إذا كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين
في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين، وأن
الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية، عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي
الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن
السبع سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا، من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال، وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت
مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها، أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، خاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا، في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره، أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة
"عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة، وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان، التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب
والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما
فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل
قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصا
الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير
القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم
(وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى
التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما تحت الصفر كما
نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية ( فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها
ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها، اعترضتها مخططات وخيانات
ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين
الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما
يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل
والمنعرجات، التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه
المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:
عملية العصفور الأزرق
تتمثل هذه الملحمة الثورية الرائعة كما عرفتها من أفواه الذين صنعوها، والذين عاشوا كلّ تفاصيلها من البداية إلى النهاية، وأذكر على سبيل الحصر اثنين
منهم (لعلاقتهما المباشرة بالموضوع)، أوّلهما العقيد السعيد إيعزورن
المدعو (فريروش)، وثانيهما الكاتب والمجاهد محمد الصالح الصديق الذي عاش تفاصيل تلك
الأحداث عن قرب، وألّف كتابا حول هذه العملية، أمّا مُلخصها فهي أنّ الحاكم العام
(روبير لاكوسط) خطط لتقويض أركان الثورة من الداخل في بلاد القبائل، فاتّصل بأحد
العملاء الكبار في الناحية (دون ذكر الاسم تجنبا لإلحاق الضرر بالعائلة)، وطلب منه
أن يُجنّد له مجموعة من الرجّال الذين لا تحوم حولهم الشكوك بالعمالة لفرنسا، كي
يُجندهم للقيام بالثورة المضادة قصد القضاء على جيش التحرير الوطني في المنطقة،
فذهب ذلك العميل إلى أحد معارفه من الأعيان (يدعى أحمد الزايد)، وطلب منه القيام
بالمهمة مقابل وعود مغرية له ماديا ومعنويا بعد نجاح العملية.
اتصل هذا المناضل
الكبير بالعقيد سي السعيد الذي أخبر هو بدوره قائد الولاية بلقاسم كريم، فاتفقا
على أن يذهب هذا الوسيط مع العدو في هذه اللعبة إلى النهاية، فطلب رجل لا كوسط من
أحمد الزايد (بعد أن أخبره بقبول المهمة) أن يُرشّح له حوالي ثلاث مائة عنصر من
الرجال الأكفاء المقتنعين بالفكرة لتجنيدهم من طرف العدو للقيام بهذه المهمة، فلبى
أحمد الزايد هذا الطلب بكلّ سرور للعميل، حيث أحضر له بعد أيام قليلة العدد
المطلوب من الرجال الذين لم يكونوا إلا صناديد من مُناضلي الحركة الوطنية، تمّ
اختيارهم بعناية كاملة وسرّية تامة، مع قادة الثورة أنفسهم (كريم ورفاقه) وقدّمهم
للعدو الذي جندهم بكلّ ثقة وغباء كعملاء، وزوّدهم بالأسلحة المتطورة ليبدؤوا في
التظاهر بالقيام بالأعمال المضادّة للثورة، ولكسب ثقة فرنسا فيهم، والبرهنة على
إخلاصهم وولائهم لها، كانوا يأتون ببعض العملاء الحقيقيين من المصاليين وغيرهم، الذين تحكم عليهم الثورة بالإعدام في أماكن أخرى من الولاية، فيلبسونهم بزات
عسكرية بالية، ويقتلونهم في أماكن مُتفرّقة من المناطق التي يتظاهرون بنصب الكمائن
الليلية فيها، ليبرهنوا بذلك على نجاحهم في مهمتهم المضادة للثورة، وعلى كفاءتهم
وإخلاصهم، وليطلبوا المزيد من الأسلحة المتطورة والعتاد.
