قضايا وآراء

أهداف وأبعاد استراتيجية للحرب على غزة

يرى الكاتب أن أهداف الحرب تتجاوز غزة- الأناضول
لا يخفى على المتابعين للحرب على غزة التي تجاوزت نصف العام أنها تكاد تكون حربا عالمية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهي حرب تقف وراءها الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأولى في العالم، كما تحضر فيها بكافة أسلحتها الحربية والسياسية والدبلوماسية، كما تم فيها حشد المعسكر الغربي بكاملة لأجل الفوز فيها، ولهذا فإننا لا نرى أنها فقط مجرد حرب على القطاع الذي لا يتجاوز 365 كيلومترا مربعا أو أنها مجرد حرب للقضاء على المقاومة الإسلامية وعلى رأسها حماس، كما أنها ليست مجرد حرب لتركيع الشعب الفلسطيني البطل وإجباره على الاستسلام للإرادة الصهيونية، وإن كان ذلك كله وارد ومقصود بشكل واضح.. لكن المراد الأكبر والأوسع والذي يجب أن ننتبه له ونعمم الوعي به إنما يكمن في الأهداف العالمية والحضارية والاستراتيجية من وراء هذه الحرب:

فالحرب كما تستهدف ضرب أهمّ مراكز المقاومة والحضور الإسلامي، التي تجسدت في المقاومة الإسلامية المرابطة عند أهم قضايا الأمة وعلى أبواب بيت المقدس، وخاصة أنها نجحت في اجتذاب كل كوامن الإخلاص والحيوية في مجتمعاتنا بتياراتها المختلفة، إنما تستهدف أيضا دك ثقافة المقاومة في الشارع العربي والإسلامي تمهيدا لحقبة ركوع جديدة أصبحت ضرورية لقرن أمريكي جديد!

فالحرب على غزة التي تتكلف أسبوعيا ما يقرب من 3 مليارات دولار تهدف إلى تركيع وترهيب الشعوب الإسلامية، وإعادتها إلى حظيرة التبعية والخضوع والاستسلام التي بدأت منذ الحقبة الاستعمارية،
الحرب تعمل على توطيد أركان المشروع الصهيوني الذي يمثل بدوره أخطر أدوات تقويض الحضارة الإسلامية أو أي نهضة إسلامية للمنطقة؛ فوق كونه من أهم ركائز المشروع الغربي والمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة
وذلك بعد أن تبين أنها لفظت جرعات الإخضاع السابقة التي أخضعتها لقرنين كاملين وأصبحت تشهد حالة عصيان وتمرد، فعادت تعبّر من جديد عن ضميرها الحي وتبحث عن إرادتها الحرة في كل المناطق وكل الساحات (في صناديق الانتخابات- في ساحات الدفاع والمقاومة- في المساجد- في العودة الجارفة لقيم الإسلام).

كما لم يعد خافيا أن الحرب على غزة إنما تهدف لاستكمال ضرب مراكز الحضور الإسلامي واليقظة والتي بدأتها حملة ما سُمي بالحرب على الإرهاب التي بدأت منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، والتي عملت على استكمال هيمنة القطب الغربي الأوحد، وانطلقت مع سقوط القطب الثاني (الاتحاد السوفييتي)، وذلك في إطار اجهاض أي عملية أو محاولة لتشكيل قطب بديل، يعتقدون أن ثقافته الإسلامية المؤهلة للمقاومة كفيلة بإحيائه مرة أخرى، ليصبح ندا وخصما للحضارة الغربية.

كما ليس بعيدا عن هذه الحرب الوحشية والمدمرة، العمل الحثيث على إعادة إحكام قبضة التغريب، التي تحطمت ولفظت أنفاسها بخاصة خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، بعد أن حاصرتها مظاهر الإحياء الإسلامي، وأحرجتها تكوينات الصحوة الإسلامية المعاصرة، والتي كشفت مدى الفشل الذي لحق بعملية إدماج العالم الإسلامي في منظومة الحضارة الغربية الغالبة، بل كشفت التجارب أن رد الفعل والحضور الإسلامي كان مرتبطا بمدى الحرص على التغريب كما في (مصر- الجزائر- تركيا- إيران)، وهو ما استدعى اليوم ذلك الحضور والإجماع الغربي العسكري والسياسي والاقتصادي، والوقوف صفا واحدا في وجه المقاومة الفلسطينية، لإرسال رسائل إرهاب للمجتمعات العربية والإسلامية من ورائها، وهو ما صرح به الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ" بشكل واضح حين أعلن بأن إسرائيل تقف في خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية.

