بإمكانك أن تتفق مع
زياد أبو عين حياً أو تختلف معه إلى النهاية، لكن الحقيقة المستجدة اليوم تقول إنه قضى على يد جنود الاحتلال، في مواجهة معهم على
غراس الزيتون في أرضٍ محتلة وفي مواجهة
الجدار، ولا يمكن بالمنطق التاريخي لمقاومة الشعب
الفلسطيني ضد الاحتلال، وبالمصطلح الوطني الذي رافق هذه المقاومة منذ بدايتها، إلا أن ترى في "أبو عين" شهيداً.
في الوقت عينه، يتركنا استشهاد أبو عين أمام مجموعة مهمة من التساؤلات والفرص:
أولاً أنه وضع الشعب الفلسطيني بأسره أمام السؤال الأساسي الذي سبب ويسبب الانشقاق السياسي فيه من جديد: ما هي الاستراتيجية المناسبة لمواجهة الاحتلال الصهيوني؟ الانقسام اليوم بين أجندتين، الأولى ترى في التفاوض حلاً وحيداً، والثانية ترى في المقاومة بأشكالها، وبالذات المقاومة المسلحة استراتيجية أساسية لا بديل عنها لمواجهة الاحتلال الصهيوني. أغرق أصحاب الأجندة الأولى في المضي فيها إلى درجة حولوا فيها التفاوض إلى هدف أعلى للشعب، وبات التفاوض والعملية السلمية رديفاً –بنظرهم- للمصلحة الوطنية الفلسطينية، وبات كل ما يهدده ويتناقض معه مجرّماً وخارجاً عن القانون، والمقاومة المسلحة على رأس قائمة، ما يهدد العملية التفاوضية طبعاً، ومن هنا بات التنسيق الأمني مشروعاً وضرورياً.
أصحاب هذه الأجندة على أي حال وقعوا في مأزق يتعلق بكيفية مواجهة المحتل ومقارعته، فذهبوا إلى مخرج "المقاومة الشعبية" كحد أدنى يلتقون فيه مع أصحاب أجندة المقاومة، فتبناها البيان الوزاري للحكومة الحادية عشرة، حكومة الوحدة الوطنية، وطرحها محمود عباس في المؤتمر السادس لحركة فتح عام 2009، وبات أصحاب هذا الخيار يساوون بين "المقاومة الشعبية" و"المقاومة السلمية"، رغم أنهما غير متساويتين موضوعياً. استشهد أبو عين وهو يشارك في مقاومة سلمية، "شعبية" بمفهوم سلطة أوسلو، يزرع فيها الزيتون، ولم يمنع موقعه كونه وزيرًا ضمن المشروع التفاوضي ولا الطريقة السلمية لمقاومته من قتله بوحشية. عدنا من جديد من حيث بدأنا: القتل لا يتعلق بالطريقة التي تختارها للمقاومة، فالقتل في المشروع الصهيوني الاحتلالي قائم؛ لأن الوجود الفلسطيني ليس خياراً مطروحاً، بغض النظر عن أي فج اختار الفلسطيني سلوكه! إن قتل "أبو عين" يعيدنا بوضوحٍ جارح إلى السؤال المركزي: هل يجب أن نختار أقدر الاستراتيجيات على ردع المحتل؟ أم أقدرها على استرضائه و"انتزاع" اعترافه؟ وإذا كانت 21 سنة من التفاوض وقيام سلطة وظيفية تدير احتلالاً بالوكالة لم ترضِه إلى حد يمتنع فيه عن القتل، فما الذي يمكن أن يرضيه؟
قتل أبو عين باختصار أثبت التهافت الموضوعي اللانهائي لخيار التفاوض: فمهما كان الخيار الذي تختاره كونك فلسطينيا، فوجودك مرفوض صهيونياً من حيث المبدأ، وتلوناتك لتحسين شروط بقائك برضى أو قبول صهيوني تقع باختصار في خانة الوهم مستحيل التحقق.
