قال المحل السياسي
والكاتب
المصري ماجد مندور، إن طريقة
الحكم العسكري التي ينفذها عبد الفتاح السيسي في البلاد،
منذ أكثر من عقد من الزمان، تقود إلى سيناريو مرعب، قد يصل إلى ما جرى في سوريا من
حرب أهلية.
وأضاف في مقال له بموقع
ميدل إيست آي، أن النظام العسكري لعبد الفتاح السيسي في مصر يمتاز بأمرين، الأول
هو السيطرة العسكرية الكاملة والمباشرة، دون أي حزب مدني يمكن أن يخلق توازنا
أمام العسكر، والثاني أن
القمع الذي يمارسه النظام تحول إلى ما يشبه الجائحة،
والدولة تتمسك بالعنف ضد الجماهير من باب الضرورة الأيديولوجية.
وفيما يلي النص الكامل
للمقال:
"من خلال وخز أصابعي، شيء شرير بهذه الطريقة
يأتي" ... بهذا الاقتباس من ماكبيث أبدأ كتابي الجديد.
كنت في أواخر
العشرينيات من عمري عندما وقع الانقلاب الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطياً في
مصر. بسبب الانقلاب، وبسبب ما تلاه من ارتكاب للمذابح، بت مسكوناً بالنظام العسكري
الجديد الذي راح يرسخ أقدامه هناك.
وهذا الاهتمام الذي
استمر على مدى عقد من الزمن هو الذي قادني إلى تأليف كتاب بعنوان "مصر تحت
حكم السيسي: وطن على الحافة"، الذي أقدم فيه تشريحاً لنظام لا يشبهه نظام
آخر شهدناه في تاريخ مصر الحديث.
أسعى في الكتاب لإثبات
أن حكومة عبد الفتاح السيسي تتميز عن كل ما سبقها من حكومات مستبدة من ناحيتين.
أولاً، إننا نشهد لأول
مرة في تاريخ مصر المعاصر حالة تكون البلاد فيها تحت الحكم المباشر للعسكر، دون
أي وجود لحزب مدني من شأنه أن يحدث توازناً مقابل العسكر، أو يقدم واجهة مدنية
لسلطة العسكر المستمرة في التوسع.
ثانياً، يتمسك نظام
السيسي بشكل مرضي بعنف الدولة ضد الجماهير، ليس من باب الاختيار، وإنما من باب
الضرورة الأيديولوجية، ما يحوّل القمع إلى ما يشبه الجائحة، ويجعله راسخاً بعمق
في الهيكل الأيديولوجي للنظام.
تُستمد هذه الخصائص من
هوس العسكر بتعزيز السلطة، وضمان الحيلولة دون تكرار الاحتجاجات الشعبية التي
اندلعت في عام 2011 – وهو الهوس الذي ولد نظاماً عسكرياً شديد التوحش، في وضع تظل
آفاق الإصلاح الداخلي فيه محدودة.
العسكر حراس الدولة
ورعاتها
يبدأ الكتاب بانقلاب
عام 2013 ومذابح الصيف التي وقعت من بعد. يعرف ذلك الصيف بأنه اللحظة الجوهرية
للنظام، حيث تمكن من حشد دعمي شعبي للموجة العارمة من القمع، والتي استهدفت بادئ
ذي بدء الإخوان المسلمين، ثم ما لبثت أن توسعت لتطال المعارضة العلمانية كذلك.
ما كان ذلك ليحصل لولا
انعدام كفاءة الإخوان المسلمين وتواطؤ المعارضة العلمانية، بما تتسم به من توجه
سلطوي سافر، ما سمح للعسكر ليس فقط بالتدخل، وإنما أيضاً بإنشاء سردية تفضي إلى
حالة من الهستيريا الجامحة.
تم تبرير هذه
الممارسات العنيفة ضد الجماهير من خلال نسخة شوفينية من القومية المصرية، التي
اعتبرت الشعب وحدة عضوية واحدة، واعتبرت العسكر حراساً ورعاة للشعب والدولة،
واعتبرت معارضة العسكر خيانة، وخولت العسكر بإقصاء كل من يعارضهم إلى خارج الإطار
الوطني.
برر ذلك استخدام العنف
الجامح – بمشاركة شعبية – من أجل قهر معارضي النظام الجديد، وحتى يتمكن العسكر من
المضي قدماً بتنفيذ مشروع سياسي مهيب: ألا هو العسكرة الكاملة للدولة وللاقتصاد.
تضمن ذلك إجراء عدد
كبير من التغييرات القانونية والدستورية، والتي وسعت صلاحيات الرئاسة لتتغول على
الجهاز القضائي، ولتزيل كل ما كان قد تبقى له من سمات الاستقلال. وفر الدور
الدستوري الجديد وغير المسبوق للعسكر، بكونهم حراساً ورعاة للطبيعة العلمانية
للدولة، وللحقوق الديمقراطية، أساساً قانونياً لاستمرار التدخل العسكري في السياسة.
كما وسع ذلك من
الصلاحيات القمعية للعسكر، وعزز من دور الجيش في صيانة النظام، مما حوله إلى جهاز
أمني محلي، كل همه ضمان استقرار النظام وقمع معارضيه.
تم كل ذلك باسم محاربة
من أطلق عليهم السيسي عبارة "أهل الشر"، وكذلك باسم المحافظة على الدولة.
