كتب

الغرب.. نقاش حول عوامل الأفول وأسباب القوة.. كتاب جديد

الغرب يجمع بلدانا قائمة على سيادة القانون، في حين أن باقي العالم يعيش في ظل دكتاتوريات تتخذ صورا وأشكالا عدة.
الكتاب: ماذا تبقى من الغرب؟
المؤلف: ريجيس دوبريه- رينو جيرار
المترجم: مراد دياني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


"عاملان أساسيان يعيدان باستمرار طرح سؤال تهاوي الغرب وأفول عهد تفوقه، هما: تناقضات الغرب وأزماته الداخلية من جهة، وبروز قوى ناشئة على الساحة العالمية من جهة أخرى، فضلا عن توهم التهديد الإسلامي المزعوم".

إن الدكتاتوريين العسكريين العرب، علمانيين وقوميين، ليسوا أعداء رئيسيين لفرنسا، لكنهم يمكن أن يصبحوا كذلك مثلما كان جمال عبدالناصر في عام 1956، حيث "ساعد على التمرد الجزائري لجبهة التحرير الوطني".
هذا ما يقوله مراد دياني، الباحث في اقتصاد المعرفة ونظريات العدالة والديمقراطية، في مقدمته لترجمة هذا الكتاب، الذي يضم رسائل متبادلة بين الفرنسيين الفيلسوف والمناضل السابق رفيق غيفارا ريجيس دوبريه، وأستاذ العلوم السياسية والصحفي المتخصص في تغطية الحروب وقضايا الشرق الاوسط  رينو جيرار.

ويدور النقاش بين المثقفين البارزين حول المشاكل الرئيسية التي تواجه الغرب في العصر الحالي، حيث بدا واضحا التباين والتباعد في رؤاهما وتشخيصهما لطبيعة هذه المشكلات وأسبابها. لكن دياني يتساءل ابتداء عما نقصده بالضبط عندما نتحدث عن الغرب؟ ويرى أن العديد من الكتاب يجدون في مسيحية العصور الوسطى الشكل النهائي للغرب، بينما يحيل آخرون على "النهضة الأولى" أو على عصر الأنوار، فيما يؤثر غيرهم تحديد حدود الغرب ضمن منطقة جغرافية أوروبية-أطلسية، بوصفها العالم الأول المغاير للعالم الثاني (الكتلة الشيوعية سابقا) والعالم الثالث. ويقول دياني أنه بما أن دوبريه هو أول من يطرق إشكالية "نهاية الغرب"، فإنه يسلك منهجا أكاديميا جدليا لعرض ما يسميه "البيانات السريرية" للغرب، "بمنظور الطبيب الخبير المعالج"، وفق قوله، مشددا على التماسك المنقطع النظير للغرب تحت كنف واشنطن، معتبرا بذلك أن الريادة الأمريكية مقبولة من جميع الأطراف الغربية، وأن الغرب في نهاية المطاف، ليس سوى اسم مستعار لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

وتتمثل الحجة الرئيسية التي يعرضها جيرار في أن الغرب يجمع بلدانا قائمة على سيادة القانون، في حين أن باقي العالم يعيش في ظل دكتاتوريات تتخذ صورا وأشكالا عدة. كما أنه يؤكد البعد المسيحي باعتباره إحدى أهم السمات المميزة للغرب، ساعيا إلى تأكيد عدم تنافر الغرب مع روسيا وأوراسيا، لذلك، فهو يرى أن فلاديمير بوتين ليس عدوا للغرب إنما غريمه فحسب، بخلاف ما يسميه "الفاشية الخضراء" التي لم يفهم الغرب من طبيعتها سوى النزر اليسير، بل إنهم، بحسب ما يقول، تركوا من يغذيها سواء في أراضي البلاد العربية الإسلامية، أو في أراضي الغرب لدى الجاليات المسلمة المهاجرة.