وقد دامت هذه العملية عدة شهور من سنة 1956 إلى أن تلقوا الأمر من
القيادة العليا للولاية، بالتحاقهم جميعا بصفوف الثورة في ليلة واحدة بناحية بني
جناد، شمال شرق مدينة تيزي وزو، فكان درسا قاسيا ومُوجعا جدا للعدو لم ينسه أبدا،
ولم يُكرر هذا الخطأ القاتل مرّة أخرى فيما نعلم من سنوات الثورة حتى نهايتها، بل
فعل العكس تماما كما يتبين لاحقا!.
وعن هذه العملية التي دبرها العدو للقضاء على الثورة فارتدت إلى
نحره، يقول الدكتور يحي بوعزيز: "امتدت هذه العملية عشرة شهور من نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1955 إلى نهاية أيلول/سبتمبر 1956، وهي عبارة عن مؤامرة مدبرة من طرف القوات
العسكرية الفرنسية، حولتها الثورة إلى انتصار لها، وخيبة للجيش الفرنسي، ويطلق
عليها عدة أسماء:
ـ العصفور الأزرق OPERATION OISEAU BLEU
ـ عملية عسكرية سرية OPERATION ARMEE SECRETE
DE KABYLIE
ـ كوماندو.كـ COMMANDOS :K
ـ قوة.كـ FORCES : K
ـ المؤامرة LE
COMPLOT
وبدأ الوالي العام جاك سوستيل التفكير فيها خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1955 بعد
عام من اندلاع الثورة، وذلك في إطار البحث عن القوة الثالثة التي ستكون بديلا
لجبهة التحرير، وجيش التحرير الوطني، تساعد على تطبيق سياسة الإدماج التي يتحمس
لها سوستيل، ويسعى جاهدا لتطبيقها.
امتدت عملية العصفور الأزرق عشرة شهور من نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1955 إلى نهاية أيلول/سبتمبر 1956، وهي عبارة عن مؤامرة مدبرة من طرف القوات العسكرية الفرنسية، حولتها الثورة إلى انتصار لها، وخيبة للجيش الفرنسي.
وقبل أن تشرع القوات الفرنسية في تطبيق عملية العصفور الأزرق، عملت
على دعم قوات بللونيس الميصالية، المعارضة للثورة، ولكن هذه القوات الميصالية تلقت
ضربات قاسية من طرف قوات جيش التحرير، وفقدت الكثير من رجالها، واضطر بلونيس نفسه
أن ينسحب بمن بقي له من الرجال إلى الجنوب.
وعندئذ فكرت الولاية العامة في تنفيذ خطتها، وتجنيد رجال من منطقة
القبائل وتسليحهم على غرار كتائب جيش التحرير، ليندسوا بين جنود التحرير، ثم
ينقلبوا عليهم، وكلفت الولاية العامة، مصلحة الوثائق التابعة للمنطقة العسكرية
العاشرة، لتباشر العمل، وهي لا تخضع إلا لمكتب الوالي العام مدنيا، وللجنرال
لوريلو LORILLOT رئيس المنطقة العسكرية العاشرة عسكريا" .
ويضيف الدكتور بوعزيز قوله: "وتواصل تجنيد هؤلاء الرجال حتى بلغ
عددهم 1500 رجلا، انتشروا في جهات عزازقة، تقزيرت، تيزي وزو، عين الحمام، وكانت
نتائج أعمالهم مرضية بالنسبة للجيش الفرنسي، وقتلاهم كلهم من المصالين، والمخربين،
وأعداء الثورة، حسب تعليمات قيادة جيش التحرير الوطني.
