كتب فهمي هويدي:
أحدث سؤال ردده الناشطون في
مصر خلال اليومين الماضيين هو، أين علاء؟ إذ تداولته مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة بعدما أعلنت أسرته يوم الخميس الماضي أنه غير موجود في زنزانته بسجن طرة، حيث نقل منها إلى مكان غير معلوم
السؤال الأول وجهته الزوجة منال قبل أربعة أشهر إلى قائد مجموعة الشرطة الملثمين الذين اقتحموا بيت علاء عبد الفتاح بعد تحطيم بابه لإلقاء القبض عليه، حينذاك سألتهم عن إذن النيابة الذي أمر بالتفتيش والقبض، وكان الرد صفعة من الضابط ووصلة شتائم ترتب عليها جذب المدون المعروف وهو يرتدي ملابس النوم، وحمله حافيا إلى حيث انتهى به المطاف في سجن طرة. كان علاء قد اتهم بالدعوة إلى التظاهر اعتراضا على محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وبعد أن استقر به المقام في "طرة" واطمأن أهله إلى أنه على قيد الحياة، وأن له مكانا معلوما، كان السؤال هو ما إذا كان يتعرض للتعذيب أم لا، ثم توالت أسئلة أخرى حول التحقيق معه، وما إذا كانت القضية التي اتهم فيها أحالتها النيابة إلى المحكمة المختصة أم لا. وطوال الأسابيع الأخيرة كان السؤال الذي شغل الجميع، هو متى تنظر القضية؟ أخيرا، بعد أربعة أشهر من الحبس الاحتياطي أعلن أن محكمة جنايات القاهرة ستنظر القضية اليوم.
لن نتوقف أمام المفارقة المفجعة المتمثلة في اعتبار اشتراك علاء في مظاهرة سلمية جناية، وهي أعلى مراتب الجريمة، الأمر الذي ترتب عليه إحالته إلى محكمة الجنايات. في حين أن قتل وإحراق 37 مواطنا كانوا مرحلين إلى سجن أبو زعبل، اعتبر جنحة بحسبانه جريمة أقل خطرا، الأصل في عقوبتها ألا تزيد على السجن ثلاث سنوات، ربما أسوة بحادث غرق عبارة السلام الذي قتل فيه 1300 مواطن، وتم التلاعب في القضية آنذاك بحيث أحيلت بدورها إلى إحدى محاكم الجنح، وهي مفارقة تستحق التسجيل لا ريب، لكن ذلك ليس موضوعنا في اللحظة الراهنة. ذلك أنني معني بمؤشرات ودلالة تراجع الأسئلة التي باتت تطرح في مصر في ظل استمرار سياسة القمع وتشديد القبضة الأمنية. ذلك أن السؤال الجوهري الذي ما عاد يطرح في قضية علاء عبد الفتاح هو لماذا يلقى في السجن أصلا هو وزملاؤه ونظراؤه من شباب
ثورة 25 يناير؟
ليس ذلك فحسب، وإنما الموجع والمخزي أن يحدث ذلك في الوقت الذي يطلق فيه سراح رموز النظام الذي أسقطته الثورة، وفي حين يدلل الأخيرون الذين لا يزال بعضهم يقضي عقوبته وراء الأسوار في أجنحة خاصة بالمستشفيات الكبرى بدعوى أنهم مرضى ويحتاجون إلى رعاية خاصة!
لقد أصبح الاعتقال خبرا عاديا وخبزا يوميا، وما عاد التعذيب في أقسام الشرطة والسجون يصدم كثيرين ممن ألفوا أمثال تلك الإشارات في تقارير الحقوقيين، ومنهم من هوَّن من شأنه واعتبره "قسوة جماعية" أقرب إلى شد الأذن الذي يمارسه الآباء بحق أبنائهم. حتى قتل المتظاهرين السلميين بما يستصحبه من إهدار للحق في الحياة، أصبح يقابل بترحيب ومباركة من جانب شرائح النازيين الجدد الذين تشوهت ضمائرهم وتسممت أفكارهم، حتى باتوا مستعدين للاستعانة بأفران الغاز للقضاء على "الأغيار" واستئصالهم.
