كتاب عربي 21

إنهم قادمون! على من سيأتي الدور؟

1300x600
في واحدة من آخر خرجاته الإعلامية المثيرة، حل روبير مينار، عمدة مدينة بيزييه الفرنسية، مرتديا وشاح العمودية الرسمي مصطحبا معه نخبا ورجال شرطة في منزل يؤوي أسرة سورية لاجئة ليعلنها صريحة: إنكم غير مرحب بكم في هذه المدينة. وكانت تهمة الأسرة احتلال المسكن بشكل غير قانوني. لم يتحقق مسعى مينار تحت ضغط جمعيات حضرت إلى المكان لمنع الإخلاء في غياب حكم قضائي. يدعي روبير مينار عدم الانتماء لحزب الجبهة الوطنية اليميني رغم أن تحالفه مع مستشاريه هو ما أوصله للمنصب، بعد أن فشل في العودة إلى الساحة الإعلامية الفرنسية واكتفى بموقع إلكتروني أسماه "بولفار فولتير".

ومينار، لمن لا يعرفه، كان لسنوات رئيسا لمؤسسة "مراسلون بلا حدود" التي قدم من خلالها الدروس في الحرية وحق التعبير وغيرها من مبادئ الحق الإنساني لكثير من دول العالم ومنها دولنا العربية. لكن الرجل انقلب كليا على "تاريخه النضالي" وصار مجرد دمية تحركها أيديولوجيا اليمين المتطرف الفرنسي.

مينار، وبعد أن أعلن قبل أشهر في لقاء تلفزيوني أن النسبة الأكبر لتلاميذ مدارس مدينته من المسلمين، اعتمادا على أسمائهم التي اطلع عليها كعمدة، دون سند قانوني، لم يجد غير تعبير "إنهم قادمون" ليضمنه غلاف العدد الأخير من مجلة المدينة على صورة لاجئين سوريين يتدافعون لركوب قطار، تحذيرا من "غزو قادم من الشرق".

ليس جديدا على الساحة الأوربية، في عمومها، هذا الاستغلال السياسوي لمآسي الدول والأفراد والمتاجرة الانتخابية بها. ففي السنوات الماضية، شكل المتوسط المعبر الرئيسي للهجرة واللجوء في مواجهة تحصينات أوروبا التي حولت ضفتيه الجنوبية والشرقية إلى حائط صد متقدم في مواجهة "الزحف الإفريقي"، و"مقابر الأرقام" المنسية بجنوب إسبانيا دليل على ضمير إنساني يحتضر منذئد.

في قاعة طالبي اللجوء من فيلم "غلطة فولتير" للمخرج عبد اللطيف قشيش المنتج سنة 2000، يجلس جلال واثنين من معارفه يتدارسون الطريقة المثلى للتأثير على قرار موظف يملك السلطة التقديرية لقبول طلب اللجوء أو رفضه حسب "هواه".

جلال (وهو يقرأ من نموذج طلب اللجوء): لماذا غادرت بلدك؟ لماذا اخترت فرنسا؟ ما هذه الأسئلة؟

القريب: هم  يسألون لمَ غادرت بلدك؟

جلال: للمجيء إلى فرنسا.

القريب: لا. هم يسألون عن السبب.

جلال: بحثا عن العمل والمال. هذا أمر طبيعي.

القريب: هل جننت؟ إياك أن تحدثهم عن العمل فلديهم خمسة ملايين عاطل. أنت طالب لجوء سياسي. عليك إدعاء اضطهادك من طرف حكومة بلدك.

جلال: أبدا يا أخي. لست مستغنيا عن روحي.

القريب: قل لهم أنك جزائري. هل يتعاملون بشكل أفضل مع الجزائريين. لا تزال عقدة ذنب ما فعلوه بالجزائر تطاردهم حتى اليوم. ولا تنس أن تحدثهم عن فرنسا الحريات وفولتير وحقوق الإنسان، عن الحرية والمساواة والأخوة وكل هذا الكلام. هم يحبون ذلك كثيرا فهم يعتقدون أنهم من اخترع الحرية.
وكذلك كان... وحصل جلال على تصريح إقامة مؤقت في انتظار دراسة ملفه، وهو التونسي الجنسية المضطر لانتحال هوية أخرى طمعا في العيش بأمان. ويا ليته نال مراده فقد وجد نفسه بعدها في طائرة ترحيل.

بعدها بأربع عشرة سنة كاملة، وفي قاعة مماثلة لطالبي اللجوء، من فيلم "سامبا" للمخرجين أوليفير ناكاتشي وإيريك توليدانو، مجموعة طاولات موزعة في المكان.

موظفة 1: اذن أن تسكن عند أحد الأشخاص. لكنني  احتاج اسمه. إن كنت مثلا تسكن عند السيد... دوفال سنكتب السيد دوفال.

لاجىء 1 (بكل هدوء) : بالضبط ، عند السيد دوفال.

موظفة 1 (مستغربة) : انت تسكن عند السيد دوفال؟

لاجىء 1: نعم.

