مقالات مختارة

اختبار تاريخي لنظام عالمي بلا قواعد

1300x600
كتب وحيد عبد المجيد: لم يتخيل قادة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا قبل أسابيع قليلة أنهم سينخرطون بشكل مباشر في أكبر أزمة دولية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع عام 1991، بل ربما تكون هي الأخطر منذ أزمة خليج الخنازير عام 1962. فقد تحول الصراع على أوكرانيا إلى أزمة من النوع الذي يمكن أن تصل المواجهة فيه إلى حافة الهاوية، في غياب قواعد تحكم النظام العالمي وتحدد الخطوط الحمر في العلاقات بين القوى الكبرى.

فعلى مدى أكثر من عقدين منذ انتهاء الحرب الباردة الدولية، ظلت العلاقات بين القوى الكبرى في حالة سيولة لم تتبلور في ظلها قواعد يقوم عليها النظام العالمي. وأياً كان الرأي في مثالب النظام الثنائي القطبية وما أنتجه من حرب باردة، كانت هناك قواعد للعلاقات الدولية في كثير من جوانبها. فلم يكن متصوراً على سبيل المثال أن يخرق أي من القطبين أو حلفائهما اتفاقات استراتيجية يتم التوصل إليها في مجال الحد من التسلح أو غيره، أو أن يهدد أي منهما الآخر في داخل «معسكره».
 
لذلك كانت أزمة خليج الخنازير هي الأولى والأخيرة التي حدثت فيها مواجهة مباشرة خطيرة بينهما كادت تفجّر حرباً عالمية ثالثة لولا التوصل إلى تسوية لها في اللحظة الأخيرة. وساهمت تلك الأزمة الكبرى في إرساء القواعد التي حكمت النظام العالمي حتى نهاية الحرب الباردة. وبموجب تلك القواعد امتنعت الولايات المتحدة عن القيام بأي عمل لدعم الانتفاضة الشعبية ضد السلطة الموالية لموسكو في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، ثم صمتت عندما أرسل الكرملين قوات لسحقها.

 وفي غياب مثل هذه القواعد، تحولت الانتفاضة الأوكرانية الكبيرة الثانية التي بدأت في أواخر العام الماضي إلى ما يشبه كرة لهب أخذت تتدحرج فتجاوزت الحدود واكتسبت طابعاً عالمياً غير عادي من حيث إنها باتت تهدد بتصاعد الصراع بين روسيا والغرب إلى مستوى لا سابق له منذ انتهاء الحرب الباردة الدولية. فرغم أن هذه ليست المرة الأولى التي يقف فيها الروس والغربيون على طرفي نفيض تجاه أزمات إقليمية، تنطوى الأزمة الأوكرانية على طابع خاص يعود إلى اختلاط السياسة فيها بالهوية وارتباط الصراع على هذه الهوية بمرجعيتين إحداهما روسية والثانية غربية. لذلك فهي تختلف من هذه الزاوية عن الأزمة السورية مثلا.

كما أن غياب قواعد لنظام ما بعد الحرب الباردة يجعل المناطق الحساسة في العلاقات بين روسيا والغرب أكثر تعرضاً لازدياد التوتر فيها حين يحدث أي خلاف وخاصة بعد أن تراكمت العوامل المغذية لعدم الثقة خلال العقد الأخير. فثمة شعور بالمرارة لدى روسيا جرَّاء عدم التزام الغرب بالاتفاق الذي تم بين جورباتشوف وبوش الأب، وهو أن يلتزم الثاني بعدم تمدد «الناتو» في شرق أوروبا إذا تخلى الأول عن حلف وارسو.

فما أن نفذ جورباتشوف الشق الخاص به في هذا الاتفاق، حتى بدأت أميركا والاتحاد الأوروبي التحرك في الجوار الروسي. لذلك أخذت ردود فعل موسكو تتسم بتشدد مبالغ فيه أخذ في الازدياد عاماً بعد آخر بالتوازي مع سعي بوتين إلى إعادة بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية وعلاقاتها الدولية على نحو دعم طموحه لاستعادة مكانة الاتحاد السوفييتي والإمبراطورية الروسية من قبله.