أعرف صديقا عراقيا كان يقول لي كلما التقيته أثناء حكم صدام حسين (كان يسميه المهيب الرهيب): إننا يجب أن نحمد الله على أن رؤوسنا لا تزال فوق أكتافنا وأنه لا يزال بوسعنا أن نمشي آمنين بجوار الحائط، على "قولتكم" في مصر. كانت كلمات الرجل تترجم الصورة التي انتهى إليها حال جيل من العراقيين فقدوا الأمل في تغيير النظام بعدما خبروا كل أنواع القسوة، حتى أصبح همَّهم أن يظلوا على قيد الحياة وأن يأمنوا شر أجهزة "المهيب الرهيب" التي لم تبق على أحد من المعارضين على وجود، فضلا عن كرامة.
لست في وارد المقارنة مع المهيب الرهيب (في استعارة للقب إيفان الرهيب قيصر روسيا الشهير في القرن السادس عشر)، لكن ما تحدث به الصديق العراقي خطر لي حينما شرعت في متابعة مؤشرات أو منحنى تطلعاتنا منذ قامت الثورة في مصر عام 2011، حين كان الهتاف يدوي في الآفاق: عيش ــ حرية ــ كرامة إنسانية. وقد كان علاء ورفاقه من شباب الثورة ضمن الذين رددوا ذلك الهتاف في ميدان التحرير، ومعهم ألوف آخرون ممن يتوزع أغلبهم الآن على السجون في أنحاء مصر. إذ نراجع طموحنا خلال السنوات الثلاث.
حتى صرنا نتساءل عما إذا كانوا قد نالوا حقهم من التعذيب في قسم قصر النيل أو مدينة نصر أو في أقسام أخرى، وعما إذا كانوا قد توزعوا على ما يسمونه سلخانة أبو زعبل أو جحيم سجن العقرب، أم أنهم في وضع أفضل نسبيا في سجن مزرعة طرة. وهل سيظلون طويلا في الحبس الاحتياطي؟ ومتى ستحدد جلسات محاكمتهم؟ وهل سيكونون من المحظوظين الذين يتقرر حبسهم لمدة سنتين فقط أم أنهم سيلحقون بشباب الجامعات الذين عوقبوا بالسجن 15 أو 17 عاما بسبب اشتراكهم في المظاهرات؟ أم أن جهاز الأمن الوطني سوف يقرر إخلاء سبيلهم بعد تلقينهم الدرس وإنذارهم بما يمكن أن تفعله بهم "العين الحمراء". إلى غير ذلك من الرسائل التي تنقل إلينا خلاصة خبرة الصديق العراقي الذي استسلم لليأس في نهاية المطاف، حتى صار يحمد الله على أن رأسه لا يزال فوق كتفيه وأنه يجد الأمان في الاحتماء بجوار الحائط.
الشاهد أنه خلال السنوات الثلاث تراجعت أسئلتنا وهبط سقفها، ومعها تراجعت أحلام ثورة العام 2011، حتى أصبحت غاية المراد أن يحظى شباب الثورة بتحقيق نزيه ومحاكمة عادلة وأن يتوزع المحبوسون منهم على سجون تحترم إنسانيتهم. وهو ما قد يتصوره البعض ــ ويتمناه آخرون ــ نهاية للثورة وطيَّا لصفحة الربيع، إلا أنني أزعم أن ذلك حكم متعجل يسقط خبرات الثورات وينسى أطوارها. إذ تعلمنا دروس التاريخ أن ذلك التراجع يمثل حلقة في مسيرة الثورة وليس نهاية لها. وهي رسالة تنبه الجميع إلى أن الثورة لم تكتمل وأن ثمة حلقات أخرى تالية لها ينبغي أن تستنفر لأجلها همم الشباب وتحشدها طاقاتهم.
ولعل أهم رسالة يجب أن نتلقاها مما جرى ويجري أنه بغير استعادة روح يناير 2011 الجامعة، فلن يتسنى للثورة أن تحقق أهدافها.. لذا لزم التنويه.
بوابة الشرق