قضايا وآراء

سلوك القطيع في وسائل التواصل الاجتماعي

1300x600
من أخطر الظواهر وأطرفها التي عرفت في سوسيولوجيا الجماعات والمجتمعات ما يعرف بظاهرة القطيع أو الحشد Crowd، إذ لا تنطبق ديناميات الفعل الجمعي على مثل هذا النوع من الجماعات، من هنا يصعب التنبؤ بسلوك الحشد واتجاهاته والمآلات التي ينتهي إليها.

يتكون الحشد من مجموعة من الأفراد المتنوعين في الخصائص والأهداف، وليس من المفيد كثيرا التعرف على خصائص كل فرد على حدة لأن خصائص الحشد لا تعادل مجموع خصائص أفراده، ذلك أن شخصية الحشد تتكون تحت تأثير عوامل أخرى غير خصائص أفراده، إذ تعمل عناصر كامنة مكبوتة في دواخل الأفراد وعقلهم الباطن بما يشكل العقل الجمعي للحشد، وهذا ما تؤيده نظرية التقارب في تكوين الحشود، ولو حاولنا التعرف على تلك العوامل الكامنة في كل فرد لوجدناها متنوعة وجمعها لا يساوي بالضرورة العقل الجمعي للحشد، ذلك أن أهم ملامح ذلك العقل الجمعي تتشكل وفق تفاعل المكبوتات المتنازعة، فيتغلب القوي منها على الأقل قوة، مثلا قوة الغضب قد تتغلب على قوة العقل ما قد يدفع الحشد للتخريب، وقد تبرز الغريزة الجنسية الكامنة فيميل الحشد إلى العدوانية الجنسية نحو الجنس الآخر، ما قد يُترجم إلى سلوك التحرش مثلما وقع أكثر من مرة في بعض شوارع القاهرة بما في ذلك أثناء الثورات الأخيرة.

أفراد الحشد يجمعهم حافز أو هدف آني مؤقت في الزمان والمكان. غالبا ما يتعلق بخوف غير محدد الأبعاد (منع أو وقف سلوك سابق) أو بتحقيق منفعة عاجلة (نهب وسلب مثلا)، وقد يبدأ بناء الحشد نتيجة إثارة آنية كرد فعل مثلما يجري في ملاعب كرة القدم أحيانا (الاحتجاج على قرار حكم المباراة)، وقد يبرز الحافز نتيجة مداعبة غرائز كامنة (الاستعراض الجنسي وحشود التحرش)، في بعض الأحيان يلبس الحشد لباس الدين (حدث وقع أكثر من مرة رجم أو حرق أفراد بتهم دينية غير مؤكدة)، وقد يأتي بتأثير عصبية عشائرية أو طائفية..الخ. وهكذا تتعدد الحوافز والدوافع التي تشكل الحشد، وكما يقول الكاتب رائد الدبس " وأياً تكن الفكرة التي يُساقُ القطيع من أجلها: أصولية دينية متطرفة، أم شمولية لا دينيّة متطرفة تدعي لنفسها صفة " الكلّويّة " والكمال، أم عرقية وطائفية منغلقة أو قبلية وإن اتخذت لنفسها أشكالاً حداثية، فإن القطيع هو القطيع وإن اختلف لونه .

قد يبدأ الحشد بالتجمع حول زعيم  طارئ أو مجموعة تشكلت لتحقيق أغراض واعية أو غير واعية تبدأ ببث صوتها أو تأثيرها إلى آخرين، وهذا ما تؤيده نظرية العدوى التي تقول بانتقال الحمُى من فرد لآخر. وقد يبدأ تشكل الحشد بناء على بروز قضية عامة أو شبه عامة، بصرف النظر عن مدى صحة المعلومات فيها، وهذا ما تقول به نظرية التقارب، أي تجمع الأفراد على أساس من تقارب الاهتمام.

  ظاهرة الحشد بدأت تزدهر الآن في مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا الفيس بوك، وقد ساعدت طبيعة تكنولوجيا الاتصال في تعزيز ظاهرة الحشد، فالتكنولوجيا توفر للفرد التخفي خلف شاشة ولا تظهر هويته الحقيقية، تماما كما في الحشد الواقعي الذي لا قيمة فيه للفرد أو لهويته، فالفرد يتنكر باسم مستعار إن رغب، وقد يفصح عن هويته لكن نادراً ما تتحقق الثقة بأي هوية بما في ذلك النجوم والمشاهير، وما أن تتجمع النواة الأولى للحشد حتى يبدأ الحشد بإطلاق طاقة غريبة أو مجال يشبه المجال الكهرومغناطيسي قد يجتذب المزيد من الأفراد والجماعات الصغيرة الأخرى مثلما قد يستبعد عناصر أخرى.

