال أعياد اليهود، لتكريس تقسيمه "المتساوي" بين الطرفين، وعليه، فالمتوقع أن تبدأ الذروة الأولى لهذا العام في شهر نسيان/ أبريل الحالي من محاولة إغلاق المسجد الأقصى ثانية أمام المسلمين بشكل تام خلال أيام عيد الفصح، لتبدأ بعدها محاولة الانتقال لسقف أعلى من العدوان ينتهي به الموسم في عيد العرش –الذي سيقع في شهر تشرين الأول/ أكتوبر لهذا العام 2016، وهكذا.
إن القدرة على الفهم، ومن ثم التنبؤ بالسقوف المتوقعة ليست ترفا ولا تمرينا ذهنيا مجردا، فالمقتضى الذي لابد أن ينبني عليه هو بناء آلية مواجهة فعالة وناجعة، فواجب المؤسسات العاملة في مجال القدس، والحركات والهيئات والدول المعنية به مباشرة، بل وحتى الأفراد المهتمين، أخذها في الاعتبار والاستعداد لموسم الأعياد المتصل بأجندة استباق وتعطيل، تصنع حراكا شعبيا سابقا للمواسم، وتجاريها بسقف عال يمنعها من مراكمة الإنجاز، وأن تستغل موسم انقطاع تلك الأعياد لتفرض تراجعا خلالها على حركة التهويد التي تفتقد حينها الرافعة التي تدفع جهودها، فتركز على بنية تلك المنظمات وشكلها وتؤسس لحصارها وتجريمها ومقاطعتها عالميا، وتكثف جهد دعم حركة الرباط والتواجد الإسلامي في المسجد خلالها لتجبر جهود التهويد والتقسيم على أن تعود من سقوف أدنى من تلك التي غادرتها مع نهاية موسم الأعياد السابق.
إن تصدُّرَ المسجد الأقصى كرمز للصراع يعني أن تقدم أي طرف في حسم مصيره سيكون له انعكاس مصيري على معنويات الطرف الآخر وثقته بنفسه وقدرته على مواصلة الصراع متطلعا إلى النصر، ومن هنا لا يغدو خوض معركة المسجد الأقصى والتركيز عليها مجرد "أجندة دينية" يخوضها أناس متدينون فقط، بل تغدو معركة مركزية ينبغي على كل من يريد النصر في هذا الصراع خوضها بغض النظر عن موقفه من فكرة التدين، بل بغض النظر عن كونه مسلما أم لا، فمع تصاعد العدوان على الأقصى كرمز للوجود الفلسطيني والعربي والإسلامي، واتخاذ تهويده وتغيير هويته مؤشرا على نجاح المشروع الصهيوني في فرض هويته على هذه الأرض وسكانها، تغدو معركة الأقصى معركةَ كل فلسطيني بغض النظر عن دينه وموقفه السياسي، وكل عربي مسلما كان أم مسيحيا، وكل مسلم يحمل في قلبه مكانة لهذه البقعة التي قضى الله بتكريمها في كتابه العزيز.