كتاب عربي 21

حول جدل السلمية والسلاح في مصر

1300x600
لا خلاف بين من كانوا منحازين لثورة يناير (باستثناء حفنة لم تغادر مربع الحقد وتصفية الحسابات) على أن ما جرى هو انقلاب عسكري على ثورة بكل ما تحمله كلمة الانقلاب من معنى، وهو يحاكي كما ذهب علاء الأسواني -بعد نصف صحوة متأخرة- ما جرى للثورة الرومانية بعد إطاحتها بتشاوشيسكو.

ولا خلاف على أن مستوى القمع الذي ووجهت به احتجاجات ما بعد الثورة هو من اللون الدموي الذي لا يرحم، وهو مسلسل لم يتوقف فصولا بعد، لكن سؤال الرد على ذلك كله هو الذي يحتاج إلى توقف، وسط دعوات من قبل بعض الشبان إلى انتهاج سبيل العنف والسلاح في الرد على ذلك، بل وسط ملامح انجرار نحو هذا المسار من قبل بعض شبان الإخوان، فضلا عن قوىً أخرى، وهي دعوات ينطوي بعضها على اتهام دعاة السلمية بالجبن، مع أن الإصرار على السلمية ضد العنف يحتاج من الشجاعة أضعاف ما يحتاجه السلاح.

أما القول بأن ما يجري هو استخدام لبعض أدوات العنف المحدود مثل الحجارة والمولوتوف، أو حرق بعض سيارات الشرطة، وما إلى ذلك، وفق نظرية أن ما دون الرصاص هو عمل سلمي، فلا يمكن أن يكون منطقيا لسبب بسيط هو أن تدحرج مثل هذه الأعمال إلى السلاح والتفجيرات سيكون مسألة وقت لا أكثر.

ثمة بالطبع عمليات تفجير وإطلاق رصاص كثيرة وقعت خلال العامين الماضيين، إن كان في سيناء، أم في مدن أخرى، وهذه لها جهات تنفذها وتعلن مسؤوليتها، واتهام الإخوان بها هو من باب السخف الانقلابي لا أكثر.

ثمة بالطبع بعض الأعمال التي تثور حولها بعض التساؤلات، وهناك منطق في التشكيك بها تبعا لسيرة أجهزة الأمن في تنفيذ أعمال لأهداف سياسية. والحق أنه حين تكون البوصلة خاطئة يسهل الاختراق، ويسهل التوجيه، ويمكن أيضا بعد ذلك تسهيل استخدام أعمال العنف من أجل تشويه الجهات المستهدفة، لكن حين تكون البوصلة واضحة، فإن الاختراق لا يمكن أن يفعل شيئا خلا التجسس وتحصيل المعلومات، وهذا لا يبدو ضرره كبيرا.

في مصر الآن تنظيم يسمى "أنصار بيت المقدس" تحوّل إلى "ولاية سيناء" التابعة للدولة الإسلامية، يتبنى التفجيرات، وهو تنظيم بدأ في سيناء. والمظالم التي يتعرض لها أهالي تلك المنطقة، ومعها القمع غير المنضبط لهم، وصولا إلى قصفهم بالطائرات، وفّرت له حاضنة شعبية، إلى جانب الانتشار النسبي لفكر السلفية الجهادية. يضاف إلى ذلك تنظيم أقل حضورا هو "أجناد مصر"، كما بدأت تظهر مجموعات أخرى بأسماء عديدة.

ولكن لماذا نرى أن مسار السلاح عبثي في مصر، ولا أفق له؟ سؤال يستحق الإجابة بشيء من التفصيل، وهو هنا موجّه إلى الحالة الإخوانية، لأن المجموعات الأخرى لن تستمع لأنها بدأت فعلها ولن تتوقف ما بقيت لديها القدرة على الفعل، وما توفرت لديها القناعة بالجدوى.

ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن ثمة انقساما في المجتمع المصري، قبل الثورة وبعده، وفي الموقف من الانقلاب أيضا، وهناك من انطلت عليهم قصة "ثورة 30 يونيو"، وهناك من لهم موقف منحاز أيضا، مما يعني بكل بساطة أن العنف لا يملك حاضنة شعبية كافية لإيقاع هزيمة بالنظام، وإن تكن هزيمته صعبة أيضا، تبعا لوجود قدر من التقبل الشعبي له.

ثمة ميزان قوىً مختل بشكل كبير لصالح النظام، ففي الداخل معه الجيش والأمن والقضاء والإعلام، وجزء معتبر من الشارع لاعتبارات عديدة (طائفية وحزبية ونتاج تضليل)، وفي الخارج يجتمع العالم على دعمه بكل تناقضاته (أمريكا والغرب، وروسيا، والصين، وحتى إيران)، على تفاوت في الدعم، مع استثناءات محدودة لا تؤثر عليه، وبعضها قد لا يستمر تبعا لحسابات سياسية مختلفة.