وكان الحاكم العسكري الفرنسي لتيزي وزو، هو الذي يحمل في سيارته من
نوع 203 صناديق الأسلحة والذخائر والمبالغ المالية، والمؤن إلى منزل مخلوف محمد
آيت ونيش، الذي يقيم عنده كريم بلقاسم في منزله، وفي يوم 16 أيلول/سبتمبر 1956 تم توزيع
آخر كمية من الأسلحة على بعض أفراد هذه المجموعات في قرية إفليسن، بحضور الجنرال
أولي، ولم يكن رئيس فرقة الدرك بتيقزيرت على علم، وخلال مؤتمر الصومام تم الاتفاق
على ضم هذه الكتائب إلى الثورة بصفة جماعية، وفي يوم 10 أيلول/سبتمبر أعطي الضوء الأخضر
لرؤسائها، على أن يتم ذلك ليلة 30 أيلول/سبتمبر 1956، وكان عددهم كما ذكرنا 1500 رجلا، وقبل
أن يلتحق أوزايد بالجبل مع هؤلاء الرجال، تخلص من حشيش الطاهر وقتله بثلاث رصاصات
في بطنه، وأخذ طريقه إلى الجبل" .
الحركة البلحاجية
ترى من يكون "كوبيس" وما هي أهدافه ولماذا جعلت فرنسا منه
عميلها المخلص؟
كوبيس اسم ارتبط بالخيانة والمكر، إلى أن نال جزاء الخائن على أيدي
الثوار المخلصين، أما اسمه الأصلي فهو بلحاج الجيلالي عبد القادر، من مواليد قرية
"زدين" الفلاحية المتاخمة لعين الدفلة معقل الشيوعيين الجزائريين آنذاك،
ينتمي إلى عائلة عريقة التحق بمدرسة ضباط الصف بشرشال وتخرج منها برتبة عريف.
انتسب إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وأصبح عضوا في المنظمة الخاصة (S.O)، ونظرا لكونه عسكريا أسندت إليه مهمة تدريب أعضاء المنطقة، ولما كان
مؤتمر حركة انتصار الحريات الديمقراطية عام 1946 احتضنته في مزرعته "بزدين".
وعندما اكتشف أمر المنظمة الخاصة اعتقلت الشرطة الفرنسية مناضليها
بما فيهم بلحاج، لكنه لم يلبث في السجن طويلا حتى أطلقت سراحه دون غيره، بعد أن باح
لها بجميع الأسرار التي كانت في حوزته، متحديا بذلك أوامر قيادته التي تقر التكتم
عن الأسرار وعدم البوح بها، مهما كانت ظروف الاستنطاق والتعذيب.
ما إن غادر السجين، حتى تحول إلى مخبر يعمل في جهاز شرطة العدو، دون أن
ينسى ما كان عليه أبوه الضابط في جهاز الصبايحية. أتقن بلحاج مهمة المخبر
بوجهين، بحيث ظل على اتصاله الدائم بالحركة الوطنية من جهة وبجهاز شرطة العدو من
جهة ثانية، حتى إذا اندلعت ثورة التحرير، اختار بلحاج أن يكون في صف المصاليين، واتخذ لنفسه اسم "كوبيس" عوضا عن بلحاج في نهاية عام 1956.
تمكن في بادئ الأمر من مغالطة المواطنين في نواحي الشلف
"الأصنام"، على اعتبار أنه سجين سياسي قديم ومناضل في الحركة الوطنية، فأوقع الكثير في شراكه وجندهم في صفوفه، مدعيا أنه سيصنع منهم النواة الصحيحة لثورة
التحرير، تؤازره ماديا ومعنويا أجهزة الاستخبارات الفرنسية، وقد تمركزت قواته بإحدى
الثكنات الفرنسية، وكان جل أتباعه من نواحي الأصنام ومنطقة الشراقة وبئر خادم
بأحواز العاصمة، ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى فئات الفقراء المعدومين، الذين
غرّر بهم معتمدا أسلوب الوعود الكاذبة والمغالطة، موهما إياهم بأنهم هم الفئة
الناجية التي تقع على مسؤوليتها تجديد الجزائر.
والحقيقة أن "كوبيس" هو مجرد منفذ لمخطط العدو، يضرب الثورة
من داخلها وإشعال الفتنة بين الجزائريين وتحويل الأنظار عن الثوار الحقيقيين إلى
غيرهم من الزائفين، فقد طلب من العدو الذي وافق بخبث على طلبه رفع العلم الجزائري
إلى جانب العلم الفرنسي فوق ثكنته، وانطلق في محاربة الثورة ونصب الكمائن
للمجاهدين والاشتباك معهم بقوة، وصل تعدادها خمس مائة رجل، مدعمين بعتاد معتبر
وأسلحة متطورة مدَّه بها العدو، كانت مجموعاته المقاتلة لا تعلم شيئا عما يجري، باستثناء قلة من معاونيه أعمتها الخيانة وأفسدها الطمع.