احتكار الكوني

يرى دوبريه أن ثمة عوامل نجاح تقف وراء وجود ما يسمى "الغرب"، كما أن هناك عوائق أو نقاط ضعف قد تكون سببا في تفكك هذه الكتلة أو انهيارها. من عوامل النجاح هذه، النظام السياسي- العسكري الآخذ في التوسع، أو ما يسميه "جغرافيا حلف شمال الأطلسي، الذي تقع قاعدته الأمامية في غرب الغرب أي في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه صار الآن يشمل أوروبا الشرقية سابقا، وكذلك حدود دول البلطيق. ولهذا "التصميم الأمني" كذلك ركائز متينة في منطقة آسيا والمحيط الهادىء مع اليابان وكورياالجنوبية، فضلا عن أستراليا ونيوزلندا، وكما يقول دوبريه: فإن الولايات المتحدة إذا تدخلت هناك لحسابها الخاص، فهذا يكون أيضا باسم الغرب، وباسم أمنه وقيمه.

ويرى دوبريه أن الدول الأوروبية المنضوية تحت مظلة (الناتو)سعيدة جدا بذلك، وهي تنظر إليه وكأنه ناد للأغنياء وتشعر بالانتماء إليه وكأنه أسرة روحية، وفي المقابل لا يعرّف أي آسيوي نفسه على هذا النحو، ولا تبدو آسيا مجموعة مترابطة أو أن لها مصيرا مشتركا. ويتابع دوبريه أن الغرب من جهته أحادي القطب ولا يجادل أي من أعضائه الريادة الأمريكية، وهو الكتلة المتعددة الجنسيات الوحيدة القادرة على القيام بعمليات عسكرية سريعة ومنسقة، مسلمة القياد للولايات المتحدة حتى عندما تتجاوز فكرة الدفاع إلى التدخل أو الغزو دون اعتراضات تذكر.

يشير دوبريه إلى عوامل نجاح أخرى، منها ما أسماه "احتكار ما هو كوني"، وذلك عبر تقديم السعي وراء المصالح الخارجية، بوصفه تعبيرا عن مصالح الإنسانية بأسرها (الحرية والتحرر والتقدم)، ويقول؛ إن الغرب وحده من يمتلك هذه "المهارة"، "ومن الرموز الجغرافية لهذه المصادفة توطين مقر الأمم المتحدة في نيويورك. إنه في قلب القوة العظمى الوحيدة حيث تكمن الهيئة المعترف لها بـ"الضمير الكوني"، فحاضرة أكبر قوة عسكرية هي حاضنة أسمى قانون". على جانب آخر يؤمّن الغرب تكوين النخب الدولية في جامعاته وكلياته للأعمال ومؤسساته المالية، ومدارسه العسكرية، وشركاته الكبرى، وهذه البوتقة من الكوادر البشرية العليا لطبقة متوسطة هي نفسها معولمة، وهي التي تحول السيطرة إلى هيمنة، والتبعية إلى انتماء. فما وراء تدريب "القادة الشبان" الذي تنظمه السفارات الأمريكية، تُولّد هجرة الأدمغة الجذابة لاوعيا جماعيا مشتركا.

ومع ذلك، ثمة مجموعة من العوائق أمام هذا الغرب، أولها " الغطرسة المفرطة" و"عقدة للتفوق مسببة للعمى"، فالتيقن من امتلاك اليد العليا يجعل المرء غير مبال بحقائق الواقع، بحسب ما يقول دوبريه. الغرب يعتقد أن المال يكفي لكل شيء بما في ذلك خلق الاندماج الاجتماعي، أو ما يسميه الإنسان الغربي"الحداثة"، و"فور أن يضع قدمه خارج نطاقه، سيجد نفسه أمام مشكلة عضال: التقليد. وينزلق الدخيل، مُسْتَقْو بطائراته الهليكوبتر التي تنفث النار، وبرزماته من الدولارات، وبمنظماته غير الحكومية، على سطح البلدان المحتلة، وينبغي عليه سريعا، قبل أن يلوذ بالفرار من البلاد أن ينكفئ على معسكراته المحصنة". الزمن، كما يقول دوبريه، يلعب ضد الغرب. فالغرب ذو النزعة القصيرة الأمد يحلم بالحرب الخاطفة، بينما الشرق لا يتعجل إلى الفعل، بل يترك الأمور تتضح، ويفضل حرب الاستنزاف. هنا لغة الضربات وهناك لغة المقاومة، من يضرب يضرب كالصاعقة، ومن يُضرب يغوّص الخصم في الوحل وينسل إليه ويستنزفه.