إعادة هيكلة
الرأسمالية المصرية
لن يكتمل أي تحليل
للمشاكل التي تعاني منها مصر دون الأخذ بالاعتبار ما يتمتع به أعضاء الأجهزة
الأمنية من حصانة قانونية وهم ماضون في إغلاق الحيز العام والنكوص عن المكاسب
الديمقراطية التي تحققت في عام 2011.
لم يكن مستغرباً أن
يؤدي ذلك إلى مستوى من العنف السياسي ضد النشطاء المناصرين للديمقراطية لم تشهد
الدولة المصرية الحديثة مثيلاً له منذ تأسيسها. تم الزج بالآلاف في السجون لفترات
طويلة، وأحياناً دون محاكمات. وزادت إلى حد كبير عمليات القتل خارج إطار القانون،
كما زادت حالات الإخفاء القسري، وتكرس التعذيب كممارسة ممنهجة.
بعد سنوات من العنف
السادي والاستيلاء على الدولة، تمكن نظام السيسي العسكري من القضاء على جميع مراكز
القوة المدنية المنافسة له، وغدا المهيمن بلا منازع على السياسة في الدولة المصرية.
بمجرد أن اخترق العسكر
جميع مفاصل الدولة، من المستويات المحلية إلى الوطنية، وهندست أجهزة الأمن
الانتخابات البرلمانية، مضى النظام في تنفيذ أكثر مشاريعه طموحاً على الإطلاق، ألا
وهو إعادة هيكلة الرأسمالية المصرية.
كان الإجراء بسيطاً،
وتمثل في استخدام الدعم السخي القادم من بلدان الخليج من أجل الحصول على مزيد من
الديون من الأسواق والمنظمات المالية الدولية في سبيل تنفيذ مشاريع فخمة – يروج
لها باعتبارها ذات مردود اقتصادي مفيد – يقوم على إدارتها وتنفيذها العسكر.
سمح ذلك للجيش بأن
يوسع بشكل كبير موطئ قدمه، وبأن يخترق بعمق قطاعات الاقتصاد التي كان وجوده فيها من
قبل لا يكاد يذكر، مزاحماً بذلك القطاع الخاص، وأكبر مثال على ذلك ما حل بقطاع
صناعة الإسمنت.
طالما استمرت القروض
في التدفق، سادت مغالطة استمرار النمو المحفز بالدين. ولكن، بمجرد أن ضاقت دائرة
الاعتماد الدولي ولم تعد دول الخليج ترغب في الاستمرار في توفير الدعم السخي،
انهار النموذج، مما أفضى إلى تفجر أزمة دين كبيرة مازالت مستمرة حتى الآن.
تراجعت قيمة الجنيه
المصري بشكل هائل، ووصل التضخم إلى معدلات تاريخية غير مسبوقة، وتجمد القطاع الخاص
– وكل ذلك سببه رأسمالية الدولة المتعسكرة المرتبطة عضوياً بالنظام السياسي في
مصر، والتي يتم الحفاظ عليها من خلال ممارسة الدولة للعنف الجارف.
سيناريو مشابه
لسيناريو سوريا
إلا أن تمكن هذا
النموذج من البقاء حتى الآن هو نفسه نقطة ضعفه.
إن عدم وجود حزب حاكم،
والقضاء المبرم على المعارضة المعتدلة، يتركان النظام بلا حول ولا قوة للتعامل مع
أي اضطراب مدني محتمل.
يزيد من تعقيد هذه
الصورة جيش متعاظم النفوذ، لا يملك السيسي ضبطه، نظراً لغياب المقابل السياسي الذي
يمكن أن يكبح طموحه الشره للسلطة والفساد.
وهذا لا يقلص فقط من
إمكانية الإصلاح الذي تقوده النخبة، وإنما يزيد كذلك من احتمال اللجوء إلى القمع
الجماعي رداً على السخط الشعبي، وهو أمر وشيك الوقوع؛ بسبب ما تمر به مصر من أزمة
اقتصادية عميقة.
وبذلك يصبح السيناريو
المشابه لما حدث في سوريا أكثر احتمالاً من أي وقت مضى – وهو احتمال مخيف لبلد
يزيد تعداد سكانه على مئة مليون نسمة.
يبقى احتمال تآكل
الجهاز القمعي للنظام في مواجهة انتفاضة يشارك فيها الناس من كل الطبقات. ولكن ثمة
ما يدعو للاعتقاد بأن صغار الضباط في الجيش – أي أولئك الذين تناط بهم فعلياً
مسؤولية ممارسة القمع – تم تلقينهم سردية النظام حتى باتوا أكثر ولاء له.
هناك إمكانية إحداث
تغيير على المدى البعيد من خلال النضال المستمر من أجل فتح الحيز العام، وهو ما
يمكن أن يكسب زخماً في ظل تأرجح نموذج الحكم الذي ينتهجه النظام من أزمة إلى أخرى،
ويصبح جلياً أن هذا النموذج لا يمكن الإبقاء عليه.
طويل ذلك الدرب ومليء
بالأشواك، ولا يمكن أن ينجح إلا بعد إلحاق أضرار كبيرة بنسيج الحياة العامة في مصر.
وكما تنبأت الساحرات
في ماكبيث؛ لقد جاء الشر.