تفطن أتباعه لمكائد قائدهم الذي كان يحرضهم على قتال الجزائريين دون
الفرنسيين، وارتابوا في أمره حتى إذا تبينوا حقيقته غادروه إلى صفوف جيش التحرير، فما كان إلا أن ركب رأسه وتحالف مع العميل الخائن (باش آغا بوعلام)، وصارا
يقاتلان جنبا إلى جنب مع قوات العدو جيش التحرير وجبهة التحرير الوطنيين.
وعن نهاية هذا الخائن يقول الرائد سي لخضر بورقعة:
"رتبت مجموعة من أبطال جيش التحرير خطة سرية شديدة الإحكام لقتل
هذا العميل، بإشراف المجاهد رشيد بوشوشي وامحمد بلحاج صهر كوبيس، بعد أن جمعت كل
المعلومات عن تحرك العميل ومكانه وأنشطته وأوقات وجوده، رسمت خطة تصفيته ثم
رصد لها خيرة المجاهدين. نفذت هذه العملية يوم 16 نيسان/أبريل 1958، وقد كنا يومها في
اجتماع عقده القائد سي أمحمد حضرته بصفتي قائد الكتيبة الزبيرية المكلفة بتأمين
ذلك اللقاء المنعقد في نواحي (سد أغريب)، تحدث سي امحمد في ذلك الاجتماع عن ظروف
تشكيل فرقة كومندوس تابع للمنطقة الثانية، والأسس التي يجب أن يتم على ضوئها اختيار
عناصر الفرقة، وكان من بينهم بعض جنود كتيبتي، أمرنا القائد بالتراصف وطفق يقرأ
الرسالة الوافدة عليه من سي بونعامة، كانت قراءته تشد الأذهان لما في محتواها من
وصف دقيق لخطوات عملية القضاء على العميل الخائن وأسر جنوده وغنم أسلحته وذخيرته.
تنفسنا الصعداء لهذا النصر، ثم أمرنا بالتوجه إلى مكان العملية
الجريئة لمعاينة الحقيقة، وفي طريقنا إلى المكان التقينا بمجموعة الجنود الذين
أنجزوا العملية البطولية، بعد أن طاردتهم قوات العدو مدة ثلاثة أيام بلياليها،
لكنهم لم يستسلموا ولم يضيعوا صيدهم الثمين.
تحلقنا مرة ثانية حول القائد سي أمحمد الذي أمر بفك رباط الكيس،
والكشف عما بداخله، فإذا بالمفاجأة تهزنا جميعا؛ إنه رأس العميل كوبيس، وقد تدحرج
أرضا مضرجا بدمائه هذا الرأس الذي سكنته الخيانة وملأه الغرور وأعماه الحقد على
الشعب والثورة، هو ذا معفر بالتراب بعد أن فصلته يد الثورة العادلة عن جثته، وأراحت
منه الجماهير التي عانت من ويلاته.
علق الرأس على جذع شجرة ووقف القائد سي امحمد يخطب فينا قائلا: "إخواني
في بداية كلمتي أنبّهكم ألا تعجبوا لهذا المشهد الذي أمامكم إذا قلت لكم؛ إن صاحب
هذا الرأس المعلق مفصولا عن جثته، هو لشخص كان ذات يوم مسؤولي المباشر إبان فترة
نضالنا الوطني قبل اندلاع الثورة".
أصابتنا الدهشة جميعا لما سمعناه من فم القائد، إذ لم نكن نعلم قبل
اليوم عن "كوبيس"، إلا أنه عميل فرنسا معاد لثورة التحرير لذا وجبت
تصفيته".