الفرصة المهمة التي فتحها استشهاد "أبو عين" أنه يمثل حادثة تصلح شرارة انفجار تقدح كميات الضغط المتراكم في الضفة الغربية وعموم فلسطين، فليس هناك أي أفق لعملية سياسية تنتهي بشيء للفلسطينيين، يقابلها مشهد حرب غزة التي أثبتت إمكانية بناء عمل مقاوم تحت أقسى الظروف، وإمكانية تكبيد المحتل الصهيوني خسائر كبيرة مهما بلغ حجم ترسانته العسكرية، بشرط توفر الإرادة السياسية والاجتماعية لذلك، كما أنها جاءت في ظل تطاول وتغول غير مسبوق للمستوطنين، وفي ظل هجمة تهويد على الأقصى، وفي لحظة ارتباك صهيونية قبل مشهد انتخابات تغيب فيها الرؤى والشخصيات الكاريزمية التاريخية.
الفرصة الثانية الأكثر دقة أن "أبو عين" ينتمي لحركة فتح، الفصيل الذي يتبنى رسمياً خيار التفاوض، ويضفي عليه الشرعية الوطنية، الفصيل الذي يقدم منذ سنوات أداء سياسياً يرى في حركة حماس الخصم والعدو، والمصدر الأول للاستفزاز والتعبئة والتجييش منذ ما حصل في غزة من "حسم عسكري" أو "انقلاب" بالمصطلح الفتحاوي عام 2007. زياد أبو عين هو أحد الرموز البارزة لهذا الفصيل، ولبنيته القيادية الحالية التي أفرزت أوسلو، التي كانت تدفع بقوة للتجييش ضد حركة حماس، وتستخدم عناصر الكرامة والعصبية الفتحاوية في ذلك، وأن يقضي أبو عين تحت بنادق جنود الاحتلال يسهم بالتأكيد في إعادة توجيه عناصر التجييش والغضب والشعور بالمهانة والحاجة للثأر والرد لدى حركة فتح وعناصرها تجاه الاحتلال الصهيوني، وهي إن حصلت فهي خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح.
هل ستُقطف هذه الفرصة التاريخية أم لا؟ يتوقف الأمر على خيار السلطة التي ينتمي إليها الشهيد زياد أبو عين، فلو اختارت التصعيد، ووقف التنسيق الأمني تماماً، لو لفترة محدودة لا تتجاوز أسابيع، فهذا يكفي لدفع العناصر الموضوعية المتوفرة للوصول للانفجار، أما إن اختارت "الأداء الامتصاصي" الذي قدمته في هبة القدس في رمضان، وخلال حرب غزة صيف 2014، فهي ستسارع لإعلان إجراءات لا تطبقها على أرض الواقع، ولاتصالات ماراثونية مع الاحتلال ومع عمان وواشنطن– ضمن الآلية التي تشكلت في هبة القدس مؤخراً- لوضع خطة طوارئ لمنع الانفجار، وستلجأ كذلك إلى إعادة إنتاج أزمتها مع حماس في عدة مفرقعات إعلامية تعيد فيها التغطية على مشهد المواجهة مع الاحتلال بمشهد المواجهة الداخلية.
من الناحية الواقعية، ومن سياق التجربة التاريخية، فالسيناريو الثاني هو غالباً ما ستتبناه سلطة أوسلو، وهذا –إن حصل- يعني إعادة صناعة الأزمة الفلسطينية من قبل نخبة سياسية تختطف الإرادة الفلسطينية، تفشل في إيجاد أي أفق سياسي، وتفشل في حماية نفسها والمنتمين إليها في مواجهة الاحتلال، لكنها تغدو حامية الحمى في وجه الخصم الفلسطيني، وهو يعني مراكمة أسباب جديدة تنزع الشرعية، وتقود لانقسام يغدو حتمياً، ويعزز فرص مواجهة تغدو حينها حتمية، مع نخبة لا تعجز فقط عن تحقيق الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني، بل تعجز حتى عن حماية نفسها وأفرادها، وتصر على النهج عينه الذي انتهى بها هنا.