أعداء الغرب

يضيف جيرار إلى قائمة دوبريه لعوامل نجاح الغرب عامل "سيادة حكم القانون" ويقول: "حيثما لم تصل روما ـ أو روحها ـ لا نجد القانون.. لماذا تودع الأوليغارشية الروسية ثروتها في الغرب؟ ولماذا الشيء الأكثر الذي يرغب فيه المليارديرات الصينيون هو جواز سفر غربي؟ لأن كل هؤلاء المقاولين الحاذقين ليست لديهم أدنى ثقة بسلطات بلدانهم. القانون ينطق بالحق في الغرب، والزعيم يفرض قانونه في الشرق". أما في ما يتعلق بالتدخلات الخارجية للغرب في بلدان الشرق، فيرى جيرار أن الإشكال الكبير فيها هو أن قادتها ظهروا بمظهر العاجزين عن الرؤية إلى ما وراء يوم واحد. وعلى سبيل المثال يشير إلى التدخل في ليبيا ويقول؛ إنه "لم يستغرق الأمر أكثر من عامين لكي يدرك الغربيون أن تدخلهم العسكري قد أحل محل دكتاتورية موالية للغرب، كانت تعمل جيدا إلى حد ما، فوضى عارمة معادية للغرب".

ما يميز الغرب، هو أن نخبته الحاكمة أوسع بكثير، وأكثر تغيرا، وأكثر انفتاحا من الشرق.
ويتابع جيرار بمنطقه هذا المغرق في استعماريته قائلا؛ إن  الدكتاتوريين العسكريين العرب، علمانيين وقوميين، ليسوا أعداء رئيسيين لفرنسا، لكنهم يمكن أن يصبحوا كذلك مثلما كان جمال عبدالناصر في عام 1956، حيث "ساعد على التمرد الجزائري لجبهة التحرير الوطني".

ويضيف: "منذ عام 2011 نتعامل مع بشار الأسد كما لو كان قد أصبح العدو الرئيس لفرنسا؛ كون عشيرة الأسد تحكم بشكل سيئ أو بوحشية، فهذا لا يجعل منها عدونا الرئيس". إن العدو الرئيس لفرنسا وللغرب كما يراه جيرار، هو الإسلام السياسي الذي يجب أن يركز الغرب جهده الاستراتيجي على القضاء عليه، "سواء وجد في ملجأ في الصحراء الليبية، أو في المناطق القبلية الباكستانية، أو في جنوب الصومال، أو حتى في أقصى شرق تركيا الممثلة برجب طيب أردوغان".

يمتدح جيرار كثيرا المنظومة الثقافية والسياسية للغرب، ويرى أن من أهم ميزاتها أنها تقبل النقاش في داخلها، وصحيح أنها قد تحمل "بعض التحيزات، والمواقف المسبقة، والكليشيهات، وعقلية القطيع، لكن لا يجري أبدا (داخلها) تثبيط النقاش السجالي ولا تشنيعه".

ويرد على انتقاد دوبريه بخصوص أن الغرب السياسي هو في الواقع من صنع نخبة، بالقول؛ إنه في كل المجتمعات هناك نخبة ضيقة هي من تقود. لكن ما يميز الغرب هو أن نخبته الحاكمة أوسع بكثير، وأكثر تغيرا، وأكثر انفتاحا من الشرق، على حد قوله، فالصين "تحكمها فئة طبقية صغيرة جدا،.. وروسيا يحكمها القيصر في الكرملين محاطا بأوليغارشيات أدت له الولاء، وفي العديد من الدول العربية القيادة العسكرية هي من يحكم. والأسر الملكية نصبتها إنكلترا خلال المرحلة الاستعمارية".

ويقول جيرار؛ إن أوروبا قد تمكنت، على الرغم من فترات انحدارها، من بناء نفسها، وهذا أفضل شاهد على أن الغرب السياسي ليس سيئا أو محتضرا، وأنه بالفعل وليد الغرب الثقافي الذي "يبجله" دوبريه.

لكن جيرار يعتقد أن أوروبا ترتكب خطأ جسيما مع رفضها القول عن نفسها إنها مسيحية، فهذه "الجماعة" التي "صممها مونيه، وشومان، وغاسبيري، وأديناور، كانت ناديا مسيحيا"، فالمسيحية "هي تحديدا، جذور الغرب الثقافي".