كتاب عربي 21

تجدد الاستبداد وشروط التغيير

1300x600
إن إمعان الأنظمة الاستبدادية العربية في التشبث بالسلطة ورغبتها المحمومة في تأبيد الاستبداد، سواء عبر تزوير الانتخابات أو عبر القمع المنظم أو من خلال إشعال الحروب الأهلية والاستعانة بالأجنبي وبيع البلاد إلى كل طامع في التمدد والاستعمار، كلّها مؤشرات وطبقات جديدة تضاف إلى البناء المحدث والناسل فورا عن ثورات الربيع العربي. فكل المنوالات القمعية العربية قدّمت بعد الانفجار التونسي الكبير أوجها جديدة لإثبات قدرتها على التماسك وقدرتها على إحياء خلاياها الميتة من جديد وخاصة قدرتها على التجدد من داخل موجات التغيير نفسها والعودة إلى المشهد بنفس الوسائل والآليات التي أقصتها عن السلطة وأخرجتها من الحكم.

النظام القمعي القديم هو الطراز الأكثر وضوحا في أنظمة الحكم الشمولي، ويتمثل أساسا في قمع كل مطالب الحرية بشكل مباشر ودون وسائط أو ذرائع، بل يكتفي النظام الاستبدادي بتقديم نفسه على أنه الخيار الوحيد أمام شعبه. فقد نجح النظام الرسمي العربي في تفعيل كل الآليات القادرة على جعله الحاضر الوحيد في المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي والثقافي في بلاده بشكل يلغي كل الخيارات الأخرى القادرة على منافسته أو إرباكه. اليد الحديدية والقبضة الأمنية والعسكرية كانت الأداة المفضلة التي تمكنت من إسكات كل مطالب الحرية والتحرر واكتسحت كل المجالات الجاهزة لتحقيق أيّ تغيير نوعي في علاقة الحاكم بالمحكوم.

خاصية أخرى أساسية ساعدت النظام الاستبدادي العربي على الصمود طويلا خاصة في الحاضنة الشعبية المتوسطة والدنيا؛ وهي تقنية الإيهام حيث نجح في تمرير نفسه على أنه مُحقق لوظيفة الدولة صاحبة السيادة والقادرة على لعب أدوار وظيفية كدور المقاومة مثلا في سوريا أو دور المحارب للبرالية المتوحشة في ليبيا أو معارضة إسرائيل في مصر. وهي أدوار كشفت ثورات الربيع زيفها وأكدت أنها لا تعدو أن تكون أقنعة تسمح للنظام الاستبدادي بالتمديد في عمره وصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها البلاد. 

خاصية أخرى جوهرية نجح النظام الرسمي في تفعيلها عبر ترويض مختلف مدارس الايدولوجيا السياسية الكلاسيكية واختراقها وتحويلها إلى خادم مطيع لبرنامجه السياسي.  فكل أوجه المعارضة العربية التي كانت قائمة في المنطقة قبل الربيع بما فيها المعارضة الوطنية إنما كانت تتحرك داخل إطار الفعل الاستبدادي الذي يحدد مساراتها وردود أفعالها.

بل لقد نجح النظام الرسمي في توظيفها لصالح التمديد الزمني لبقائه في السلطة عبر آليتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في تحجيم المعارضة بالقدر الذي يسمح لها من جهة أولى بالإيهام بالتعددية السياسية وبتجميل وجه الاستبداد في الخارج دون السماح لها بتجاوز الخطوط المرسومة لها حتى لا تتحول إلى قوة سياسية حقيقية، أما الآلية الثانية فتتجسد في آلية القمع والتشويه التي شملت أساسا المعارضة الإسلامية في مصر وتونس وسوريا والجزائر، وهي آلية ساهمت في تفعيلها أخطاء الإسلاميين الفادحة حيث منحت الحاكم العربي  الفرصة تلو الأخرى من أجل ضرب كل أشكال التعبير بدءا بالجماعة المقاتلة في سوريا التي مكنت النظام من ارتكاب أبشع الجرائم في مدينة حماه وصولا إلى مجزرة رابعة في مصر مرورا بجرائم النظام في الجزائر خلال التسعينات.

ما جسده الربيع العربي أمام أعيننا هو أن كل أحزاب المعارضة والايدولوجيا السياسية لم تنجح طوال تاريخها في إنجاز نصف ما أنجزته الجماهير الثائرة في مصر وتونس وليبيا ولم تتمكن من إحداث التغيرات العميقة التي أحدثتها الشعوب الثائرة ضد الظلم والطغيان.

الأمرّ من ذلك هو أن كل المؤشرات تؤكد عجز هذه النخب الأيديولوجية عن إنجاح المسار الانتقالي وعن الوصول بالثورة ومطالبها إلى بر الأمان على الأقل كما حدث الأمر في مصر وفي تونس وفي سوريا وفي ليبيا أيضا لأن الصراع هناك كان صراع نخب سياسية على المناصب وعلى السلطة ولم يكن صراع برامج ورؤى وتصورات.

اليوم تتجدد الرهانات مرّة أخرى وتتجدد مطالب البحث عن البدائل الممكنة من أجل الخروج من المأزق الكبير الذي يؤذن بإعادة إنتاج الاستبداد بسبب تكالب القوى الخارجية من جهة وبسبب قابلية المنطقة العربية المتواصلة للخضوع للحاكم المستبد.

قد يكون فعل سنوات الجدب التي أعقبت مرحلة الاستقلال الوهمي بعد خروج الاستعمار خلال النصف الأول من القرن الماضي سببا أساسيا في خلق الأرضية التي نما عليها الاستبداد العربي وترعرع لكنها سنوات لا تنفي مسؤولية النخب العربية وعجزها عن تفعيل مرحلة التأسيس الواعي لنهضة حقيقية مثلما فعلت أمم أخرى غير بعيدة عنا كتركيا التي عانت عقودا من سطوة العسكر ومن حمى الانقلابات.

شروط التغيير الحقيقية تمرّ أولا بإعادة قراءة المشهد من حولنا على ضوء المتغيرات التي أحدثتها الثورات الأخيرة واستخلاص الدروس التي كان على رأسها زيف الأيدولوجيا السياسية من جهة وقدرة الإنسان الفرد على إحداث الفارق في التوازن بين المستبد وشعبه من جهة ثانية.

 هذا الإنسان المجرّد من كل المطالب غير مطلب الحرية هو الوحيد القادر في المستقبل على تجديد شروط النهضة وتفعيل آليات التحول من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة المسار الموصل ولو بعد حين إلى مجال أكثر اعترافا بكرامة الإنسان العربي وبحريته.