كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء في يوم السابع من مارس في عام ألفين واثني عشر حين عبرت الحافلة التي تقلنا معبر رفح من الجانب
المصري إلى الجانب الفلسطيني، بعد مؤتمر الاستقبال ذهبنا إلى مكان السكن الذي نبيت فيه وسط مدينة غزة.
وهنا كان المشهد الأول:
وقت تناول العشاء وقفت إلى جوار إبراهيم صديقي الفلسطيني في شرفة الطابق العلوي في المطعم لأشاهد سماء غزة تنير بقصف على فترات من طائرات الكيان الصهيوني، وعلى مرمى بصري كانت هناك أماكن مظلمة تشير إلى انقطاع التيار الكهربائي عن أماكن كثيرة في قطاع غزة، وأمامي مباشرة رأيت ملعبا لكرة القدم وأصوات ضحكات تتصاعد مع كل هدف يحرزه فريق من مجموعة شباب كانوا يتناقلون الكرة.
كانت عيناي تراقب المشاهد الثلاثة مجتمعة، وانتقل بنظري بينهم مسرعا، ولا أفهم كيف لهؤلاء أن تجتمع عليهم هذه الظروف، ثم يحاولون أن يجعلوا معيشتهم أقرب إلى الطبيعة يلعبون الكرة هنا، ويتسامرون هناك، ويقاومون تارة ويواجهون ويلات العدوان تارة أخرى؟؟
أفقت على صوت انفجار جديد وقصف كان قريبا من المكان الذي نسكن فيه، فنزلت بجسدي إلى الأسفل، وإذ بيد إبراهيم تحملني إلى الأعلى لأقف مرة أخرى في الشرفة وأجده هادئا مبتسما يربت على كتفي، ويقول: لا تخف، وابتسم، أهلا بك في غزة يا صديقي.
على مدار أسبوع كامل عايشت فيه أهل غزة كنت أحاول أن أجد إجابة على سؤالي الأول، كنت أبحث عن تفسير منطقي لهذه الحالة التي كنت أراها متناقضة، كيف لقوم يواجهون هذا الحصار يسقط منهم يوميا شهداء من نساء وأطفال وشيوخ، تئن مستشفياتهم من انقطاع الكهرباء تارة، ومن نقص الآلات والمعدات والإمكانيات تارة أخرى، ثم أجدهم يضحكون في الشوارع، يزينون جدرانهم بالجرافيتي بكلمات عن النصر والصمود وصور لشهدائهم وأسراهم في كل مكان.
جاءت الإجابة سريعة في اليوم الثالث ذهبوا بنا مع وفد من وزارة الزراعة إلى هناك حيث مشروع المليون شجرة وهنا سنتوقف قليلا لنلتقط الأنفاس، ما هذا المكان هو مكان للمستوطنات الصهيونية، يسمونها في غزة المحررات، هذه المنطقة أعادوا استصلاحها مرة أخرى بعد أن جرفها الصهاينة قبيل طردهم من غزة وأنشأوا مشروعا لزراعة مليون شجرة.
ليلا، ذهبنا إلى عزاء عائلة استشهد من أفرادها خمسة شباب صباح اليوم، فوجدنا مكانا كبيرا أمام المنزل أقيمت فيه الزينة وإضاءات توحي بأننا في عرس كبير، توجسنا خيفة، ونظرنا إلى بعضنا، وسألنا المرافقين لنا هل جئتم بنا للمكان الخطأ، فقالوا لا، ولكن هذه هنا نسميها أعراس الشهداء، دخلنا فوجدنا والد الشهداء مبتسما ضاحكا يداعب طفله الصغير، فذهبنا نعزيه، وكعادتنا ارتسمت على وجوهنا علامات الحزن لنستحضر هذا الجو الكربلائي و لنقدم واجب العزاء...
فوجدنا الرجل ينظر إلينا ويضحك ويعاتبنا، قائلا: "ابتسموا ذهب خمسة من أبنائي إلى الجنة، وبقي لدي هذا، ورفع يد طفله، وسيذهب بإذن الله، تعجبنا، فقال مبتسما: لا تتعجبوا، وابتسموا، أهلا بكم في غزة يا أصدقائي".
ذهولنا ودهشتنا وانبهارنا في هذه الرحلة لخصته سيدة مصرية كانت معنا في هذه القافلة، قالت كلمة في لقائنا بإسماعيل هنية أبو العبد رئيس الوزراء في هذا التوقيت:
"جئنا لنخفف عنكم ونتعلم منكم فن صناعة الموت في سبيل الله، فوجدناكم قوما تجيدون فن صناعة الحياة".
فرد هنية قائلا: "انقلوها للعالم أجمع، فبرغم الألم نحيا بالأمل، ومن قلب الحصار سيأتي الانتصار، وابتسم للجميع وودعهم".
إذا فهذا هو بيت القصيد، هم يجيدون صناعة الحياة من قلب أعراس الشهداء وجنائزهم، هم يضحكون في غزة برغم أنهار الحزن المتواصل، هم يسبحون في شواطئها يلعبون الكرة ليلا أثناء القصف المتواصل، لم أجد منهم من يمشي مطأطئا رأسه يائسا بائسا، إذا نظر لأحدهم وهو يضحك لأمه أو وبخه، لا والله، بل وجدتهم ضاحكين مستبشرين بنصر قريب يهون بعضهم على بعضا مرارة الحصار وخيانة بعض حكام العرب وخذلان الأشقاء والشعوب المسلمة.
اكتب كلماتي هذه قبيل الذكرى الثانية من أكبر مذبحة في التاريخ المصري الحديث "مذبحة رابعة والنهضة".
أبدعوا في فن صناعة الحياة، لا تنشروا الكربلائيات وتستمتعوا بالبكاء من ذوي الشهداء والمعتقلين والمصابين والمطاردين أيضا.
أروهم قوة منكم في هذا اليوم، هونوا على بعضكم البعض ذكرى هذا اليوم، قولوا لهم كما قال لي إبراهيم وأبو الشهداء الخمسة: إن جاءكم أيهم معزيا باكيا نائحا مستأجرا فعاتبوه بابتسامتكم: وأخبروه أن ابتسم يا صديقي فنحن سنبتسم.
نعم، انشروا ما حدث وتحدثوا عنه، ولكن انشروا معه صوركم في هذا اليوم مع مظهر من مظاهر القوة، إن كانت قوتكم في صورة مع ابتسامة فبها، وان كانت قوتكم في مقطع مصور أو مداخلة تلفزيونية، فلا ترددوا، وإن كانت قوتكم في صورة مع أبنائي الشهيد وبناته فيها.
من كان في رابعة أو تعاطف معها، وعمل سياسيا أو إعلاميا، أو كان رمزا من رموز العمل العام، فليصنع لهؤلاء الحياة، فليقدم لهم نماذج للقوة حتى وان كانت معنوية.
لن تعيد الكربلائيات شهيدا، ولن تصنع البكائيات نصرا، فاصنعوا الحياة، واستجلبوا النصر من الله أولا ثم بقوتكم ثانيا.
وابتسموا في الذكرى الثانية لرابعة والنهضة.