في ظاهرة الحشد أو القطيع يفقد الفرد فرديته ويذوب في كتلة غير متجانسة من الأفراد والأفكار والأجساد والأهداف فيبدو شخصاً آخر تماماً، فهو في الواقع عقلاني معتدل المشاعر والسلوك، أما في الحشد فهو انفعالي متطرف المشاعر والسلوك  .. في حشد مواقع التواصل الاجتماعي يستمد الفرد قيمته من مشاركته بالصراخ العالي الذي يتمثل في (Comments) والصور الرمزية التي قد تمثل سبابا وشتائم أو نصائح ومثاليات، أو في الهمهمة الخافتة التي تتمثل في (Like) وهي قد لا تعني شيئا محدداً، وذلك نرى بعضهم في مواقع التواصل الاجتماعي  يلبس ثوب الداعية لله وللوطن والأخلاق الحميدة، أو ثوب التطرف في المشاعر والأفكار والكلام.

في موقع الفيس بوك مثلاً، تتجمع الحشود حول نمطين من المحاور: الأول شخص أو أكثر يمثلون دور القيادة أو صوت الحشد، هؤلاء لديهم القدرة على التعبير عن رغبات الحشد الكامنة والظاهرة، وكلما أتقنوا التعبير عن الكامن كلما تجمع حولهم المزيد من العناصر لأن الكامن مُحمل بعديد التأويلات بينما الصريح محدد التأويل، ويتجلى هذا النمط في بعض الشخصيات السياسية والأدبية والإعلامية التي تستحوذ على متابعة فئات واسعة من مستخدمي الإنترنت، وكثير منهم يلبس ثياب الداعية والمصلح الاجتماعي أو الأخلاقي أو السياسي، مثلا صفحة الإعلامي فيصل القاسم تحظى بمتابعة ما يزيد عن (8,901,000) ليس لأن الصفحة توفر معلومات لا توفرها وسائل الإعلام الأخرى، بل لأن صوت منشورات الصفحة تداعب بعض الكوامن الفكرية والنفسية وتمثل رهانات جمعية، والنمط الثاني الذي يمثل بؤرة التجمع هو "قضية أو مجموعة قضايا" تعبر عن اتجاهات أو رغبات أو معتقدات، مثلا صفحة "كلنا خالد سعيد" التي أسهمت في إشعال الثورة المصرية، لم تكن لشخص معين أو محدد، بل قامت حول قضية تتجمع فيها الكثير من التأويلات الصريحة والكامنة، وقس مثل ذلك صفحة "محمود عباس لا يمثلني" التي ينشط فيها معارضون فلسطينيون، وصفحة "وينو البترول" التي انطلقت في تونس أواخر عام 2015 وفرضت نفسها على الوسطين السياسي والإعلامي.

إن الحشد سواء أكان في الواقع أم في مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يدفع نحو تحقيق نتائج إيجابية على مستوى القضايا الشعبية، كالضغط على الحكومة في اتجاه معين كما فعلت صفحة "كلنا خالد سعيد" أو " وينو البترول"، لكن الحشد قد يتدحرج إلى منزلقات النزعات الكامنة، والتوظيف المشبوه، وأقل ذلك هو صرف النظر عن القضايا الحقيقية التي تواجه المجتمع، ففي الوقت الذي كان فيه البرلمان الأردني يناقش عدداً من مشاريع القوانين الحساسة مثل قانون "اللامركزية" في أواخر العام 2015، فإن حشود الفيس بوك ظلت مستمرة في الاهتمام بمقطع من بضع دقائق على قناة رؤيا التلفزيونية حينما عد ذلك المقطع خادشاً للحياء، رغم أن المقطع التلفزيوني كان قد بث قبل شهرين قبل أن يبرز فيه الاهتمام بشكل مفاجئ؛ بعد أن أبرزه أحدهم على الفيس بوك؛ فثارت ثائرة الجماعات بزعم التقوى والأدب والحياء!!، وأظهر بعضهم نزعات طائفية ضد القناة على اعتبار أن صاحبها ومديرها مسيحي الديانة، ولأجل ذلك أنشئت صفحات على الفيس بوك كان منها "الحملة المليونية لإغلاق قناة رؤيا"، واستدعى ذلك الضغط تدخل "هيئة المرئي والمسموع" الحكومية لتحيل الفيديو إلى النائب العام للنظر في محتواه “غير الأخلاقي” كما وصفه الناشطون، أما حال الصفحة والمتعاطفين معها فلم يتجاوز بضعة آلاف بما فيهم المراقبين والفضوليين الذين انفضوا عنها بصمت، لهذا يمكن الاستنتاج أيضاً أن صوت الحشد كان أكبر من مجموع عدد أصوات أفراده.

الحصيلة، فإن الحشود على مواقع التواصل الاجتماعي قد تمارس دورها الايجابي في تنشيط المجال العام وفي تفعيل الرأي العام وإنضاجه ومراقبة الأعمال الحكومية، لكنها في الوقت نفسه قد تتصرف بديناميات الحشد وتنزع إلى الفوضى وإلى التعتيم على الأجندة الحقيقية للمجتمع وقد تسهم في تشويه وعيه بدرجة كبيرة، والأمر سيكون في غاية الخطورة في حالات وقوع أزمات حقيقية في المجتمع على خلفيات طائفية أو عرقية أو عشائرية، فلا أحد منا يستطيع التنبؤ بما سيؤول إليه دفع الحشود التي قد تنتقل من فضاء الإنترنت إلى فضاء الواقع.