والنتيجة أن فرصة العنف المسلح في تحقيق حسم مع الانقلاب تبدو معدومة في ظل هذه المعادلة. 
نقول ذلك مع أن العنف في مواجهة وضع من هذا النوع ليس من نهج الإخوان، وهم حسموا موقفهم منه منذ عقود، ومن العبث أن يعودوا إليه، في وقت لا يملك أي أفق للتغيير، بصرف النظر عن نقاش أسسه الفكرية التي لم تحسم طوال القرون (مسألة الخروج على حكام الجور)، والخروج هنا لا يستتبع التكفير بالضرورة.

لا يمكن للعنف المسلح أن ينجح من دون حاضنة شعبية كافية، ودعم خارجي، مقابل وضع ضعيف في الطرف الآخر، وهنا في الحالة المصرية لا يبدو أي من ذلك متوفرا. وليتذكر الجميع أن أكثر العسكر في مصر والشرطة من أبناء الغلابى، وهؤلاء هم الحاضنة الشعبية للإخوان، وحين يسقط أبناؤهم في الصراع فسينتقلون إلى المربع الآخر، كما أن العنف التفجيري الذي سينتشر لا يمكن إلا أن يصيب مدنيين، وهذا سيستغل أيضا في ضرب الشعبية.

لذلك كله، ومع أننا نتفهم حرقة الشباب على ما يجري، وما ينطوي عليه من ظلم وقتل وشيطنة وانتهاك لكل المحرمات، ونتوقع تبعا لذلك أن يذهب بعضهم في اتجاه العنف، إلا أننا ومن منطلق الحرص عليهم، وعلى مصر وأهلها ومستقبلها، نقول إن العنف هنا عبثي بامتياز ولا طائل منه، ونتيجته معروفة. أما من يتحدث عن القتل والاغتصاب، فنقول له إن مسار العنف سيضاعف هذه الممارسات عشرات الأضعاف.

ويبقى الحل الأفضل هو أن يجري (بدأ فعلا) تجميع الناس من حول فكرة النضال السلمي لمواجهة دولة بوليسية فاسدة تستهدف الجميع، وهي مرحلة قد تطول، وقد تتوقف وتتواصل بناء على قراءة للظروف الموضوعية، ولا شك أن التوقعات الكبيرة من السيسي وتمخض المشهد عن دولة بوليسية فاسدة، تستعيد لصوص نظام مبارك، لن تلبث أن تستفز الجماهير بمرور الوقت.

سيستغرق نضال من هذا النوع وقتا قد يطول حتى يحقق النتيجة المأمولة، لكنه أكثر جدوى من الخيار الآخر الذي سيدفع الناس الآخرين إلى الالتفاف من حول الطغمة الحاكمة والتنازل عن الحرية من أجل الأمن والاستقرار، وسيتيح للنظام التهرب من تبرير فشله على كل صعيد. 

وما ينبغي أن يلتفت إليه المعنيون في هذا السياق، إضافة إلى عشرية الجزائر المرة، فضلا عن تجرية مصر نفسها في الثمانينيات والتسعينيات، يتمثل في تجربة إخوان سوريا مطلع الثمانينيات، وحيث جرّت مجموعات متحمسة بقية الجماعة إلى مواجهة لم يكن لها أي أفق وفق موازين القوى والظروف السياسية المحيطة في ذلك الوقت.

السياسة والحروب ليست ثارات قبلية تندفع الجماعات وراءها دون وعي، بل هي تقدير دقيق لموازين القوى والظروف الموضوعية، وحمل السلاح دون ذلك مهلكة، حتى لو امتلك مبرراته الشرعية، فضلا عن أنه ينطوي على قدر من الإشكال على هذا الصعيد في ظل الانقسام المجتمعي حول الوضع القائم.
والنتيجة أن تحكيم معادلة المصالح والمفاسد وفق تقدير دقيق لموازين القوى هو الذي ينبغي أن يحكم أي حراك في أي اتجاه كان، وهنا في الحالة المصرية لا أفق لخيار السلاح، بل إن ضرره سيكون كبيرا على حامليه وعلى البلد برمته.

في لحظة تاريخية معينة، قد لا يتوفر لجماعات التغيير أي أفق قريب للانتصار بأية وسيلة، وهنا يكفيها الصبر والصمود، وربما تأوي إلى الظل بعض الوقت بحسب الظروف المتاحة، لكن أسوأ مسار يمكن أن تسير فيه هو اختيارها سبيل السلاح في وقت لا أفق له فيه بأي حال.