ارتفع منسوب اهتمام وسائل الإعلام بانتفاضة فلسطينية جديدة بسبب ما تمر فيه الأرض الفلسطينية المحتلة (67) من أحداث، ويبدو أن هذه الوسائل تبحث عن انتفاضة وتريدها.
تطلق وسائل الإعلام على الانتفاضة "الجديدة" إن حصلت واستمرت الانتفاضة الثالثة. لكن في الحقيقة هذه ستكون الانتفاضة رقم 25 في التاريخ الفلسطيني منذ عام 1920. قام الشعب الفلسطيني بانتفاضات كثيرة ضد البريطاني والاحتلال الصهيوني، وسيستمر في ذلك ما دام الاحتلال جاثما على صدر الشعب الفلسطيني.
لا أدري لماذا يهتم السياسيون الفلسطينيون أو بعضهم ووسائل الإعلام المختلفة بانتفاضة جديدة، فهل يرون أنها ستكون المخرج من مأزق الاحتلال ووسيلة الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية؟ عندما ننظر إلى التاريخ، لا نجد انتفاضة فلسطينية واحدة أنتجت ما هو مطلوب فلسطينيا في حينه. كل انتفاضاتنا فاشلة، وبعضها نجم عنه نتائج سلبية على الشعب الفلسطيني مثل انتفاضة عام 1987 والتي توجتها القيادة الفلسطينية بالاعتراف بإسرائيل والتنسيق الأمني بعد ذلك.
هنا لا بد من التمييز بين الانتفاضة والمقاومة، فالانتفاضة أعمال احتجاج مثل قذف الحجارة وإصدار البيانات وإحراق إطارات السيارات والكتابة على الجدران... الخ، وإطلاق النار ليس عملا احتجاجيا وإنما هو عمل من أعمال المقاومة. بعض الانتفاضات الفلسطينية يتخللها إطلاق نار أو عمليات تفجير واستشهاد، لكن ذلك لم يشكل ظاهرة يومية لنقول إن المقاومة مشتعلة في فلسطين. الانتفاضة تحتج على ممارسات الجهة المسيطرة، والتي تتخذ إجراءات مؤلمة للناس وتضيّق عليهم وتنال من كرامتهم وتعطل أعمالهم اليومية، وهي ليست وسيلة تحرر وإنما وسيلة للتخفيف من الإجراءات القاسية ضد الناس. المحتج لا يضع في رأسه التخلص من الذي يكبته أو يقهره، وإنما يضع اهتماماته أمام القاهر وكل من يؤيدونه عساهم يأخذون مطالبه بعين الاعتبار. أي أن الاحتجاج يشكل وسيلة شد الانتباه وتحذيراا للمحتل أو المسيطر بأن الأمور قد تنفجر.
المقاومة تختلف عن الاحتجاج الذي يتميز عادة بوسائل سلمية أو شبه سلمية. المقاومة تشكل مواجهة صريحة وواضحة تهدف إلى التخلص من المحتل أو المسيطر، وهي لا تدخر في سبيل ذلك وسائل للمواجهة مهما كانت عنيفة. المقاومة رد فعل على فعل، ويهدف الذي يقوم برد الفعل إلى إلغاء مصدر الألم والقهر والتغلب عليه. وغالبا ما يتميز رد الفعل باستعمال الأساليب والوسائل ذاتها التي يستعملها المسيطر. فإذا كان الرصاص هو أحد أدوات المسيطر، فإن الذي يقاوم لا يتردد في استعمال الرصاص ما أمكنه.
المقاومة عدة مراتب، وتشكل المقاطعة بكافة أشكالها أولى مراتب المقاومة. يعمد الذي يصاب بالأذى إلى مقاطعة المحتل اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وتجاريا وعلميا...الخ، ولا يقيم مع خصمه أي علاقة سوى علاقة المواجهة. تتمثل المرتبة الثانية بالعصيان المدني الجزئي والذي يتضمن التمرد على بعض القوانين والتعليمات التي يسنها المحتل بهدف تعقيد قدراته على ملاحقة الناس. فمثلا يتوقف الناس عن ترخيص السيارات، أو يرفضون تدريس بعض المناهج في المدارس ويدرسون شيئا مختلفا عما يريده العدو.
وتتمثل المرتبة الثالثة بالعصيان المدني الكلي والذي يعني رفض الامتثال لكل قوانين الاحتلال وتعليماته، ويشكلون اللجان في مختلف التجمعات السكانية للإشراف على شؤون الناس اليومية وتنظيم التعاون فيما بينهم. أما المرتبة الرابعة فهي الكفاح المسلح. أي رفع السلاح في وجه العدو وخوض حرب شعبية ضده بهدف التحرير وتحقيق الاستقلال الوطني. وهذه المرتبة هي أشد ما يقهر العدو ويجبره على إعادة التفكير في إلحاق الظلم بالناس والانسحاب إلى حيث يلعق جراحه.
المؤسف في فلسطين أن المرتبة الأولى من مراتب المقاومة لم تتحقق بعد، وما زال الفلسطينيون بعد كل هذه السنوات الطويلة من الاحتلال يستهلكون البضائع الصهيونية، وإلى درجة أن نسبة لا بأس بها من الناس ما زالت تطلب من صاحب الحانوت البضاعة الصهيونية على حساب البضاعة العربية. أما فيما يتعلق بالمراتب الأخرى فلم يجرب الفلسطينيون العصيان المدني حتى الآن.
جربت بعض الفصائل الكفاح المسلح وقامت بعمليات عسكرية ضد العدو، وألحقت به الكثير من الخسائر. وقد كانت العمليات الاستشهادية أشد ما تعرض له الأمن الصهيوني إلى درجة أن العديد من الصهاينة اضطروا للهجرة من فلسطين المحتلة/48 خوفا على أنفسهم وطلبا للأمن والأمان. عاش الكيان الصهيوني على أعصابه أثناء العمليات الاستشهادية، وتوقفها أعاد له الشعور بالأمن. وعدم الاستمرار يشكل ظاهرة في التاريخ الفلسطيني من حيث إن الشعب يقدم التضحيات الجسام، لكن القيادات لا تصر على الاستمرار في المقاومة أو الاحتجاج وتدخل غالبا في مساومات خاسرة مع العدو. القيادات أجهضت إضراب عام 1936، وكذلك الثورة التي رافقته، والقيادات أجهضت انتفاضة عام 1987، وكذلك العمليات الاستشهادية التي تخللت انتفاضة الأقصى.
الزمن تجاوز الحجارة، ولم تعد الحجارة وسيلة نضالية للناضجين ثوريا والملتزمين بتحرير أوطانهم. والملاحظ أن الحجارة مكلفة جدا للشعب الفلسطيني لأنه يسقط له العديد من الشهداء والجرحى في حين يمكن أن يصاب بعض الجنود الصهاينة ببعض الحجارة. مؤخرا مثلا سقط في غزة سبعة شهداء بسبب الحجارة في حين لم يسقط للصهاينة أي جندي. هذه معادلة صعبة. في القتال هناك قاتل ومقتول في المواجهة العسكرية، لكن لا يجوز أن يكون طرف واحد هو المقتول والطرف.