كما يجب أن ننتبه إلى أن الحرب تعمل على توطيد أركان المشروع الصهيوني الذي يمثل بدوره أخطر أدوات تقويض الحضارة الإسلامية أو أي نهضة إسلامية للمنطقة؛ فوق كونه من أهم ركائز المشروع الغربي والمصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.

ولا يخفى أن ذلك التمهيد النيراني قد أصبح ضروريا لاستكمال بناء الممر الاستراتيجي الغربي (الهند- الخليج- إسرائيل- أوروبا)، وهو المشروع الذي يدعم مركزية إسرائيل في منطقتنا ويحاصر جيوسياسيا مراكز النفود والقيادة الإقليمية الإسلامية التقليدية والمرشحة لتغيير أوضاع المنطقة، سواء من حيث مؤهلاتها أو طموحاتها (تركيا- إيران- مصر).

إعادة إحكام السيطرة على المنطقة الإسلامية التي تعد من أهم مكونات استراتيجية أمريكا الكونية، وخاصة أن ذلك قد أصبح ضروريا لحرمان روسيا والصين من الاستفادة منها في بناء نفوذها الدولي والتموقع فيها بما يدعم تنافسيتهما للانفرادية الأمريكية.. ومما يؤكد ذلك أن "الممر الاستراتيجي الغربي" المزمع كما يحقق جزءا مهما من السيطرة على المنطقة فإنه يؤهل إسرائيل لمكانة ودور مركزي فيها، في الوقت الذي يضعف مكانة الدول الإقليمية الكبرى (تركيا- مصر) ويقطع الطريق على الممر الاستراتيجي الآخر "الحزام والطريق".

أولويات النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في منطقتنا لا تزال موجهة نحو محاصرة كل مصادر القوة التي يمكنها أن تعيد ترميم العالم الإسلامي، وتعمل على تجريف ومصادرة كل مراكز الحراك الإسلامي وتعطيل محركاته، وذلك برغم الانشغالات الكبرى والصراع المحموم على سقف العالم
لهذا وغيره فإن أولويات النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في منطقتنا لا تزال موجهة نحو محاصرة كل مصادر القوة التي يمكنها أن تعيد ترميم العالم الإسلامي، وتعمل على تجريف ومصادرة كل مراكز الحراك الإسلامي وتعطيل محركاته، وذلك برغم الانشغالات الكبرى والصراع المحموم على سقف العالم، وهو ما يؤكد أن المعركة من أجل استبعاد الحضارة الإسلامية واستمرار استنزاف العالم الإسلامي وعرقلة كل مشاريع استعادة حضوره لا تزال مستمرة، وأن اتساع عمليات هذه المعركة في العقود الأخيرة إنما يهدف لنسف كل أسس العودة للإسلام ومظاهر الوعي التي أصبحت أهم مكونات اليقظة المعاصرة، والتي بدت أهم مؤشرات استعادتها لزمام المبادرة وامتلاكها لقرارها في اتساع رقعة الرفض والمقاومة للمشروع الصهيوني في المنطقة.

فقد ثبت أن عملية احتواء الإسلام وإقصاء العالم الإسلامي من دوائر التأثير على الخريطة الدولية، والتي يجري تفعيلها منذ أكثر من خمسة قرون إبان الكشوف الجغرافية الاستعمارية وما أعقبها من حملات استعمارية مباشرة، هي عملية فاشلة..

كما أن كل المؤامرات التي تعرضت لها القضية الفلسطينية قد ذهبت أدراج الرياح وعادت القضية بكرا كأول يوم، وأصبح من المستحيل الالتفاف عليها أو محاصرتها..

كذلك أصبح التطبيع الذي يعد هدفا صهيونيا استراتيجيا في خبر كان، بل أصبح الخيار المستحيل.. كما بات واضحا انكشاف الحكومات التي وقفت عاجزة وتلك التي تواطأت على فلسطين كما لم تنكشف من قبل، ومن ثم قوة دفع جديدة لمحركات وعجلات التغيير.