وهذا يفسر رد فعل بوتين العنيف تجاه إسقاط النظام الموالي له في أوكرانيا التي تمثل أهم امتداد استراتيجي مباشر لروسيا، واهتمامه الخاص بشبه جزيرة القرم التي تعتبر المجال الأكثر حيوية في هذا الامتداد الاستراتيجي باعتبارها موطن الأسطول البحري الروسي وليست مجرد قاعدة له. وهذا فضلا عن رابطة الهوية السلافية الأرثوذكسية الأكثر من وثيقة مع أوكرانيا. فيعتبر القوميون الروس كييف مهد حضارتهم التي كانت القبائل السلافية نواتها في العصور الوسطى.

غير أن الحرص الروسي المفهوم على أوكرانيا تجاوز الحدود المعقولة ربما بسبب عدم الثقة في نوايا الغرب. وظهر هذا التجاوز عندما أحبطت موسكو محاولة الاتحاد الأوروبي ضم أوكرانيا إلى اتفاق للتجارة الحرة. وكان رفض روسيا هذا الاتفاق وتدخلها لمنع عقده متجاوزاً حدود الحرص المعقول على مصالحها الأمنية والثقافية، خاصة أنه لا يفرض قيوداً على أوكرانيا. لذلك كان هذا الموقف الروسي بداية تصعيد الأزمة لأن معارضي يانوكوفيتش اعتبروه ترسيخاً لهيمنة موسكو وتمهيداً لمحاصرة الهامش الديمقراطي المتاح لهم. كما أدى الدعم الأميركي والأوروبي للانتفاضة التي تصاعدت عقب إحباط اتفاق التجارة الحرة إلى صب مزيد من الزيت على نار كان لهيبها ينذر بتجاوز الحدود واندلاع أزمة دولية كبرى.

وهكذا أدى غياب قواعد للعلاقات بين روسيا والغرب إلى انفلات الأفعال وردود الأفعال وصولا إلى أخطر أزمة دولية منذ عقود. غير أن التطور الذي حدث في العلاقات الدولية نتيجة الخبرة المريرة للحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين يجعل الحل السلمي ممكناً دائماً في أسوأ الظروف. ويظل هذا الحل وارداً، رغم التوتر الشديد الذي تتسم به الأزمة. قد بات من الواضح أن نظاماً موالياً لروسيا لا يستطيع أن يحكم أوكرانيا كلها بدليل نشوب انتفاضتين كبيرتين ضده خلال عشر سنوات، وأن نظاماً موالياً للغرب لا يستطيع المحافظة على وحدة هذه الدولة.

وثمة خياران لهذا الحل السلمي؛ أولهما تسوية تاريخية لبناء نظام سياسي توافقي تُمثل فيه مختلف القوى والإثنيات الأوكرانية وفق ترتيبات لا تسمح لأي طرف بالحكم منفرداً، على أن يقيم هذا النظام علاقات متوازنة مع روسيا وأوروبا سيكون هو وشعبه المستفيد منها. ويتطلب هذا الحل تمثيلا مرضياً لذوي الهوية الروسية ومساواة كاملة تقضي على أي تمييز يمكن أن يتعرضوا له واتفاق على استبعاد التيارات الفاشية والنازية الجديدة التي ظهرت خلال الانتفاضة الأخيرة وحاولت القفز عليها، إلى جانب ضمانات لروسيا بأن عقد تأجير قاعدة سيفاستوبول سيظل كما هو.

أما الخيار الثانى فهو الاعتراف بعدم إمكان التعايش في أوكرانيا واحدة، وترتيب تقسيمها بشكل سلمى ينسجم مع القانون الدولي بدلا من أن تفرض روسيا انفصالا فعلياً لإقليم القرم لا يحظى باعتراف أحد كما حدث في جورجيا في أغسطس 2008. فمن شأن التقسيم المتوافق عليه أن يضمن اعتراف كل من الكيانين بالآخر وحرية انتقال السلع والأشخاص وتفادي صراع يمكن أن ينطوي على تطهير إثني يتفرق فيه الشمل وينهار الاقتصاد. ويحمل كل من هذين الخيارين فرصة ليس فقط لحل الأزمة الأوكرانية سلمياً، ولكن أيضاً للبدء في وضع قواعد للنظام العالمي حتى لا تتحول صراعات داخلية أو إقليمية أخرى إلى أزمات دولية خطيرة.

(الاتحاد)