موظفة 2: يا سيد جبلي، أنت لم تصل فرنسا عبر حافلة. الكناري جزيرة ولا يمكن أن تقطع البحر بحافلة، وإلا فهي حافلة مميزة.

السيد جبلي: بالضبط، لقد جئت في حافلة مميزة.

وفي مشهد آخر، يجلس المهاجر السنغالي سامبا بجانب ويلسون "البرازيلي" بعد أن انكشف أمره وتحدث بالعربية في لحظة خوف من مطاردة الشرطة لهما.

سامبا: وما هي عاصمة البرازيل بالنسبة إليك؟

ويلسون: الجزائر. أنا اسمي وليد.

سامبا: ولمَ اخترت التخفي باسم ويلسون؟

وليد: الجنسية البرازيلية تفتح لك آفاقا أوسع في الحصول على عمل أو علاقات نسائية.

في العام 2015، لم يعد كثير من اللاجئين المتدفقين على الحدود الشرقية الأوربية يحتاجون إخفاء أسمائهم أو جنسياتهم فلحظات وصولهم صارت مادة أساسية في نشرات الأخبار إلى حين. لكنهم لا يزالون في حاجة لاختلاق القصص الأقرب إلى ذهنية الأوربيين الذين لم يعودوا يفرقون بين لاجئ هارب من حرب أهلية مدمرة و"متسلل داعشي" يسعى لاختراق الحواجز الأمنية تحت غطاء اللجوء. أوروبا في الحالتين خائفة من "الغزو الإسلامي" ومن الخطر القادم من الشرق. لأجل ذلك يسارع كثيرون منهم ل"تغيير" ديانتهم علها تكون وسيلة إقناع من بين أخرى على حسن النية والرغبة في العيش بأمان واندماج في المجتمع الجديد.

في الأيام الأخيرة تسرب مقطع مصور للشرطة المجرية وهي توزع الطعام على عدد من اللاجئين بطريقة اعتبرت مهينة وأقرب ما تكون إلى رمي الطعام للحيوانات. قد لا يكون الأمر جديدا، لكنها كاميرا الهواتف النقالة صارت مشاعا فامتلكها الناس لتوثيق اللحظات. هذا الذي تغير في الحقيقة، أما الحقارة الإنسانية والنظرة الاستعلائية إلى من هم في وضع أهش فطبيعة إنسانية كانت ولا تزال وستبقى.

على الجانب الآخر يترامى اللاجئون على انجيلا ميركل ويتسابقون لالتقاط صور سيلفي معها، وهي توزع الأمل "الكاذب" أو "المؤجل" حتى يستقر قادة أوربا على توزيع، يريده الكبار بالتساوي، لأعداد محددة من طالبي اللجوء. نسي كثيرون دموع الطفلة الفلسطينية ريم التي انهمرت بعد سخرية المستشارة من سؤال لها عن مستقبل هؤلاء اللاجئين ذاتهم قبل أسابيع فقط.

في مؤسسة احتجاز المهاجرين المهددين بالترحيل المشيدة على مقربة من مطار مدني لتقريب المرحلين المفترضين من "طائراتهم"، التقى سامبا بالمهاجر الكونغولي "جوناس".

جوناس: لقد استغرق مني الوصول إلى هنا مدة سنتين.غادرت في عز الحرب الأهلية. قطعت آلاف الكيلومترات عبر الصحراء، وعبرت دولا كثيرة ليتم اعتقالي هنا. هذا أمر غبي.

أيمكن التفريق بين هذا الكلام وتصريحات اللاجئين السوريين؟ هي الحكاية تعاد مرة أخرى  وبنفس التفاصيل أمام سمع وبصر عالم "متقدم" أمعن في تجاهل الأزمة منذ بداياتها، كما اقترف في السابق في مناطق أخرى من العالم، وهي التي كانت بوادرها تشي بانفلات غير مسبوق.

حصل جوناس على بطاقة اللاجئ السياسي. وعلى إثر شجار ومطاردة أعقبت تصفية حساب بينه وبين سامبا بسبب امرأة، مات جوناس غرقا لكن بطاقته بقيت مع سامبا فقد استبدلا السترات قبلها. هكذا صار سامبا حاملا لهوية جوناس بأمر الواقع، واستطاع العمل بثكنة عسكرية فرنسية. 

سامبا (موجها كلامه لأليس): أخاف أن أنسى يوما من أكون.

أليس: اهتف باسمك الحقيقي ولا تخف، فمن حولك سيعتقدون أنك تهتف باسم الرقصة البرازيلية.
أهلا بكم في عالم المنتحلين.

بعد خمس عشرة سنة أخرى، أتراه سيتكرر مشهد غرفة طالبي اللجوء بطاولات موزعة وموظفات يستمعن لحكايا أغرب من الخيال؟ الخيال الذي كان دوما فسحة الأمل من واقع لا نراه يزداد إلا  قتامة يوما عن يوم. 

ليبقى السؤال: على من سيأتي الدور؟