في
الاردن فقط، تبرز جملة اعتراضية من الملك شخصيا، تحاول لفت نظر اعضاء مجلس النواب إلى انهم يبالغون في الغياب عن الجلسات والاجتماعات وبصورة تعرقل وتعطل العمل التشريعي.
في الاردن فقط قد يتغيب اكثر من 50% من نواب الامة وممثلي الشعب عن حضور اجتماع مهم لاغراض تشريعية او رقابية، بينما وللاسف الشديد يمكن جمع الغالبية الساحقة من النواب والنخب والصحافيين على مائدة
منسف بدون مناسبة يقترحها أحد الوجهاء او المتملقين او رجال الاعمال او المتقاعدين الباحثين عن مستقبل ما.
للمنسف تحديدا -وهو طعام شعبي شهير لمن لا يعرفه- تأثير ساحر على النخب وعلى ضعف العمليات التابعة لمئات النخب المنشغلة بشيء غير محدد.
مأدبة مناسف واحدة وبدون مناسبة حقيقية يمكنها ان تجمع أبرز قيادات الصف الأول في المجتمع اكثر من اي قضية وطنية او اقليمية او حتى انسانية، ومن يجتمعون حول سحر المناسف يحاولون تفعيل قيمة النميمة النخبوية او تجنب الغياب حتى لا يصبحوا هدفا للنميمة نفسها.
احدهم من الزملاء الساخرين سألني مرة عن الخسارة الفادحة التي ستصيب البلاد وتعطل الدولة اذا ما حدث مكروه لا سمح الله بعد تحشد القوم معا في ساحة واحدة لالتهام الطعام الشعبي اللذيذ.
غريب جدا أن موائد العشاء او الغداء خصوصا اذا كانت برلمانية يمكنها ان تحشد أغلبية ساحقة في الحضور حتى بعد الاخفاق صباح نفس اليوم في عقد جلسة لتشريع مهم يؤثر في مستقبل الأردنيين.
بكل الأحوال أصبح التغيب عن حضور الجلسات موضة طبيعية، فعدد النواب كبير بعدما قفز في التعديل الاخير في قانون الانتخاب من 120 ـ 150.. تلك قفزة لم تكن محسوبة على معيار التعقل السياسي، فمع هلامية الكتل وعدم وجود احزاب تبين لاصحاب القرار بانهم في الواقع يواجهون 150 حزبا فكل نائب لديه هوى وطموح وكل عضو في البرلمان يعتقد انه ملأ الدنيا وملك الناس دون ان يترافق ذلك مع بصمات حقيقية في الواقع السياسي والوطني العام.
عشرات الجلسات اخفقت والنواب يتمتعون بحساسية مفرطة عندما يتعلق الامر بانتقادهم او الملاحظة عليهم وهم بكل الاحوال ليسوا مسؤولين عن كارثة التحول الديمقراطي بل ضحاياه على نحو او آخر، فالصدفة خدمت الكثيرين منهم، والعمل السياسي والوطني لم يكن رافعة العديدين، والتمثيل العشائري قفز بعشرات النواب إلى الواجهة دون اي خبرات في التشريع او تفاعل مع ثقافة الرقابة.
الجميع من القمة إلى قاعدة في المجتمع يشتكي من النواب في الاردن، ويتحدث عن ضعف الاداء وخمول المؤسسة التشريعية كحلقة وسيطة وشعور غالبية الناس بتراجع تمثيلهم السياسي والوطني.
والجميع يتحدث عن ضخامة عدد النواب وعن ندرة التمثيل المسيس بينهم، وعن وجود مأزق حقيقي في العمل الفني داخل اللجان، وبالنتيجة عن اخطاء تشريعية ينبغي ان لا تحصل، وارتجال في الاداء الرقابي وممارسات فردية ترقى إلى مستوى ابتزاز الوزراء والمسؤولين احيانا.
الجميع يتذمر في الاردن من شخصنة استعمال بعض النواب للصلاحيات الدستورية، ومن الضغوط الشخصية والجهوية التي تمارس ضد الحكومة.
بين الجميع لا يوجد حتى اللحظة من يسعى لتشخيص الحالة بدقة، فالنواب الحاليون لا يمكنهم ان يكونوا سببا في مشكلة، بل هم ضحايا وصفة سياسية امنية سقيمة انتجت كل المشكلات التي تقلق الجميع الآن، وتدفع القيادة العليا لمخاطبة النواب في مسألة بسيطة ومبدئية فكرتها حضور الجلسات والقيام بالواجب والعمل. لا يمكن لوم النائب الذي قفز لموقعه بالصدفة او عبر العبث في الانتخابات او عبر نظام التفكيك والتزبيط هنا وهناك.
ولا يمكن توجيه اللوم لبرلماني مؤهله الوحيد معادلة العشيرة والقبيلة اضافة إلى جيوبه المنتفخة فنظام الانتخاب الذي افرز أصلا تركيبة ونوعية النواب نظام متخلف ومشوه، ومن صاغه يعلم مسبقا بانه يؤدي بالنتيجة إلى اقصاء المكون العلمي والمسيس من الطبقة البرلمانية، كما يعلم بانه نظام يعلي من شأن التمثيل العشائري والجهوي على حساب الاجتماعي والثقافي والوطني.
قانون الانتخاب القائم لا يمكنه بحال من الاحوال توفير مؤسسة فاعلة وطنية للبرلمان تدفع الرأي العام للاسترخاء ومؤسسة الحكم للانشغال بما هو اهم وملحقات هذا القانون من انظمة وتعليمات تجعل من الصعب تماما مغادرة مدرسة المنسف في التفكير السياسي النخبوي الاردني، وهي المدرسة التي لا زالت فيما يبدو تحكم طبقة النخبة عندما يتعلق الامر بالتمثيل بدليل ان احد المرشحين للانتخابات ابلغني شخصيا بانه وفي موسم الدعاية الانتخابية احتاط بتخزين اطنان من اللحوم لاعداد المناسف للناخبين.
لو كنت مكان المسؤولين في الدولة الاردنية لتوقفت عن توجيه اللوم والملاحظات للنواب، فهم ضحايا بكل ما تعنيه الكلمة للفكرة المشوهة عن التمثيل السياسي والشعبي، فقوانين الانتخاب وانظمتها انطلقت اصلا من هواجس متعددة مريضة ومختلة تبدأ من الوطن البديل وتنتهي عند سيطرة الاخوان المسلمين وتمر بفوبيا الاحزاب، مما جعل التجربة البرلمانية الاردنية خصوصا في ظل سيطرة ثقافة تزوير الانتخابات فريدة جدا من نوعها ولا يوجد لها مثيل في العالم المتحضر الديمقراطي، لأن السلطة التي ترعى الانتخابات في كل موسم تسهر وتحرص على انتاج برلمانيين من ثلاث فئات لا رابع لها:
الفئة الاولى هي موظفو الدولة السابقون وهنا تقفز المؤسسة بأولادها نفسهم إلى الواجهة، اما الفئة الثانية فتشمل الضعفاء غير المسيسين الذين يمكن دوما السيطرة عليهم عبر نظام الخدمات، اما الفئة الثالثة فتشمل الخبراء والمسيسين الذين تنحصر وظيفتهم في اقناع الشعب والعالم وانفسهم بأن ما جرى ويجري هو انتخابات حقيقية وتحول ديمقراطي.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)